منذ أن وُلد مفهوم “الجدارة” في الفكر الإداري الحديث منتصف القرن العشرين، تغيّر المشهد جذريًا في كيفية فهم الإنسان داخل المؤسسة.
فبعد أن كانت الكفاءة تُقاس بالأقدمية أو الشهادة أو الخبرة الزمنية، جاء الفكر الجداراتي ليؤكد أن القيمة الحقيقية للعامل ليست فيما يملكه من مؤهلات، بل في الطريقة التي يُحوّل بها هذه المؤهلات إلى أداءٍ فعّالٍ ومتكررٍ ومستدامٍ في بيئة العمل.
إنّ “الجدارة” ليست مهارةً منعزلةً أو سلوكًا طارئًا، بل هي نظام تفكيرٍ وسلوكٍ واتجاهٍ معرفيٍّ متكامل
يُعبّر عن قدرة الفرد على أداء مهامه بطريقةٍ تحقق النتائج وتتماهى مع القيم المؤسسية والمعايير الأخلاقية.
وقد أثبتت التجارب المؤسسية الرائدة أنّ المؤسسات التي تتبنّى نموذجًا واضحًا للجدارات تُصبح أكثر قدرةً على التوظيف السليم، والتطوير الفعّال، والتحفيز العادل، والقيادة المستدامة.
في عالمٍ يتغير بسرعةٍ مذهلةٍ، لم تعد المعرفة وحدها كافيةً، ولا التدريب وحده مضمون النتيجة.
إنّ ما يصنع الفرق الحقيقي هو منظومة الجدارات (Competency Framework) التي تُحوّل القدرات الفردية إلى طاقةٍ مؤسسيةٍ موجّهةٍ نحو التميز.
فهي البوصلة التي تُرشد السياسات، والمِيزان الذي تُقاس به السلوكيات، واللغة المشتركة التي يتحدث بها الأداء في بيئة العمل الحديثة.
ولذلك، يُعدّ فهم الجدارات — بمفهومها وتصنيفها وطرق قياسها — المدخل الحقيقي لفهم الإنسان في الأداء،
ولبناء أنظمةٍ عادلةٍ وفاعلةٍ لتقييم الموظفين، وتخطيط التعاقب الوظيفي، وتنمية القيادات المستقبلية.
📚 فهرس المقال
1️⃣ مفهوم الجدارة: من النظرية إلى الممارسة 🧠
2️⃣ تطوّر الفكر الجداراتي في الإدارة الحديثة 📜
3️⃣ أنواع وتصنيفات الجدارات الوظيفية 🧩
4️⃣ الفرق بين الكفاءة (Competence) والجدارة (Competency) ⚖️
5️⃣ الإطار الجداراتي المؤسسي: من الرؤية إلى التطبيق 🏛️
6️⃣ قياس الجدارات: من الملاحظة إلى النمذجة 📊
7️⃣ نماذج الجدارات العالمية والخليجية 🇸🇦🇦🇪
8️⃣ الجدارات كجسرٍ بين الأداء الفردي والتميز المؤسسي 🌿
1️⃣ مفهوم الجدارة: من النظرية إلى الممارسة 🧠
يشكّل مفهوم الجدارة (Competency) أحد أعظم التحولات الفكرية في تاريخ الإدارة الحديثة، لأنه غيّر طريقة فهمنا للأداء البشري داخل المؤسسات، وانتقل بنا من منطق "ما يفعله الإنسان" إلى "ما يجعله قادرًا على الفعل".
ففي حين ركّزت النظريات الكلاسيكية على الإنجاز والنتائج، جاءت نظرية الجدارات لتُعمّق السؤال:
لماذا ينجح البعض في تحقيق الأداء المتميز رغم امتلاك الجميع المهارات نفسها؟
وما الذي يجعل الأداء مستقرًا ومتكررًا لدى الأفراد ذوي الجدارة العالية؟
من هنا وُلدت فكرة أنّ الأداء المتميز لا يعود فقط إلى المهارة أو الخبرة، بل إلى مزيجٍ متكاملٍ من المعرفة والسلوك والدافعية والقيم، أي إلى طريقة تفكير الفرد وتعامله مع المواقف، لا فقط إلى ما تعلّمه أو مارسه.
إنّ الجدارة إذًا ليست "ماذا يعرف الفرد" ولا "ماذا يفعل"، بل "كيف يُفكّر ويتصرّف في مختلف المواقف لتحقيق النتائج المرجوّة".
وقد صاغ الباحث الأمريكي ديفيد ماكليلاند (David McClelland) هذا التحول التاريخي في دراسته الشهيرة عام 1973 بعنوان “Testing for Competence Rather Than Intelligence”
حين أكّد أن النجاح في العمل لا يتنبأ به معدل الذكاء أو المؤهل العلمي، بل مستوى الجدارة الكامنة التي تُمكّن الفرد من استخدام معارفه ومهاراته في مواقف حقيقية ومعقدة.
هذه الرؤية كانت الشرارة الأولى لولادة حركةٍ فكريةٍ جديدةٍ في الإدارة والتدريب والتوظيف،
أُطلق عليها لاحقًا "إدارة الموارد البشرية القائمة على الجدارات (Competency-Based HR Management)".
🌿 من التعريف إلى الفهم التطبيقي
تنوّعت تعريفات الجدارة في الأدبيات الأكاديمية، لكنها تتلاقى حول محورٍ واحد: "القدرة المتكررة على الأداء الفعّال في سياقٍ محددٍ، اعتمادًا على مزيجٍ من المعرفة والمهارة والسلوك والدافع الداخلي".
وفيما يلي أبرز التعريفات التي رسّخت هذا المفهوم:
-
معهد CIPD البريطاني يُعرّف الجدارة بأنها:
“مجموعة من السلوكيات والمعارف والقدرات التي تُسهم في تحقيق الأداء المتفوق والمستدام في وظيفةٍ أو سياقٍ معين.”
-
منظمة SHRM الأمريكية تُعرّفها بأنها:
“القدرة المتكاملة التي تجمع بين المعرفة الفنية والمهارات الشخصية والسلوكيات التنظيمية اللازمة لأداء العمل بنجاحٍ متكرر.”
-
أما الدليل الإرشادي السعودي للائحة الأداء الوظيفي فيُعرّفها بأنها:
“مجموعة من المعارف والمهارات والسلوكيات التي تُعبّر عن قدرة الموظف على أداء مهامه بكفاءةٍ وفعاليةٍ، بما يتسق مع أهداف الجهة وقيمها المؤسسية.”
-
وورد في نظام إدارة الأداء الإماراتي أن الجدارة هي:
“مزيج من القدرات والسمات الشخصية والسلوكيات التي تُمكّن الموظف من تحقيق نتائج متميزة تسهم في إنجاز الأهداف المؤسسية.”
هذه التعريفات جميعًا تجمع على أن الجدارة ليست مجرد مهارةٍ تقنيةٍ، بل هي سلوكٌ متجذّرٌ يظهر تلقائيًا حين تُواجه المواقف المعقدة في العمل.
فالمهارة يمكن أن تُكتسب بالتدريب، لكن الجدارة تُبنى بالوعي والسلوك والممارسة المتكررة حتى تصبح طبعًا راسخًا.
⚙️ البنية الداخلية للجدارة
لفهم الجدارة على نحوٍ علميٍّ دقيق، لا بد من إدراك أن الجدارة ليست عنصرًا واحدًا بل منظومة متكاملة،
يمكن تشبيهها بالهرم الذي تتكامل طبقاته لتُنتج الأداء الفعّال.
وقد وضع سبنسر وسبنسر (Spencer & Spencer) نموذجًا شهيرًا يُعرف بـ “نموذج الجليد (Iceberg Model)”،
حيث يُقسّم الجدارة إلى مستويين:
1️⃣ المستوى الظاهر (Above the Surface):
يشمل المهارات والمعارف القابلة للملاحظة والقياس المباشر، كإجادة استخدام نظامٍ تقنيٍّ أو مهارة التواصل الكتابي.
هذه يمكن تطويرها بالتدريب.
2️⃣ المستوى العميق (Below the Surface):
ويشمل الاتجاهات، والدوافع، والقيم، وسمات الشخصية، وهي الجوانب التي يصعب ملاحظتها لكنها تُفسّر الفروق الحقيقية في الأداء بين الأفراد.
هذه لا تُدرّس بل تُنمّى عبر التجربة والتوجيه والثقافة المؤسسية.
إذًا، الجدارة ليست فقط ما نراه من أداءٍ خارجي، بل ما لا نراه من وعيٍ داخليٍّ يُحرّك ذلك الأداء ويُبقيه ثابتًا في مواجهة التحديات.
ولذلك، فإنّ المؤسسات الذكية لا تكتفي بقياس المهارات، بل تبحث في عمق الجدارة لتفهم لماذا يتصرف الأفراد كما يتصرفون.
🧠 الجدارة في الفكر المؤسسي الحديث
يُنظر اليوم إلى الجدارة بوصفها العملة المشتركة في إدارة الموارد البشرية.
فهي تُستخدم في التوظيف لاختيار الأنسب،
وفي التدريب لتحديد الاحتياجات الحقيقية،
وفي إدارة الأداء لقياس السلوك والنتائج معًا،
وفي التطوير الوظيفي لبناء المسارات المهنية،
وفي تخطيط التعاقب الوظيفي لاختيار القادة المستقبليين.
إنّ ما يجعل الجدارة بهذا القدر من الشمول هو أنها تمثل “اللغة التي تربط بين الإنسان والنظام”.
فهي تسمح للمؤسسة بترجمة رؤيتها وقيمها إلى سلوكياتٍ ملموسةٍ في الميدان،
وتتيح للقائد أن يقيس جودة الأداء لا من خلال الإنجاز الكمي فقط، بل من خلال الطريقة التي تحقق بها الإنجاز.
وقد أكّد نموذج EFQM للتميز المؤسسي على هذا المبدأ حين ربط بين الجدارة والسلوك القيادي،
مشيرًا إلى أن المؤسسات المتميزة لا تُحقق نتائجها من خلال الأفراد الأكفّاء فقط،
بل من خلال الأفراد الجديرين الذين يُجسّدون قيم المؤسسة في تصرفاتهم اليومية.
💡 من المفهوم إلى السلوك
حين نفهم الجدارة بهذا العمق، ندرك أنها ليست مفهومًا إداريًا جامدًا، بل حالة وعيٍ مستمرةٍ يعيشها الموظف في كل لحظةٍ من أدائه.
فالموظف الجدير لا يؤدي المهام فقط، بل يؤديها بوعيٍ أخلاقيٍّ، وبانضباطٍ مهنيٍّ، وبمرونةٍ فكريةٍ تمكّنه من التكيف مع المتغيرات.
إنّ الجدارة هنا تتحوّل إلى أسلوب حياةٍ وظيفيٍّ،
يُعبّر عن التزام الفرد بالتحسين الذاتي والاحتراف في كل ما يقوم به،
ويُحوّل بيئة العمل من مكانٍ للإنجاز فقط إلى منظومة تعلّمٍ ونموٍّ مستمرٍ.
وهكذا، تصبح الجدارة الجسر الذي يربط بين "الكفاءة" و"القيمة"،
وبين "المهارة" و"الهوية المهنية"،
فلا يكون الأداء مجرد وسيلةٍ للبقاء في الوظيفة،
بل وسيلةً لإثبات الانتماء والتميز والمساهمة في تحقيق رسالة المؤسسة.
2️⃣ تطوّر الفكر الجداراتي في الإدارة الحديثة 📜
لم يظهر مفهوم “الجدارة” فجأةً في الفكر الإداري الحديث، بل كان نتاجَ تراكمٍ علميٍّ طويلٍ في علم النفس، والسلوك التنظيمي، وإدارة الموارد البشرية، امتدّ عبر قرنٍ من الزمن،
تحوّل فيه التركيز من “الوظيفة” إلى “الإنسان”، ومن “الرقابة” إلى “التمكين”، ومن “النتائج” إلى “القدرات والسلوكيات التي تصنع النتائج.”
إنّ تتبّع تطوّر الفكر الجداراتي ليس مجرد استعراضٍ تاريخيٍّ، بل هو نافذةٌ لفهم كيف انتقلت الإدارة من منطق “الكفاءة التشغيلية” إلى منطق “الجدارة الإنسانية”،
وكيف تحوّلت المؤسسات من قياس “ما يُنجز” إلى بناء “من يُنجز”.
🧩 أولًا: البدايات النفسية – الجدارة في علم النفس الصناعي (1900–1950)
يعود أصل فكرة الجدارة إلى بدايات القرن العشرين مع نشوء علم النفس الصناعي والتنظيمي (Industrial Psychology)،
حين حاول العلماء تفسير الفروق الفردية في الأداء بين العاملين الذين يشغلون الوظائف نفسها.
في تلك الفترة، كانت الإدارة العلمية لتايلور (Taylor) تُركّز على الكفاءة الميكانيكية في أداء المهام،
لكن علماء النفس — مثل هوغو مونستر بيرغ (Hugo Münsterberg) وإدوارد ثورندايك (Edward Thorndike) — بدأوا يطرحون سؤالًا مختلفًا:
ما الذي يجعل بعض الأفراد يتقنون العمل بفطرةٍ وسلاسةٍ بينما يفشل آخرون رغم التدريب نفسه؟
أدّت هذه التساؤلات إلى ظهور ما عُرف آنذاك بـ “اختبارات الكفاءة المهنية (Aptitude Tests)”،
والتي حاولت قياس السمات الذهنية والسلوكية المرتبطة بالنجاح الوظيفي،
مثل الدقة والانتباه والتحمل والثبات الانفعالي.
غير أن هذه الاختبارات، رغم دقتها في قياس القدرات، لم تكن كافيةً لتفسير التميز،
فهي تُخبرنا من يمكنه أداء العمل، لكنها لا تُخبرنا من يمكنه التفوق فيه.
وهنا بدأ البحث عن مفهومٍ أعمق من المهارة، مفهومٍ يربط الأداء بالسلوك والقيم، وهو ما سيُعرف لاحقًا بـ “الجدارة.”
🧠 ثانيًا: الانعطافة الكبرى – ظهور مصطلح الجدارة في السبعينيات (1970–1985)
يُعتبر العقد السبعيني نقطة التحوّل التاريخية لمفهوم الجدارة.
ففي عام 1973، نشر عالم النفس الأمريكي ديفيد ماكليلاند (David McClelland) مقاله الشهير “Testing for Competence Rather Than Intelligence”،
الذي شكّل ثورةً فكريةً في علم النفس التربوي والإداري على حدٍّ سواء.
في هذا البحث، قدّم ماكليلاند أطروحته الجوهرية:
إنّ الذكاء الأكاديمي والمستوى التعليمي لا يتنبآن بالنجاح في الحياة المهنية.
بينما السمات السلوكية والقيم والدوافع الداخلية — التي تُشكّل الجدارة — هي المؤشر الحقيقي للتميّز المستدام.
ومن هنا، انتقل التركيز من “ما يعرفه الفرد” إلى “كيف يستخدم ما يعرفه.”
وتبعه لاحقًا علماء آخرون في جامعة هارفارد، أبرزهم ريتشارد بوياتزيس (Richard Boyatzis)،
الذي نشر عام 1982 كتابه المرجعي “The Competent Manager”،
وفيه صنّف الجدارات الإدارية إلى مجموعاتٍ (مثل القيادة، الاتصال، إدارة التغيير)،
ووضع أول نموذجٍ متكاملٍ لقياس الجدارات عبر الملاحظة والسلوك الفعلي، لا من خلال السيرة الذاتية أو المؤهل.
لقد مثّل عمل بوياتزيس نقلةً من “النظرية النفسية” إلى “المنهج الإداري التطبيقي”،
وجعل الجدارة لغةً مشتركةً بين الإدارة والتنمية البشرية.
⚙️ ثالثًا: مرحلة النمذجة المؤسسية – الجدارة في إطار المنظمات (1985–2000)
مع نهاية الثمانينيات، انتقلت الجدارة من المختبرات النفسية إلى أرض الواقع المؤسسي.
فبدأت الشركات الكبرى — مثل جنرال إلكتريك (GE) وشل (Shell) وIBM — في بناء أطر الجدارات المؤسسية (Competency Frameworks)
التي تُحدّد السلوكيات والمعارف المطلوبة لكل وظيفةٍ ومستوى قيادي.
وفي عام 1993، قدّم سبنسر وسبنسر (Spencer & Spencer) كتابهما الشهير “Competence at Work”
الذي أصبح المرجع الأوسع انتشارًا في إدارة الجدارات.
في هذا الكتاب، وضعا نموذج “الهرم الجداراتي” الذي صنّف القدرات إلى خمس طبقاتٍ متصاعدةٍ:
1️⃣ الدوافع (Motives)
2️⃣ السمات الشخصية (Traits)
3️⃣ المعتقدات والقيم (Self-Concept)
4️⃣ المعارف (Knowledge)
5️⃣ المهارات (Skills)
وأكد المؤلفان أنّ المستويات الثلاثة الأولى (الدوافع، السمات، المعتقدات) هي “الجوهر العميق للجدارة”،
وهي التي تُميّز الأداء المتفوق عن الأداء المقبول.
في هذه الفترة، تبنّت العديد من الحكومات والمؤسسات الدولية نموذج الجدارات كإطارٍ لتطوير الموارد البشرية،
فأدخلته منظمة العمل الدولية (ILO) ضمن تصنيفاتها المهنية،
واستخدمته مؤسسات التعليم والتدريب المهني في تقييم البرامج والمخرجات.
🏛️ رابعًا: مرحلة النضج الإداري – من الجدارات الفردية إلى الجدارات المؤسسية (2000–2010)
مع مطلع الألفية الجديدة، تطور الفكر الجداراتي من التركيز على “الفرد” إلى التركيز على “المؤسسة.”
فلم يعد الهدف بناء موظفٍ كفءٍ فقط، بل بناء مؤسسةٍ قائمةٍ على الكفاءات (Competency-Based Organization).
وفي هذا السياق، بدأت المنظمات تُميّز بين ثلاثة مستوياتٍ للجدارات:
1️⃣ الجدارات الجوهرية (Core Competencies): التي تُعبّر عن هوية المؤسسة وثقافتها وقيمها الأساسية.
2️⃣ الجدارات الوظيفية (Functional Competencies): التي تُحدّد متطلبات النجاح في كل وظيفةٍ أو تخصصٍ.
3️⃣ الجدارات القيادية (Leadership Competencies): التي تُميّز القادة القادرين على توجيه الآخرين وتحقيق الرؤية.
وقد ساعد هذا التقسيم المؤسسات على دمج نظام الجدارات في جميع مراحل دورة حياة الموظف:
من الاستقطاب، إلى التدريب، إلى التقييم، إلى التطوير المهني، إلى التخطيط للتعاقب الوظيفي.
وفي هذه المرحلة، بدأت المنظمات الدولية — مثل CIPD البريطانية وSHRM الأمريكية وEFQM الأوروبية —
بتوحيد المصطلحات وتطوير نماذج مرجعيةٍ معياريةٍ لتصميم “إطارات الجدارات (Competency Models)”
التي تتماشى مع استراتيجيات المؤسسات وأهدافها طويلة المدى.
🇸🇦🇦🇪 خامسًا: مرحلة التوطين والتكامل الخليجي (2010–الآن)
مع تصاعد جهود التحول الوطني في دول الخليج العربي،
برزت الحاجة إلى أنظمة أداءٍ تستند إلى الجدارات، تُعزّز العدالة وتُحقق التميّز المؤسسي وتُوجّه التطوير المهني.
ففي المملكة العربية السعودية، أُدرج مفهوم الجدارات رسميًا في الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي (2017)،
وفي إطار الكفاءات التخصصية والسلوكية (2020) الصادر عن وزارة الموارد البشرية،
الذي صنّف الجدارات إلى ثلاث مجموعاتٍ رئيسيةٍ:
-
الجدارات السلوكية (Behavioral Competencies)
-
الجدارات الفنية (Technical Competencies)
-
الجدارات القيادية (Leadership Competencies)
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، أصبح نظام إدارة الأداء الحكومي نموذجًا متقدمًا في العالم العربي،
إذ اعتمد “إطار الكفاءات الحكومية (UAE Government Competency Framework)” الذي يربط الجدارات بالقيم الوطنية مثل الريادة والابتكار والسعادة.
ويتضمن الإطار الإماراتي مستوياتٍ سلوكيةً دقيقةً لكل جدارةٍ،
ويُستخدم في التقييم، والتدريب، والترقيات، وتخطيط المسار الوظيفي.
هذا التوجّه الخليجي جعل من الجدارات الركيزة المركزية في منظومات الأداء المؤسسي الحكومي،
إذ أصبح التقييم السلوكي جزءًا لا يتجزأ من تقييم الأداء الكمي،
لتتحقق العدالة الشاملة التي تجمع بين الإنجاز والسلوك، وبين النتائج والقيم.
🧠 سادسًا: التحول المعاصر – من الجدارات الثابتة إلى الجدارات الديناميكية (Dynamic Competencies)
في العقد الأخير، ومع الثورة الرقمية والتحول المؤسسي المتسارع،
لم تعد الجدارات تُفهم بوصفها صفاتٍ ثابتةٍ، بل بوصفها قدراتٍ متجددةٍ قابلةٍ للتطور المستمر.
ظهر ما يُعرف اليوم بـ “الجدارات المستقبلية (Future Skills)” و“الجدارات الرقمية (Digital Competencies)”
التي تُمكّن الأفراد من التكيف مع بيئات العمل المرنة، والذكاء الاصطناعي، والعمل الهجين.
إنّ الجدارة الحديثة ليست “امتلاك مهارةٍ واحدةٍ”، بل القدرة على التعلم المستمر، والتكيّف، والتفكير التحليلي، والتعاون العابر للتخصصات.
وهذا ما يُشير إليه خبراء CIPD بمفهوم “Adaptive Competence”،
أي الجدارة التي لا تكتفي بالمعرفة بل تُطوّر ذاتها استجابةً للتغير.
وفي هذا الإطار، أصبحت الجدارات ليست فقط وسيلةً لإدارة الأداء، بل أداةً لقيادة التحول المؤسسي (Transformation Enabler).
فهي تمكّن المؤسسة من إعادة تصميم وظائفها ومهاراتها المستقبلية باستمرار،
وتُحولها من مؤسسةٍ تتفاعل مع التغيير إلى مؤسسةٍ تصنعه.
🌿 سابعًا: خلاصة التحوّل الفلسفي
من خلال هذا التطور التاريخي الممتد على مدى قرنٍ من الزمان،
يمكن تلخيص رحلة مفهوم الجدارة في ثلاث محطاتٍ فلسفيةٍ كبرى:
1️⃣ الجدارة كصفةٍ نفسية (1900–1970):
تُركّز على السمات الفردية والقدرات الذهنية والسلوكية.
2️⃣ الجدارة كسلوكٍ إداري (1970–2000):
تُترجم السمات إلى سلوكياتٍ قابلةٍ للملاحظة والتحليل داخل المؤسسة.
3️⃣ الجدارة كمنظومةٍ مؤسسية (2000–الآن):
تُستخدم لبناء الثقافة المؤسسية، وإدارة الأداء، وتوجيه الاستراتيجيات الوطنية للتطوير والتميز.
وبهذا، لم يعد مفهوم الجدارة مجرد أداةٍ لتقييم الموظف،
بل أصبح منهجًا فلسفيًا لإدارة الإنسان باعتباره المورد الأكثر ذكاءً واستدامةً في عصر المعرفة.
3️⃣ أنواع وتصنيفات الجدارات الوظيفية 🧩
يُعدّ تصنيف الجدارات من أهم المراحل المفصلية في بناء نظام إدارة الأداء المؤسسي، لأنه يُحوّل مفهوم الجدارة من فكرةٍ عامةٍ إلى منظومةٍ علميةٍ قابلةٍ للقياس والمقارنة والتطوير.
فلا يمكن لأي مؤسسةٍ أن تدير أداءها بفعاليةٍ ما لم تُحدّد بوضوحٍ ما الذي تعتبره "جدارةً" في سلوك موظفيها، وما السلوكيات والمعارف التي تُجسّد تلك الجدارة في الواقع اليومي.
لقد تطور تصنيف الجدارات عبر العقود تبعًا للفكر الإداري والمدرسة التي تتبناها المؤسسة — سواء كانت نفسية، أو سلوكية، أو استراتيجية، أو قيادية —
لكن معظم الأطر الحديثة، سواء العالمية أو الخليجية، تتفق على أنّ الجدارات تنقسم إلى ثلاثة مستوياتٍ رئيسيةٍ تمثل معًا المنظومة المتكاملة للأداء الإنساني:
الجدارات الجوهرية، والجدارات الوظيفية، والجدارات القيادية.
وتتفرع عنها تصنيفات فرعية مثل الجدارات السلوكية، والتقنية، والمعرفية، والمستقبلية.
🧭 أولًا: الجدارات الجوهرية (Core Competencies) – الهوية المؤسسية الحية
تُعدّ الجدارات الجوهرية بمثابة "الحمض النووي (DNA)" للمؤسسة،
فهي التي تُعبّر عن شخصيتها وثقافتها وقيمها، وتُوحّد سلوك جميع العاملين تحت مظلةٍ واحدةٍ من الفهم والانتماء.
هذه الجدارات لا تخص وظيفةً معينة، بل تُشكّل السلوك المشترك الذي يُنتظر من جميع الموظفين، بغض النظر عن موقعهم الإداري أو مهامهم الفنية.
يُعرّفها معهد CIPD البريطاني بأنها:
“مجموعة من السلوكيات والقيم التي تُجسّد ثقافة المؤسسة، وتشترك فيها جميع الأدوار باعتبارها أساس التميز المؤسسي.”
وفي النظام الإماراتي لإدارة الأداء الحكومي،
تُعرف الجدارات الجوهرية بأنها:
“مجموعة من القدرات والسلوكيات التي تُعبر عن القيم الوطنية والمهنية المشتركة، وتُسهم في تحقيق الرؤية العامة للحكومة.”
أما في إطار الكفاءات السلوكية السعودي (2020)،
فقد تم تحديدها ضمن محور “الجدارات العامة المشتركة” وتشمل مثلًا:
-
العمل بروح الفريق.
-
الالتزام بأخلاقيات الوظيفة العامة.
-
التواصل الفعّال.
-
التفكير التحليلي.
-
التكيف مع التغيير.
هذه الجدارات تمثل الحد الأدنى المطلوب من السلوك المهني الإيجابي الذي يُتوقع أن يُمارسه جميع الموظفين كمعيارٍ للأداء المتزن والمنضبط.
وخطورة غيابها لا تكمن في ضعف الأداء الفني، بل في انهيار التماسك الثقافي للمؤسسة.
فالمؤسسة التي لا تمتلك جداراتٍ جوهريةٍ واضحةٍ تُشبه جسدًا بلا هويةٍ قيميةٍ،
تتحرك ميكانيكيًا دون روحٍ تجمعها.
⚙️ ثانيًا: الجدارات الوظيفية (Functional Competencies) – التميز المهني في الممارسة
تمثل الجدارات الوظيفية العمود الفقري للعمل اليومي،
فهي التي تُحدد المعارف والمهارات والسلوكيات الفنية المطلوبة للنجاح في وظيفةٍ محددةٍ.
وهي تختلف من وظيفةٍ إلى أخرى تبعًا لطبيعتها ومسؤولياتها الفنية.
يُعرّفها معهد SHRM الأمريكي بأنها:
“القدرات الفنية والمعرفية والسلوكية المتخصصة التي تُمكّن الفرد من أداء متطلبات وظيفته المحددة بكفاءةٍ وفاعلية.”
وفي الدليل الإرشادي السعودي للائحة الأداء الوظيفي،
تُعرف بأنها:
“مجموعة القدرات والمهارات الفنية المتخصصة المرتبطة بطبيعة الوظيفة، والتي تُسهم في تحقيق أهداف الجهة.”
أما في نظام الأداء الإماراتي،
فقد تم تصنيفها ضمن "الجدارات التخصصية"،
وتشمل مثلًا:
-
التحليل المالي.
-
تصميم السياسات.
-
التخطيط التشغيلي.
-
إدارة المشروعات.
-
إعداد التقارير الفنية.
تتجسد أهمية الجدارات الوظيفية في كونها المعيار الذي تُقاس به كفاءة الأداء الفعلي على أرض الواقع.
فهي تمثل القدرة على التطبيق العملي للمعارف النظرية،
وتُترجم المهارة إلى إنجازٍ ملموسٍ يُمكن ملاحظته وتوثيقه.
إنّ الموظف الذي يمتلك جداراتٍ وظيفيةٍ قويةٍ هو الذي يُتقن تفاصيل عمله دون الحاجة إلى رقابةٍ دائمةٍ، ويُسهم في تحسين العمليات عبر وعيه المهني العالي.
ولهذا السبب، يُعدّ تقييم الجدارات الوظيفية شرطًا أساسيًا في الترقية والتطوير المهني في الأنظمة الخليجية،
إذ لا يمكن الانتقال إلى مستوى إداري أعلى ما لم يثبت الموظف كفاءته الفنية في مستواه الحالي.
🧠 ثالثًا: الجدارات القيادية (Leadership Competencies) – من الإدارة إلى الإلهام
تُشكّل الجدارات القيادية قمة الهرم الجداراتي،
فهي التي تُعبّر عن القدرات السلوكية والمعرفية والوجدانية التي تجعل القائد قادرًا على توجيه الآخرين وتحفيزهم وتحقيق نتائج مؤسسية من خلالهم.
يُعرّفها CIPD بأنها:
“القدرات التي تمكّن الأفراد في مواقع القيادة من التأثير الإيجابي في الآخرين، وبناء فرق عملٍ عالية الأداء، وتحقيق نتائج استراتيجية.”
وفي إطار الكفاءات القيادية الإماراتي،
تُحدّد ضمن خمسة محاور رئيسيةٍ هي:
1️⃣ التفكير الاستراتيجي.
2️⃣ تمكين الفرق وتحفيزها.
3️⃣ صنع القرار المبني على البيانات.
4️⃣ قيادة التغيير والابتكار.
5️⃣ تمثيل القيم الحكومية في السلوك.
أما في إطار الكفاءات السعودي،
فقد تم اعتماد ست جداراتٍ قياديةٍ جوهريةٍ، منها:
-
القيادة بالقدوة.
-
تطوير الآخرين.
-
التوجيه الاستراتيجي.
-
صنع القرار الفعّال.
-
تمكين الفريق.
-
إدارة الأداء المؤسسي.
هذه الجدارات لا تتعلق بالمناصب فقط، بل بأسلوب القيادة ذاته.
فقد يكون الموظف قائدًا في سلوكه وإن لم يحمل لقبًا رسميًا،
حين يُلهم زملاءه، ويُساعدهم على النموّ، ويُجسد قيم المؤسسة في أدائه اليومي.
من هنا، يُنظر إلى الجدارات القيادية كأداةٍ لتحديد القادة المحتملين (Leadership Pipeline)،
وكأساسٍ للتخطيط للتعاقب الوظيفي (Succession Planning)،
حيث تُصبح الجدارة معيارًا لاختيار القادة المستقبليين بدلًا من الأقدمية أو العلاقات.
🧩 رابعًا: الجدارات السلوكية (Behavioral Competencies) – الوجه الإنساني للأداء
تُعدّ الجدارات السلوكية الجسر الذي يربط بين الأداء الفني والفعالية الإنسانية،
فهي التي تُعبّر عن الطريقة التي يُنفّذ بها الموظف مهامه وكيف يتعامل مع زملائه، وكيف يُظهر قيم المؤسسة في سلوكه اليومي.
تُعرّفها EFQM بأنها:
“السلوكيات المرئية التي تُظهر التزام الفرد بقيم المؤسسة وثقافتها أثناء تأدية مهامه اليومية.”
وفي الدليل السعودي للجدارات السلوكية،
تُصنّف إلى خمس فئاتٍ رئيسيةٍ:
1️⃣ التواصل الفعّال.
2️⃣ العمل الجماعي.
3️⃣ التوجيه نحو النتائج.
4️⃣ التفكير التحليلي والإبداعي.
5️⃣ التكيف والمرونة.
بينما يُركّز الإطار الإماراتي على سلوكياتٍ إضافيةٍ مثل:
-
روح الريادة.
-
خدمة المتعاملين.
-
النزاهة والشفافية.
-
السعادة والإيجابية في بيئة العمل.
الجدارات السلوكية إذًا هي الترجمة الأخلاقية والثقافية للأداء الفني،
لأنها تُظهر كيف يعيش الموظف القيم المؤسسية في سلوكه اليومي،
وهي ما يجعل الأداء “إنسانيًا” لا ميكانيكيًا.
ولهذا، تعتمد أنظمة الأداء الخليجية تقييمًا مزدوجًا:
أداءً كميًا يُقاس بالمؤشرات، وأداءً سلوكيًا يُقاس بالجدارات.
وإذا تراجع أيٌّ منهما، فإن الأداء الكلي يُعدّ غير مكتمل.
⚙️ خامسًا: الجدارات التقنية والمعرفية (Technical and Cognitive Competencies)
في عالمٍ رقميٍّ سريع التغيّر، أصبحت الجدارات التقنية والمعرفية من أكثر الأنواع تأثيرًا في قابلية الموظف للبقاء والنموّ.
فهي لا تتعلق بامتلاك المعرفة فحسب، بل بالقدرة على استخدام التكنولوجيا والبيانات لتحسين الأداء واتخاذ القرار.
وتشمل هذه الجدارات مجالاتٍ مثل:
-
تحليل البيانات (Data Analytics).
-
إدارة الأنظمة الرقمية (Digital Systems).
-
التفكير النقدي وحل المشكلات المعقدة.
-
إدارة المعرفة.
-
التعلم الذاتي المستمر.
وفي الأنظمة الخليجية الحديثة، أُدرجت هذه الجدارات تحت ما يُعرف بـ “الجدارات المستقبلية (Future Competencies)”،
وهي القدرات التي تُهيئ القوى العاملة لمتطلبات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي.
لقد أصبحت المؤسسات التي تتبنى هذه الجدارات قادرةً على مواجهة المستقبل بثقةٍ،
لأنها تبني موظفين مرنين قادرين على إعادة تشكيل مهاراتهم (Reskilling) باستمرار،
بدلًا من الاعتماد على مؤهلاتٍ جامدةٍ سرعان ما تفقد قيمتها في سوق العمل.
🧭 سادسًا: التكامل بين الجدارات
رغم تنوّع أنواع الجدارات، فإنها لا تعمل بمعزلٍ عن بعضها،
بل تُشكّل معًا منظومةً متكاملةً تُعرف بـ “نظام الجدارة المتكامل (Integrated Competency System).”
في هذا النظام، تُغذي الجدارات الجوهرية السلوك المؤسسي،
وتُترجم الجدارات الوظيفية المهارات الفنية،
وتُوجّه الجدارات القيادية السلوك الاستراتيجي،
وتُعطي الجدارات التقنية والمعرفية القدرة على الابتكار والتحديث.
هذا التكامل هو الذي يصنع الفارق بين المؤسسة التي تُقيّم موظفيها بالأرقام،
والمؤسسة التي تفهم موظفيها كبشرٍ متكاملين يحملون قيمًا ومعارف وسلوكياتٍ تصنع الأداء المستدام.
🌿 سابعًا: الرؤية التحليلية الختامية
إنّ تصنيف الجدارات ليس تمرينًا تنظيميًا، بل إعلان هويةٍ فكريةٍ للمؤسسة.
فكل مؤسسةٍ تُعرّف الجدارات وفق رؤيتها لما يعنيه “الأداء الجيد”،
وبذلك تُحدّد بشكلٍ غير مباشرٍ ما نوع الإنسان الذي تريد أن تبنيه.
فالمؤسسات التي تُركّز على الجدارات السلوكية تبني ثقافةَ التعاون والالتزام،
والتي تُركّز على الجدارات القيادية تُنشئ قادةً تحويليين،
والتي تُطوّر الجدارات التقنية تُهيّئ نفسها للمستقبل.
ومن ثم، يمكن القول إنّ الجدارات ليست فقط وسيلةً لإدارة الأداء، بل أداةٌ لتشكيل الهوية المؤسسية وبناء ثقافة العمل.
إنها اللغة التي تتحدث بها القيم داخل المؤسسة،
والجسر الذي يربط بين رؤية الإدارة العليا وسلوك الموظف في الميدان،
والأساس الذي يُبنى عليه التميز المؤسسي المستدام.
4️⃣ الفرق بين الكفاءة (Competence) والجدارة (Competency) ⚖️
يُعدّ التمييز بين مصطلحي الكفاءة (Competence) والجدارة (Competency) من القضايا المفصلية التي أثارت جدلًا طويلًا في أدبيات الإدارة والموارد البشرية، نظرًا لتقاطع المفهومين وتشابههما في الاستخدام العملي.
فكثيرٌ من المؤسسات والباحثين يستخدمون المصطلحين بمعنى واحد، في حين أنّ الدقة العلمية تُظهر أن بينهما فرقًا جوهريًا في المنهج، والغاية، والعمق التحليلي، وطبيعة القياس.
إنّ الفهم الصحيح لهذا الفرق لا يُسهم فقط في دقة المفاهيم، بل يُؤثر مباشرةً في تصميم أنظمة إدارة الأداء، وتحديد الاحتياجات التدريبية، وصياغة المسارات المهنية، وبناء مؤشرات الجدارات السلوكية في بيئة العمل.
فالكفاءة والجدارة وجهان لعملة الأداء، لكن أحدهما يركّز على “ما يُنجز”، والآخر يركّز على “كيف يُنجز”.
وهنا يكمن جوهر التمييز.
🧩 أولًا: الجذور التاريخية للمفهومين
ظهر مفهوم الكفاءة (Competence) قبل مفهوم الجدارة (Competency) بعقودٍ طويلةٍ،
ففي الخمسينيات والستينيات الميلادية، كان الحديث في ميدان الإدارة والتدريب يدور حول “الكفاءة المهنية” (Occupational Competence)،
التي كانت تُعرّف بأنها:
“القدرة على أداء مهمةٍ محددةٍ وفق معايير الجودة والإنتاج المطلوبة.”
هذا المفهوم نشأ من المدرسة الصناعية التي كانت ترى الإنسان جزءًا من الآلة الإنتاجية،
وكان الهدف منه ضبط الأداء الفني وتحديد الحد الأدنى من المهارات المطلوبة لإنجاز العمل.
بمعنى آخر، كانت الكفاءة تُقاس بالمخرجات القابلة للقياس الكمي — كعدد الوحدات المنتجة، أو دقة التقارير، أو سرعة الإنجاز.
ثمّ جاءت السبعينيات،
حين أدخل عالم النفس ديفيد ماكليلاند مفهوم الجدارة (Competency) الذي تجاوز فكرة “القدرة الفنية” إلى “القدرة السلوكية والتحفيزية والمعرفية.”
فبينما كانت الكفاءة تنظر إلى ما يستطيع الفرد فعله،
كانت الجدارة تسأل: لماذا وكيف يفعله؟
أي أنّ الكفاءة ترتبط بالنتيجة، والجدارة ترتبط بالعملية العقلية والسلوكية التي أنتجت تلك النتيجة.
⚙️ ثانيًا: المنظور التحليلي – الفرق في البنية الفكرية
يُمكن القول إنّ الفرق بين المصطلحين هو الفرق بين الأداء الميكانيكي والأداء الواعي.
-
الكفاءة (Competence):
تركز على تلبية متطلبات الوظيفة في حدها الأدنى.
تهتم بالجانب الفني والمعياري.
تُقاس بمدى إتقان الموظف لمهام محددةٍ ضمن معايير الجودة والزمن.
تستخدم عادةً في البيئات التشغيلية والمهنية التي تتطلب أداءً نمطيًا ثابتًا (مثل المهام الإجرائية أو الفنية). -
الجدارة (Competency):
تتجاوز الإتقان الفني لتشمل السلوكيات، والقيم، والدوافع، والقدرة على التكيف واتخاذ القرار في المواقف الجديدة.
تُعبّر عن الأداء المتفوق والمستدام، لا الأداء الكافي فقط.
تُستخدم لتمييز العامل المتميز عن العامل المقبول، ولتطوير القيادة والابتكار والتميز المؤسسي.
بهذا المعنى، يمكن تشبيه الكفاءة بـ “الحد الأدنى للأداء المطلوب”،
في حين تمثل الجدارة “الحد الأعلى للأداء المتميّز.”
🧠 ثالثًا: في اللغة النظرية – الفرق بين Competence وCompetency
في الأدبيات الإنجليزية المتخصصة (CIPD – SHRM – OECD – ILO)،
يُستخدم مصطلح Competence عادةً في السياقات التقنية والمهنية،
بينما يُستخدم Competency في السياقات السلوكية والإدارية والقيادية.
| البعد المقارن | الكفاءة (Competence) | الجدارة (Competency) |
|---|---|---|
| المنطلق | المهمة (Task-based) | السلوك (Behavior-based) |
| الهدف | الإتقان الوظيفي | الأداء المتميّز |
| المجال | فني/تشغيلي | إداري/سلوكي |
| الأساس | المعرفة والمهارة | القيم والدوافع والسلوك |
| القياس | كمّي (نتائج وأرقام) | نوعي (سلوكيات ومؤشرات) |
| المدى الزمني | قصير المدى (وظائف محددة) | طويل المدى (نمو مستدام) |
| الصلة بالمؤسسة | يضمن الجودة التشغيلية | يُحقق التميز المؤسسي |
من هنا، يتضح أن الكفاءة تُجيب عن سؤال: "هل يستطيع الموظف أداء عمله؟"
بينما الجدارة تُجيب عن سؤال: "كيف يؤدي الموظف عمله؟ وما الذي يجعله متميزًا فيه؟"
🧭 رابعًا: الفرق في التطبيق العملي داخل أنظمة إدارة الأداء
في الواقع العملي، تتكامل الكفاءة والجدارة داخل دورة الأداء الوظيفي،
لكن لكلٍّ منهما وظيفةٌ محددةٌ في مراحل التقييم المختلفة:
1️⃣ في مرحلة التخطيط:
تُستخدم الكفاءات لتحديد المهام الأساسية والمؤشرات الكمية المرتبطة بها.
2️⃣ في مرحلة التنفيذ:
تُظهر الكفاءات قدرة الموظف على الالتزام بالمعايير الفنية والإجرائية المطلوبة.
3️⃣ في مرحلة المراجعة:
تظهر الجدارات في السلوكيات والتفاعلات والمبادرات والتحفيز الذاتي.
4️⃣ في مرحلة التقييم السنوي:
تُقاس الكفاءة بالأرقام والنتائج،
وتُقاس الجدارة بالملاحظة والسلوك والسمات القيادية والقيمية.
إنّ المدير الواعي لا يقيّم موظفيه فقط بما أنجزوه، بل بالطريقة التي أنجزوا بها أعمالهم،
فربّ أداءٍ عالٍ من شخصٍ لا يمتثل لقيم المؤسسة، فيُسبب ضررًا ثقافيًا يفوق أي إنجازٍ رقميٍّ.
لذلك، لا بدّ من الموازنة بين “الكفاءة الفنية” و“الجدارة السلوكية” لضمان عدالة التقييم وموضوعيته.
🧩 خامسًا: في الإطار الخليجي – توظيف المفهومين في الأنظمة الوطنية
اعتمدت الأنظمة الخليجية — السعودية والإماراتية — تمييزًا واضحًا بين الكفاءة والجدارة في أطر الأداء المؤسسي:
🔹 في المملكة العربية السعودية:
حدد الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي (2017) أن التقييم يتكوّن من جزأين متكاملين:
-
الأداء الوظيفي (Performance): يُقاس من خلال مؤشرات الأداء المرتبطة بالكفاءة الفنية.
-
السلوكيات الوظيفية (Behavior): تُقاس من خلال مؤشرات الجدارات السلوكية والقيادية.
وهذا التكامل يعكس رؤية وزارة الموارد البشرية بأن الأداء لا يُختزل في النتائج فقط، بل في الطريقة التي تُحقق بها.
🔹 وفي دولة الإمارات العربية المتحدة:
يعتمد نظام إدارة الأداء الحكومي نموذجًا ثلاثي الأبعاد يضم:
-
الأهداف المؤسسية (Results).
-
السلوكيات والجدارات (Behavior & Competency).
-
التطوير المهني (Development).
بحيث يُعطي وزنًا متوازنًا للنتائج والجدارات لضمان العدالة والموضوعية.
وفي كلا النظامين، تُستخدم الكفاءة لتحديد مستوى الإتقان المهني،
بينما تُستخدم الجدارة لتقييم مستوى النضج السلوكي والثقافي.
⚖️ سادسًا: من الفارق إلى التكامل
رغم هذا التمايز، إلا أنّ الكفاءة والجدارة لا ينبغي النظر إليهما كبديلين متنافسين،
بل كعنصرين متكاملين يشكلان معًا معادلة الأداء المتوازن.
فالكفاءة تضمن جودة الإنجاز، والجدارة تضمن استدامته،
والجمع بينهما هو ما يُنتج “الموظف الكامل” القادر على العمل بإتقانٍ والتفاعل بقيم.
إنّ الكفاءة دون جدارةٍ تُنتج أداءً آليًا بلا روح،
والجدارة دون كفاءةٍ تُنتج حماسًا بلا إنتاج.
أما حين تتكاملان، تنشأ بيئة عملٍ يُقاس فيها النجاح لا فقط بما أُنجز،
بل أيضًا بمنهجية الإنجاز، وأثره، وأخلاقيته، واستدامته.
🌿 سابعًا: الرؤية التحليلية الختامية
يُمكن القول إنّ الكفاءة والجدارة تمثلان البعدين الأفقي والعمودي للأداء المؤسسي.
فالكفاءة هي الامتداد الأفقي الذي يُغطي نطاق المهام والوظائف،
أما الجدارة فهي الامتداد العمودي الذي يغوص في عمق السلوكيات والقيم التي تحرك الأداء.
حين تبني المؤسسة نظامها على الكفاءة فقط، فهي تُدير العمل.
وحين تبنيه على الجدارة فقط، فهي تُحفّز الأفراد.
لكن حين تجمع بينهما، فهي تبني الإنسان والنظام معًا.
ذلك هو جوهر التميز المؤسسي الذي تُنادي به النماذج العالمية مثل EFQM وISO 30414،
وتسير نحوه بوعيٍ الأنظمة الخليجية الحديثة في رؤيتها للتحول الوطني،
حيث يصبح الأداء انعكاسًا للقدرة والقيمة، وللمهارة والهوية في آنٍ واحد.
5️⃣ الإطار الجداراتي المؤسسي: من الرؤية إلى التطبيق 🏛️
يُعدّ الإطار الجداراتي المؤسسي (Institutional Competency Framework) الركيزة المنهجية التي تُحوِّل مفهوم “الجدارة” من مجرد فكرةٍ نظريةٍ إلى منظومةٍ تشغيليةٍ متكاملةٍ تُوجِّه الأداء، وتُوحِّد السلوك، وتربط بين الإنسان والنظام في مسارٍ واحدٍ من الفهم والعمل والتميّز.
فمن دون إطارٍ منهجيٍّ واضحٍ للجدارات، تبقى السلوكيات المؤسسية موزعةً في الوعي الفردي، غير قابلةٍ للقياس أو الإدارة أو التطوير،
بينما يُحوِّل الإطار الجداراتي هذه السلوكيات إلى لغةٍ تنظيميةٍ مشتركة،
تُعرِّف المؤسسة من الداخل، وتُوحِّدها حول ما تعتبره أداءً فعّالًا، وسلوكًا مهنيًا رشيدًا، وقيمةً مضافةً في بيئة العمل.
🧭 أولًا: المفهوم العام للإطار الجداراتي
الإطار الجداراتي المؤسسي هو وثيقةٌ مرجعيةٌ استراتيجيةٌ تُحدّد الجدارات المطلوبة في مختلف المستويات الوظيفية داخل المؤسسة،
وتُعرّفها تعريفًا وصفيًا وسلوكيًا دقيقًا،
وتبيّن السلوكيات المرغوبة وغير المرغوبة، ومستويات الإتقان المتوقعة لكل جدارة،
وتربطها مباشرةً بأهداف المؤسسة وقيمها ورسالتها.
بمعنى آخر، هو خريطةُ السلوك المؤسسي التي تُرشد الموظف كيف يُفكّر ويتصرّف ويتعامل ليُجسّد ثقافة المؤسسة في أدائه اليومي.
يُشبّه الخبراء هذا الإطار بـ “النظام العصبي الإداري” للمؤسسة،
لأنه ينقل نبض القيم إلى كل عضوٍ فيها،
ويُحوّل المبادئ التجريدية (كالنزاهة، والمسؤولية، والتميّز) إلى ممارساتٍ ملموسةٍ قابلةٍ للملاحظة والقياس.
فبدلًا من أن يُترك السلوك للانطباعات الفردية أو التقديرات الذاتية،
يُصبح الأداء السلوكي جزءًا من النظام المؤسسي المقنن،
تُبنى عليه قرارات التوظيف، والتقييم، والتطوير، والترقية، والمكافآت.
⚙️ ثانيًا: الغاية من بناء الإطار الجداراتي
ليست الغاية من الإطار الجداراتي مجرد وصفٍ للسلوكيات المطلوبة،
بل إعادة تصميم فلسفة إدارة الموارد البشرية في المؤسسة على أساس الجدارات.
فالأنظمة التقليدية تُدير الموارد البشرية عبر المهام والوظائف،
بينما الأنظمة الحديثة تُديرها عبر الجدارات والسلوكيات،
وهذا هو التحول الحقيقي من “إدارة الأفراد” إلى “قيادة الأداء المؤسسي.”
إنّ الغاية الجوهرية من الإطار الجداراتي تتجلى في:
1️⃣ توحيد اللغة المؤسسية للأداء:
بحيث يتحدث جميع الموظفين — من أصغر موظف إلى أعلى قيادة — بلغةٍ واحدةٍ عند وصف السلوك المرغوب.
فبدلًا من أحكامٍ عامةٍ مثل “موظف ممتاز” أو “سلوك إيجابي”،
يتم تحديد معايير دقيقة: “يُظهر الجدارة في التواصل الفعّال من خلال الإصغاء، والتعبير البنّاء، وتبادل التغذية الراجعة.”
2️⃣ تحقيق العدالة في التقييم:
إذ يضمن الإطار أن تُقيَّم جميع الوظائف وفق نفس المعايير السلوكية،
فيزول التحيّز الشخصي، ويُستبدل بالقياس الموضوعي المعتمد على مؤشراتٍ سلوكيةٍ قابلةٍ للملاحظة.
3️⃣ توجيه التدريب والتطوير:
فبدلًا من برامج تدريبٍ عامةٍ أو عشوائية،
يُوجَّه التدريب إلى الجدارات التي ثبت ضعفها في التقييم،
مما يُحقق الاستثمار الذكي في التنمية البشرية.
4️⃣ ربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي:
لأن كل جدارةٍ تُصاغ لتدعم هدفًا استراتيجيًا للمؤسسة،
فيتحول كل سلوكٍ فرديٍّ إلى لبنةٍ في بناء التميز المؤسسي الكلي.
🧠 ثالثًا: مكونات الإطار الجداراتي
يختلف هيكل الإطار الجداراتي من مؤسسةٍ لأخرى،
لكن معظم الأطر العالمية — مثل CIPD، وSHRM، وEFQM، وISO 30414 — تتفق على أن الإطار يتكون من المكونات التالية:
1️⃣ الجدارات الأساسية (Core):
وتشمل القيم والسلوكيات المشتركة لجميع الموظفين.
2️⃣ الجدارات الوظيفية (Functional):
وهي القدرات الفنية والمعرفية الخاصة بكل تخصصٍ أو إدارةٍ أو مهنةٍ داخل المؤسسة.
3️⃣ الجدارات القيادية (Leadership):
وهي القدرات التي تُمكّن القادة والمديرين من إدارة الفرق وتحفيز الأداء وصنع القرار.
4️⃣ الجدارات المستقبلية أو التحولية (Future or Transformational):
وهي القدرات المرتبطة بالتعامل مع التغيير والابتكار والتحول الرقمي والاستدامة.
ولكل جدارةٍ من هذه الجدارات مستويات إتقانٍ (Proficiency Levels) تُحدَّد سلوكيًا عبر سلمٍ تدريجيٍّ عادةً ما يتكوّن من أربع أو خمس درجات، مثل:
1️⃣ مبتدئ – 2️⃣ ممارس – 3️⃣ متقدّم – 4️⃣ خبير – 5️⃣ قائد في الجدارة.
بهذا الشكل، لا يُكتفى بتسمية الجدارة، بل يُحدَّد السلوك الذي يُمثّل كل مستوى.
فعلى سبيل المثال، في جدارة “التواصل الفعّال”:
-
المستوى المبتدئ: ينقل المعلومات بوضوح عند الحاجة.
-
المستوى المتقدم: يُكيّف أسلوبه الاتصالي وفق الموقف.
-
المستوى القيادي: يُلهم الآخرين من خلال التواصل الاستراتيجي المؤثر.
🏛️ رابعًا: التجربة السعودية – الإطار الجداراتي كأداةٍ للحوكمة والتطوير
قدّمت المملكة العربية السعودية تجربةً متميزةً في تطوير إطارٍ وطنيٍّ للجدارات،
عبر إطار الكفاءات التخصصية والسلوكية (2020) الصادر عن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية،
الذي جاء متسقًا مع الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي (2017).
هذا الإطار يُقسّم الجدارات إلى ثلاث فئاتٍ رئيسية:
1️⃣ الجدارات السلوكية: مثل العمل الجماعي، التواصل، التوجه نحو النتائج.
2️⃣ الجدارات الفنية: مثل التحليل المالي، إدارة المشاريع، تطوير السياسات.
3️⃣ الجدارات القيادية: مثل صنع القرار، القيادة بالقدوة، تطوير الآخرين.
وقد تم اعتماد هذا الإطار في جميع الجهات الحكومية كمرجعٍ للتعيين، والتقييم، والتدريب، والتطوير.
إنّ أهم ما يميز التجربة السعودية هو ربطها بين الجدارات والأداء المؤسسي من خلال الحوكمة.
فكل جدارةٍ في الإطار لها تعريفٌ ومؤشراتٌ سلوكيةٌ محددة،
ويُستخدم هذا التعريف في إعداد النماذج الموحدة للتقييم السنوي والنصف سنوي،
مما يجعل الأداء الوظيفي جزءًا من منظومةٍ معياريةٍ وطنيةٍ تُعزّز العدالة والشفافية.
كما ينسجم هذا الإطار مع رؤية المملكة 2030 التي تُركّز على بناء القدرات البشرية وتمكين القيادات الوطنية،
فهو لا يُقيّم ما يفعله الموظف فقط، بل كيف يُعبّر في سلوكه اليومي عن القيم الوطنية والمهنية التي تسعى الرؤية لترسيخها.
🇦🇪 خامسًا: التجربة الإماراتية – القيادة بالجدارات
تُعدّ دولة الإمارات العربية المتحدة من أوائل الدول التي تبنّت الإطار الجداراتي المؤسسي على مستوى الحكومة.
ففي عام 2012، أطلقت الحكومة نظام إدارة الأداء الحكومي (EPMS) الذي يعتمد على إطار الكفاءات الحكومية (UAE Government Competency Framework).
يتكون الإطار الإماراتي من أربع مجموعاتٍ رئيسيةٍ من الجدارات:
1️⃣ جدارات أساسية: مثل خدمة المتعاملين، التواصل الفعّال، الإيجابية والسعادة.
2️⃣ جدارات قيادية: مثل القيادة بالقدوة، التفكير الاستراتيجي، التحفيز والتمكين.
3️⃣ جدارات مستقبلية: مثل الابتكار، التحول الرقمي، الذكاء الاصطناعي.
4️⃣ جدارات تخصصية: خاصة بكل جهةٍ أو قطاعٍ مهني.
ويمتاز الإطار الإماراتي بتركيزه على “القيادة بالجدارات”، أي أنّ القائد لا يُقيَّم فقط على نتائج إدارته، بل على مدى تجسيده للقيم والسلوكيات القيادية اليومية.
فهو يُحفّز الموظفين بالقدوة، ويُجسّد رسالة المؤسسة في تعاملاته، ويُظهر النزاهة والشفافية والتسامح والابتكار في آنٍ واحد.
وهذا ما جعل الجدارات جزءًا من الهوية الوطنية الإماراتية،
إذ لم تعد مجرد معايير إدارية، بل رموزًا سلوكيةً تعبّر عن روح الحكومة الحديثة التي تقود بالثقة والمسؤولية.
🌍 سادسًا: المعايير العالمية الداعمة لبناء الإطار الجداراتي
يعتمد تصميم الإطار الجداراتي على عددٍ من المعايير والمنهجيات العالمية التي تضمن دقته واستدامته، منها:
-
CIPD: تركّز على الربط بين الجدارات والأدوار السلوكية داخل المؤسسة، وتوصي بتحديث الإطار كل ثلاث سنواتٍ على الأقل.
-
SHRM: تؤكد على الدمج بين الجدارات الفنية والسلوكية لضمان العدالة في التقييم.
-
EFQM: تعتبر الجدارات جزءًا من “التمكين المؤسسي” ضمن محور القيادة والأفراد.
-
ISO 30414: تُلزم المؤسسات بقياس مؤشرات الجدارات ضمن تقارير رأس المال البشري (Human Capital Reporting).
هذه المعايير لا تكتفي بالتوصية ببناء الإطار، بل تُحدّد منهجية التطبيق التي تشمل التحليل الوظيفي، والمقابلات السلوكية، وورش النمذجة الجداراتية، وآليات المراجعة الدورية.
🧩 سابعًا: خطوات بناء الإطار الجداراتي المؤسسي
يتطلّب بناء إطارٍ جداراتيٍّ فعّالٍ منهجيةً علميةً دقيقةً تمرّ بعدة مراحل متكاملةٍ، منها:
1️⃣ تحليل الرؤية والاستراتيجية المؤسسية:
لفهم القيم الجوهرية والأهداف العليا التي ينبغي أن تُترجم إلى سلوكياتٍ عملية.
2️⃣ تحليل الوظائف والأدوار (Job Analysis):
لتحديد الجدارات المطلوبة لكل مستوى وظيفي.
3️⃣ إجراء المقابلات السلوكية (Behavioral Interviews):
لاستخلاص السلوكيات المميّزة للأداء العالي.
4️⃣ تصميم نموذج الإطار (Competency Model):
الذي يُحدّد الجدارات والمستويات السلوكية.
5️⃣ المراجعة والاعتماد المؤسسي:
من قبل القيادة العليا لضمان مواءمة الإطار مع القيم والرؤية المؤسسية.
6️⃣ التطبيق والدمج:
عبر تضمين الإطار في أنظمة التوظيف، والتقييم، والتدريب، والتعاقب الوظيفي.
7️⃣ التحديث والتحسين المستمر:
لمواءمة الإطار مع التحولات الرقمية والاستراتيجية.
🌿 ثامنًا: الرؤية التحليلية الختامية
إنّ الإطار الجداراتي المؤسسي ليس مجرد وثيقةٍ إداريةٍ، بل منظومة قيمٍ ومعاييرٍ وسلوكٍ تُحوّل المؤسسة إلى كيانٍ حيٍّ يتعلم من ذاته ويطوّر أداءه باستمرار.
فهو يُجسّد فلسفة “إدارة الأداء القائمة على الإنسان”،
ويُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمؤسسة على أساس الشراكة والمسؤولية المتبادلة.
إنّ المؤسسة التي تمتلك إطارًا جداراتيًا واضحًا تمتلك هويةً مؤسسيةً متماسكةً،
وإدارةً رشيدةً للأداء، وثقافةً قائمةً على الوعي والسلوك،
وتتحول من إدارةٍ للموارد البشرية إلى إدارةٍ للقدرات البشرية (Human Capability Management)،
ومن التركيز على الوظيفة إلى التركيز على الإنسان الذي يصنع القيمة.
وهكذا يصبح الإطار الجداراتي هو البنية التحتية للأداء المؤسسي الراقي،
الذي يربط بين الرؤية والقيمة والسلوك والنتيجة،
ويُحوّل المؤسسة من كيانٍ إداريٍّ إلى منظومةٍ معرفيةٍ أخلاقيةٍ قادرةٍ على التعلم والتجدد والتميز المستدام.
6️⃣ قياس الجدارات: من الملاحظة إلى النمذجة 📊
يُعدّ قياس الجدارات المرحلة الأكثر حساسيةً وعمقًا في دورة إدارة الأداء الوظيفي، لأنها تُحوّل المفهوم المجرد للجدارة إلى واقعٍ قابلٍ للرصد والتحليل والتطوير.
فلا يكفي أن تُعرَّف الجدارات أو تُصاغ في وثيقةٍ رسمية، بل لا بدّ أن تُقاس على نحوٍ علميٍّ يضمن الموضوعية والعدالة، ويكشف الفرق بين “ما يُفترض أن يكون” و“ما هو كائن فعلاً”.
إنّ عملية القياس هنا لا تتعامل مع أرقامٍ جامدةٍ فقط، بل مع سلوكٍ إنسانيٍّ متحركٍ ومتغيرٍ بطبيعته.
ولهذا، فإنّ فنّ قياس الجدارات هو جوهر إدارة الأداء الحديثة، لأنه لا يقيس النتائج النهائية فقط، بل يقيس العقل والسلوك والقيمة التي أنتجت تلك النتائج.
🧩 أولًا: فلسفة قياس الجدارات
ينطلق قياس الجدارات من فرضيةٍ جوهريةٍ مفادها أن الأداء الفعّال ليس حصيلة المهارات التقنية وحدها، بل هو انعكاسٌ لمجموعةٍ من القدرات السلوكية والمعرفية والدافعية التي تُعبّر عن “كيف” يعمل الفرد لا “ماذا” ينجز.
ففي حين يمكن قياس الكفاءة الفنية عبر مؤشراتٍ كمية (مثل عدد التقارير أو سرعة الإنجاز)،
فإن قياس الجدارة يتطلّب فهمًا دقيقًا للأنماط السلوكية المتكررة،
والسياق الذي يظهر فيه السلوك، والدافع الذي يحركه، والأثر الذي يتركه في البيئة المؤسسية.
بهذا المعنى، يصبح قياس الجدارات رحلةً تحليليةً تربط بين المشاهدة والتفسير والتطوير.
ولا يهدف القياس هنا إلى الحكم أو التصنيف، بل إلى التحسين والتوجيه والتمكين.
فهو ليس أداةً للمساءلة فقط، بل وسيلةٌ لفهم الإنسان في العمل واستثمار طاقاته على نحوٍ أكثر وعيًا.
⚙️ ثانيًا: التحدي المنهجي في قياس السلوك
قياس الأداء الفني سهلٌ لأنه يعتمد على معايير رقمية،
أما قياس الأداء السلوكي فهو أكثر تعقيدًا، لأنه يتعامل مع ظواهر غير مرئيةٍ مثل القيم، والدوافع، والمواقف، والانفعالات.
ولهذا واجهت المؤسسات في بدايات تطبيق أنظمة الجدارات مشكلتين رئيسيتين:
1️⃣ التحيّز الشخصي للمقيّم: إذ يميل بعض المديرين إلى إصدار أحكامٍ انطباعيةٍ مبنيةٍ على الميول الشخصية لا على مؤشراتٍ موضوعية.
2️⃣ عدم وضوح السلوك المرغوب: حين تُصاغ الجدارات في عباراتٍ عامةٍ مثل “العمل الجماعي” دون تحديدٍ لما يعنيه ذلك سلوكيًا.
جاءت النماذج الحديثة لتتجاوز هذه الإشكاليات من خلال بناء أدواتٍ سلوكيةٍ دقيقةٍ تُحوّل السلوك إلى وحداتٍ قابلةٍ للرصد،
مثل مقياس السلوك المعياري BARS، والتغذية الراجعة 360 درجة، والمقابلات الجداراتية السلوكية (BEI).
📏 ثالثًا: نموذج مقياس السلوك المعياري (BARS)
يُعدّ نموذج BARS – Behavioral Anchored Rating Scale أحد أكثر أدوات القياس السلوكي شيوعًا وموثوقيةً.
وهو مزيجٌ ذكيٌّ بين التقييم الكمي والوصفي،
حيث يُحوّل كل جدارةٍ إلى سلوكياتٍ محددةٍ تُمثّل مستويات الأداء المختلفة.
فبدلًا من تقييم “الاتصال الفعّال” بدرجةٍ عامةٍ من 1 إلى 5،
يُقدّم نموذج BARS تعريفًا دقيقًا لكل مستوى:
| المستوى | الوصف السلوكي |
|---|---|
| 1️⃣ ضعيف | يتواصل دون وضوح، ويُظهر انفعالًا أو تسرعًا في الردود. |
| 2️⃣ مقبول | يُقدّم معلوماتٍ أساسيةٍ لكنه لا يتأكد من الفهم المتبادل. |
| 3️⃣ جيد | يُعبّر بوضوحٍ ويُظهر احترامًا لآراء الآخرين. |
| 4️⃣ متميز | يُصغي بانتباهٍ، ويتكيف مع نمط الطرف الآخر. |
| 5️⃣ قيادي | يُلهم الآخرين من خلال اتصاله ويؤثر إيجابيًا في سلوكهم. |
بهذا الأسلوب، يُصبح التقييم سهلًا وموضوعيًا،
ويُمكن للمدير أن يُسند تقييمه إلى أدلةٍ سلوكيةٍ محددةٍ لا إلى الانطباعات العامة.
وقد اعتمدت الهيئات الحكومية في الإمارات والسعودية هذا النهج في النماذج الرسمية لتقييم الأداء الوظيفي،
إذ يُطلب من المقيم أن يُسند الدرجة إلى وصفٍ سلوكيٍّ محددٍ من الجدول المرجعي،
وبذلك تُصبح العدالة قابلةً للقياس.
🧠 رابعًا: أسلوب التغذية الراجعة 360 درجة (360° Feedback)
يُعتبر هذا الأسلوب من أكثر أدوات القياس تكاملًا وعدالةً،
إذ لا يعتمد على تقييم المدير فقط، بل يجمع آراء عدة أطرافٍ يتعامل معها الموظف في بيئة العمل،
مثل: الزملاء، والمرؤوسين، والعملاء الداخليين أو الخارجيين، وأحيانًا تقييم الذات.
تكمن قوة هذا النموذج في أنه يُقدّم صورةً شموليةً عن سلوك الفرد كما يُدركه الآخرون،
فيكشف الفجوة بين تصوّره الذاتي لأدائه وبين الواقع كما يراه من حوله.
وهذا يُسهم في بناء الوعي الذاتي، وتعزيز التواضع المهني، وإطلاق حوارٍ بنّاءٍ حول السلوك المؤسسي.
كما ينسجم هذا النموذج مع فلسفة الجدارات،
إذ يُؤكد أن الأداء ليس علاقةً عموديةً بين الرئيس والمرؤوس فقط،
بل منظومة تفاعلية تُقاس بعدد المرات التي يؤثر فيها الموظف إيجابًا في بيئته.
ولهذا السبب، تتجه المؤسسات الخليجية الحديثة — مثل وزارة الموارد البشرية السعودية، والهيئة الاتحادية للموارد البشرية الإماراتية —
إلى دمج أسلوب 360 درجة في تقييم الجدارات القيادية تحديدًا،
لأنه يُقدّم صورةً أعمق عن تأثير القائد في الآخرين.
⚙️ خامسًا: المقابلات الجداراتية السلوكية (BEI)
تُستخدم المقابلات الجداراتية السلوكية (Behavioral Event Interviews)
كأداةٍ نوعيةٍ لتحليل السلوك وتحديد مستوى الجدارة.
في هذا الأسلوب، يُطلب من الموظف أن يصف مواقف حقيقية واجهها في عمله،
ويُسأل أسئلةً محددةً مثل:
ماذا حدث بالضبط؟
ماذا كنت تفكر وتشعر حينها؟
ما القرارات التي اتخذتها؟
ما النتائج التي تحققت؟
ويقوم المقيم بتحليل الإجابات لاستخلاص السلوكيات الجداراتية المتكررة،
فمنها يُستدل على السمات الجوهرية مثل القدرة على التكيف، القيادة، التواصل، التحليل، أو إدارة التوتر.
وقد استخدم هذا الأسلوب لأول مرة في جامعة هارفارد ضمن أبحاث بوياتزيس (Boyatzis)،
ثم تبنّته مؤسسات مثل CIPD وSHRM في تقييم القيادات.
وهو اليوم جزءٌ من ممارسات التوظيف المتقدمة في عددٍ من الوزارات الخليجية التي تُركّز على اختيار الكفاءات القيادية الجديرة لا المجرّبة فقط.
📊 سادسًا: المعايرة المؤسسية (Calibration) وضبط العدالة
لكي يكون قياس الجدارات فعّالًا وعادلًا،
لا بد من نظام معايرةٍ مؤسسيةٍ يضمن اتساق التقييمات بين مختلف الإدارات والمقيمين.
فقد يُقيّم مديرٌ معينٌ موظفيه بسخاءٍ، بينما يكون آخر أكثر تشددًا،
فتفقد المؤسسة مصداقية بياناتها.
المعايرة هنا تُشبه الميزان الذهبي للعدالة،
وتُجرى عادةً عبر لجانٍ متخصصةٍ في الموارد البشرية،
تُراجع نتائج التقييم، وتقارنها بمعايير الأداء العامة،
وتُناقش الحالات التي يبدو فيها التقييم متطرفًا صعودًا أو هبوطًا.
كما تُستخدم أدوات التحليل الإحصائي لتحديد مدى تشتت التقييمات،
ومدى انحياز المقيمين،
ولتصحيح الأخطاء البشرية الشائعة مثل:
-
تأثير الانطباع الأول (Halo Effect).
-
الميل للوسط (Central Tendency).
-
التساهل أو التشدد (Leniency/Severity).
بهذه الطريقة، يتحوّل قياس الجدارات من ممارسةٍ فرديةٍ إلى نظامٍ مؤسسيٍّ منضبطٍ يحقق العدالة، ويعزز الثقة في نتائج الأداء.
🧩 سابعًا: ربط القياس بالتطوير
القياس الحقيقي لا يقف عند حدود التقييم، بل يبدأ منه.
فكل نتيجةٍ في تقييم الجدارة تُعتبر إشارةً تنمويةً تُوجّه المؤسسة نحو قرارات التطوير.
فعندما تُظهر البيانات ضعفًا في جدارة “التفكير التحليلي”،
فإنّ هذا لا يُعدّ فشلًا، بل فرصةً لبناء برنامجٍ تدريبيٍ مستهدفٍ يعالج هذا الجانب تحديدًا.
وحين يُظهر الموظف تميزًا في “التواصل والقيادة بالقدوة”،
فإنّ المؤسسة تُرشّحه للبرامج القيادية المستقبلية.
هذا التكامل بين القياس والتطوير هو ما يجعل نظام الجدارات نظامًا تعلّميًا مستمرًا (Learning System)
لا نظامًا رقابيًا فقط،
ويُحوّل التقييم من ممارسةٍ شكليةٍ إلى أداةٍ استراتيجيةٍ لتطوير الإنسان والمؤسسة معًا.
🌿 ثامنًا: الرؤية التحليلية الختامية
إنّ قياس الجدارات هو المرآة التي ترى فيها المؤسسة جوهر ثقافتها السلوكية،
وكلّما كانت هذه المرآة صافيةً ودقيقةً، كلّما كانت قراراتها في التطوير أكثر وعيًا وعدلًا.
فهو لا يقيس الأرقام، بل يقيس الوعي، والنية، والاتساق بين القول والفعل.
وحين تصل المؤسسة إلى مرحلةٍ يُقاس فيها الأداء السلوكي بالمعايير نفسها التي يُقاس بها الأداء الفني،
فإنّها تكون قد بلغت النضج المؤسسي الحقيقي،
الذي تتكامل فيه الكفاءة مع القيمة،
والسلوك مع النتيجة،
لتُصبح العدالة والتطوير وجهين لعملةٍ واحدةٍ تُسمّى “الجدارة المؤسسية.”
7️⃣ نماذج الجدارات العالمية والخليجية 🇸🇦🇦🇪🌍
إنّ دراسة نماذج الجدارات العالمية والخليجية ليست مجرّد مقارنةٍ بين مدارسٍ إداريةٍ مختلفةٍ، بل هي رحلةٌ معرفيةٌ تكشف تطوّر الفكر الإنساني في فهم الأداء وتطويره.
فالجدارة لم تعد مفهومًا محليًا محدودًا، بل أصبحت لغةً إداريةً عالميةً تتحدث بها المؤسسات في مختلف القارات، لتوحّد بين السلوك والنتيجة، وبين القيمة والممارسة.
وإذا كانت الجدارات في جوهرها تمثل “كيف يعمل الإنسان”، فإنّ النماذج العالمية تمثل “كيف تُفكّر المؤسسة في الإنسان”.
ومن خلال هذه النماذج، يتجلّى التحوّل من النظريات المجردة إلى المنظومات المعيارية القابلة للتطبيق والقياس والحوكمة.
هذا المحور يُقارن بين أبرز النماذج العالمية (CIPD – SHRM – EFQM – ISO 30414)
وبين النماذج الخليجية (النظام السعودي، والنظام الإماراتي)،
ليُظهر كيف استطاعت الرؤى الوطنية أن تُترجم المعايير العالمية إلى سياقاتٍ ثقافيةٍ وإداريةٍ تتناسب مع بيئة العمل العربية، دون أن تفقد بعدها العلمي أو منهجها المؤسسي.
🧭 أولًا: النموذج البريطاني (CIPD Competency Framework) – السلوك كجوهر للتميّز
يُعدّ معهد تشارترد للأفراد والتنمية CIPD من أقدم وأعمق المدارس الفكرية التي تناولت الجدارات بالتحليل والتطبيق،
وقد طور إطارًا شاملًا يُعرف بـ “CIPD Profession Map”،
وهو بمثابة خريطةٍ معرفيةٍ وسلوكيةٍ تُوجّه محترفي الموارد البشرية والإدارة نحو الأداء الفعّال المستدام.
يرتكز النموذج على مبدأٍ فلسفيٍّ جوهريٍّ هو أنّ:
“القيمة المؤسسية تُقاس ليس فقط بما تحققه المؤسسة، بل بكيفية تحقيقها.”
أي أن السلوكيات والقيم تُعتبر جزءًا أصيلًا من النتائج، لا عاملًا ثانويًا لها.
يتكوّن الإطار البريطاني من ثلاثة مستوياتٍ مترابطة:
1️⃣ جوهر السلوك المهني (Core Behaviors):
وهي القيم والسلوكيات التي يجب أن يتحلّى بها جميع العاملين في أي سياقٍ مهني، وتشمل النزاهة، الاحترام، التعلّم المستمر، والجرأة الأخلاقية.
2️⃣ الجدارات المتخصصة (Specialist Knowledge):
وهي القدرات الفنية الخاصة بكل مجالٍ وظيفيٍّ أو تخصصٍ إداريٍّ (مثل التعويضات، أو تطوير القيادات).
3️⃣ المعرفة الجوهرية (Core Knowledge):
وتشمل الفهم الاستراتيجي للعلاقات البشرية، والبيئة المؤسسية، والحوكمة، والتعلم التنظيمي.
ويُميز نموذج CIPD بين “الأداء الجيد” و“الأداء العميق”،
حيث يُنظر إلى الجدارة بوصفها تجسيدًا للسلوك الأخلاقي الواعي الذي يربط الفرد بالغاية المؤسسية الكبرى.
وقد أثّر هذا النموذج في كثيرٍ من الأنظمة الأوروبية والعربية،
إذ نقل التركيز من “مهارات العمل” إلى “قِيَم العمل”،
ومن “القدرة على التنفيذ” إلى “الوعي بأثر التنفيذ”.
⚙️ ثانيًا: النموذج الأمريكي (SHRM Competency Model) – القيادة بالقدرة والسلوك
يُعدّ جمعية إدارة الموارد البشرية الأمريكية SHRM المرجع الأوسع في بناء الجدارات المهنية عالميًا،
حيث وضعت إطارًا شاملاً أطلقت عليه “SHRM Competency and Capability Model”،
الذي يُستخدم اليوم كأساسٍ لاعتماد شهادات الاحتراف في إدارة الموارد البشرية (SHRM-CP وSHRM-SCP).
يرتكز النموذج الأمريكي على ثمانية مجالاتٍ أساسيةٍ للجدارة،
تجمع بين المهارة الفنية والقدرة السلوكية، وهي:
1️⃣ القيادة والتأثير (Leadership & Navigation).
2️⃣ الأخلاقيات والمهنية (Ethical Practice).
3️⃣ إدارة العلاقات (Relationship Management).
4️⃣ الاتصال (Communication).
5️⃣ الاستشراف التنظيمي (Business Acumen).
6️⃣ التفكير الاستشرافي (Critical Evaluation).
7️⃣ الاستشارات (Consultation).
8️⃣ إدارة المواهب والتطوير (Global & Cultural Effectiveness).
ما يميّز هذا النموذج أنه يجمع بين السلوك والنتيجة في توازنٍ دقيقٍ،
فهو لا يرى الجدارة سلوكًا مجردًا، بل “قدرةً قابلةً للقياس والتحسين المستمر”.
ولهذا السبب، يُقسّم كل جدارةٍ إلى أربعة مستوياتٍ للتطور المهني:
مبتدئ، ممارس، متقدّم، خبير،
بحيث يستطيع الموظف أن يُدرك موقعه في سلم النموّ السلوكي ويعمل على تطوير ذاته وفق خطةٍ واضحةٍ.
وقد ألهم هذا النموذج كثيرًا من المؤسسات الخليجية في صياغة نماذجها الوطنية،
خصوصًا في مجال الجدارات القيادية التي تُركّز على الأخلاقيات، وصنع القرار، والقدرة على إدارة التغيير.
🧠 ثالثًا: نموذج التميز الأوروبي (EFQM) – الجدارة كقيمة مؤسسية
قدّم نموذج EFQM الأوروبي للتميّز المؤسسي بعدًا فلسفيًا متقدمًا لفهم الجدارة،
إذ لم يعد ينظر إليها كخصائصٍ فرديةٍ فقط،
بل كـ قدراتٍ مؤسسيةٍ تتجسد في السلوك الجمعي للمؤسسة.
ففي فلسفة EFQM، لا تكون المؤسسة متميزةً إلا إذا امتلكت “جداراتٍ تنظيميةً”
تُمكّنها من قيادة التغيير، والتعلم، والتعاون، والتأثير في المجتمع.
يتضمن الإطار تسعة معايير رئيسية،
منها معيار القيادة، والاستراتيجية، والموارد البشرية، والعمليات، والنتائج.
وتُعدّ الجدارات جزءًا أساسيًا من محوري القيادة والأفراد،
إذ يُقيَّم القادة بناءً على قدرتهم على “تحفيز القيم في السلوك”،
والأفراد بناءً على مدى تجسيدهم للقيم المؤسسية في حياتهم اليومية.
وبذلك، يتحوّل قياس الجدارة من مجرد أداةٍ للموارد البشرية إلى آليةٍ لتحقيق التميز المؤسسي الشامل (Organizational Excellence).
📊 رابعًا: معيار ISO 30414 – الجدارة كمؤشرٍ في رأس المال البشري
أحدثت المنظمة الدولية للمواصفات (ISO) نقلةً نوعيةً في التعامل مع الجدارات،
عندما أصدرت معيار ISO 30414:2018 المتعلق بقياس وإدارة رأس المال البشري (Human Capital Reporting).
لأول مرة، أصبحت “الجدارات” تُقاس كمؤشراتٍ كميةٍ ضمن تقارير الأداء المؤسسي.
فالمنظمة لا تكتفي بتوصيف الجدارات، بل تُلزم المؤسسات بالإفصاح عنها ضمن مؤشراتٍ مثل:
-
معدل تطوير القدرات (Capability Development Rate).
-
نسبة الموظفين الحاصلين على تقييم جداراتٍ إيجابي.
-
العلاقة بين الجدارة والإنتاجية.
-
العائد على الاستثمار في تطوير الجدارات.
بهذا، تحوّلت الجدارة إلى أصلٍ من أصول رأس المال البشري يُدار ويُقاس ويُستثمر فيه،
وأصبح تطويرها مسؤوليةً استراتيجيةً تقع على عاتق الإدارة العليا لا فقط إدارة الموارد البشرية.
🏛️ خامسًا: النموذج السعودي – العدالة السلوكية والتميز في الأداء
في إطار التحول الوطني الذي تقوده رؤية المملكة 2030،
برزت الحاجة إلى نظامٍ شاملٍ يضمن العدالة في التقييم ويربط الأداء الفردي بالتميّز المؤسسي،
فأطلقت وزارة الموارد البشرية “إطار الكفاءات التخصصية والسلوكية” ليكون المرجع الوطني للجدارات.
يقوم النموذج السعودي على مبدأ “القياس المزدوج للأداء”،
الذي يوازن بين:
-
الأداء الكمي (الأهداف والمؤشرات).
-
الأداء السلوكي (الجدارات والقيم المؤسسية).
ويُصنّف الجدارات في ثلاث مجموعاتٍ رئيسية:
1️⃣ الجدارات السلوكية: مثل التعاون، التواصل، التوجه نحو النتائج.
2️⃣ الجدارات الفنية: مثل التحليل، والتخطيط، وإدارة العمليات.
3️⃣ الجدارات القيادية: مثل صنع القرار، وتحفيز الفريق، وتطوير الآخرين.
ويتضمّن الإطار مستوياتٍ سلوكيةٍ واضحةٍ لكل جدارةٍ (من مبتدئ إلى قيادي)،
تُستخدم في التوظيف، والتدريب، والتقييم السنوي، والترقية.
وقد تميّز النموذج السعودي بأنه حوكمة للجدارات على المستوى الوطني،
فهو لا يُطبّق في مؤسسةٍ واحدةٍ فحسب،
بل في جميع الأجهزة الحكومية، مما خلق لغةً موحّدةً للأداء في القطاع العام السعودي.
🇦🇪 سادسًا: النموذج الإماراتي – القيادة بالجدارات والتحفيز بالقيم
يُعدّ نظام إدارة الأداء الحكومي في دولة الإمارات (EPMS) من أكثر النماذج الخليجية نضجًا واتساقًا مع المعايير العالمية.
فهو يُجسّد فلسفة “القيادة بالجدارات” ويحوّلها إلى سلوكٍ يوميٍّ في بيئة العمل الحكومي.
يستند الإطار الإماراتي إلى “إطار الكفاءات الحكومية” الذي يربط الجدارات بالقيم الوطنية مثل الريادة، والابتكار، والسعادة، وخدمة المتعاملين.
وينقسم الإطار إلى أربع مجموعاتٍ مترابطة:
1️⃣ جدارات أساسية: السعادة والإيجابية، خدمة المتعاملين، العمل الجماعي.
2️⃣ جدارات قيادية: القيادة بالقدوة، صنع القرار، إدارة التغيير.
3️⃣ جدارات مستقبلية: الذكاء الاصطناعي، الابتكار، استشراف المستقبل.
4️⃣ جدارات تخصصية: تُحدَّد وفق طبيعة كل جهةٍ حكومية.
وقد نجح هذا الإطار في تحويل الجدارات إلى ثقافةٍ وطنيةٍ للتميز المؤسسي،
إذ تُقاس السلوكيات بنفس الجدية التي تُقاس بها النتائج،
ويُكافأ القائد الذي يُلهم الآخرين بقيم الحكومة،
تمامًا كما يُكافأ من يحقق الأهداف الكمية.
إنّ النموذج الإماراتي لا يهدف إلى “تقييم الموظف”، بل إلى “تمكين الإنسان”،
فهو يُجسّد الفلسفة الحديثة في الإدارة العامة التي ترى أن القيمة الحقيقية ليست في النظام، بل في الإنسان الذي يُفعّله.
🌍 سابعًا: المقارنة التحليلية بين النماذج العالمية والخليجية
| المحور | النماذج العالمية (CIPD – SHRM – EFQM – ISO) | النماذج الخليجية (السعودي – الإماراتي) |
|---|---|---|
| المنطلق الفكري | الإنسان كمصدر للتميز | الإنسان كشريك في التنمية الوطنية |
| التركيز | الأداء الأخلاقي والمهني | الأداء السلوكي المتسق مع القيم |
| المجال | المؤسسات الخاصة والعالمية | القطاع الحكومي والخدمة العامة |
| المنهج | التحليل السلوكي والنمذجة المهنية | الدمج بين القيم الوطنية والمعايير العالمية |
| القياس | أدوات معيارية (BARS، 360) | نماذج رسمية وطنية موحدة |
| الغاية النهائية | التميز المؤسسي المستدام | بناء الإنسان والقيادة الوطنية |
من خلال هذا التحليل، نُدرك أن النماذج الخليجية لم تقتبس النماذج العالمية حرفيًا،
بل أعادت تأطيرها داخل منظومة القيم العربية والإسلامية،
لتُنتج نموذجًا خاصًا يوازن بين المهنية والهوية،
وبين الأداء والإنسانية،
وهو ما يُعتبر أحد أبرز إنجازات الفكر الإداري الخليجي في القرن الحادي والعشرين.
🌿 ثامنًا: الرؤية التحليلية الختامية
لقد أثبتت التجارب العالمية والخليجية أنّ الجدارة ليست أداةً فنيةً فقط، بل فلسفةٌ إداريةٌ أخلاقيةٌ شاملة.
فهي لا تسعى إلى صناعة موظفٍ ناجحٍ فحسب، بل إلى بناء إنسانٍ ناضجٍ يُدير ذاته وقيمه كما يُدير عمله.
وحين تتبنى المؤسسة إطارًا للجدارات، فإنها تُعلن ضمنًا أنّها تُقيّم الإنسان لا فقط كعاملٍ، بل كقيمةٍ، وكعنصرٍ في منظومة التميز المؤسسي.
لقد أصبحت الجدارة اليوم المعيار العالمي للتنمية البشرية الرشيدة،
ولم تعد حكرًا على المختصين في الموارد البشرية، بل أصبحت لغة القيادة الحديثة،
وسرّ التوازن بين “الكفاءة” و“الإنسانية”،
وبين “النظام” و“الثقافة”،
وبين “المؤسسة” و“الوطن”.
8️⃣ الجدارات كجسرٍ بين الأداء الفردي والتميّز المؤسسي 🌿
تُمثّل الجدارات (Competencies) في الفكر الإداري الحديث الجسر الحيوي الذي يربط بين الأداء الفردي بوصفه سلوكًا بشريًا ديناميكيًا، وبين التميّز المؤسسي بوصفه غايةً استراتيجيةً تسعى إليها المنظمات العصرية.
فمن دون هذا الجسر، تبقى المنظومة المؤسسية مفككةً بين الأهداف العليا من جهة، والأنشطة اليومية من جهةٍ أخرى، ويغدو الأداء مجرّد أرقامٍ لا روح فيها، أو جهودٍ فرديةٍ لا تنتظم في رؤيةٍ كليةٍ متكاملة.
إنّ الجدارة هي تلك “اللغة الخفية” التي يتفاهم بها الفرد والنظام،
فهي تجعل قيم المؤسسة حيةً في السلوك اليومي للموظفين،
وتُحوّل الرؤية الاستراتيجية إلى ممارساتٍ قابلةٍ للملاحظة،
وتربط بين ما تريده القيادة وما يفعله العاملون فعلاً.
ولهذا، يُقال إنّ “الجدارات هي الترجمة السلوكية للرؤية المؤسسية.”
🧭 أولًا: من الأداء الفردي إلى القيمة المؤسسية
حين نتحدث عن الأداء الفردي، فإننا نتحدث عن سلسلةٍ من القرارات والسلوكيات التي يقوم بها الإنسان يوميًا في عمله.
لكن هذه السلوكيات لا تُترجم إلى قيمةٍ مؤسسيةٍ إلا عندما تتسق مع الجدارات المحددة التي تعبّر عن فلسفة المؤسسة وطريقتها في العمل.
فالموظف قد يُنجز مهامه، ولكن ما لم يُظهر في أدائه الجدارة المطلوبة (كالتعاون، والالتزام، والإبداع، والتفكير التحليلي)، فإنّ إنجازه يبقى معزولًا عن منظومة التميز المؤسسي.
بمعنى آخر، الجدارة هي التي تمنح الفعل الفردي معناه المؤسسي.
وهنا يظهر الفرق بين “العمل” و“الأداء”،
فالأول يُعبّر عن النشاط، والثاني يُعبّر عن القيمة.
والجدارة هي التي تُحوّل النشاط إلى قيمةٍ تُخدم أهداف المؤسسة وتُسهم في تحقيق رؤيتها.
وفي التجارب الخليجية الحديثة — مثل النظام السعودي والإماراتي — أصبح قياس الأداء لا يقتصر على “ماذا تحقق”، بل يمتد ليشمل “كيف تحقق”،
فالسلوك أصبح معيارًا لا يقل أهميةً عن النتيجة،
لأنّه يُعبّر عن الهوية المهنية للمؤسسة.
⚙️ ثانيًا: الجدارات كحلقة وصل بين الإنسان والنظام
يُعدّ نظام الجدارات أحد أعظم الابتكارات الإدارية التي أعادت صياغة العلاقة بين الإنسان والنظام.
ففي المنظومات التقليدية، كان الموظف يُعامل كمنفّذٍ لتعليماتٍ جامدةٍ،
بينما في المنظومات الجداراتية، يُعامل كعنصرٍ واعٍ يُسهم في تطوير النظام نفسه.
فالجدارات تمنح الإنسان إطارًا من الحرية الموجّهة:
حرية التفكير، والإبداع، واتخاذ القرار،
لكن في اتجاهٍ يتّسق مع قيم المؤسسة واستراتيجيتها.
وهذا ما يجعل الجدارات أداةً للتمكين لا للتقييد،
فهي لا تُحدّد ما يجب أن تفعله فحسب، بل كيف تُعبّر عن ذاتك وأخلاقك واحترافك في فعلك.
وقد أكّد نموذج EFQM للتميّز المؤسسي هذا البُعد حين وضع “القيادة الجداراتية” ضمن عناصره الجوهرية،
مشيرًا إلى أن المؤسسة المتميزة هي تلك التي تجعل الموظفين يعيشون قيمها في قراراتهم اليومية،
فيُصبح السلوك الفردي امتدادًا طبيعيًا لثقافتها المؤسسية.
🧠 ثالثًا: من الجدارات الفردية إلى الجدارات المؤسسية
من الناحية المفاهيمية، تتكوّن المنظومة الجداراتية من مستويين متكاملين:
1️⃣ الجدارات الفردية (Individual Competencies):
وهي القدرات التي يمتلكها الأفراد وتمكّنهم من أداء وظائفهم بفعاليةٍ وكفاءة.
وتشمل المعرفة، والمهارة، والسلوك، والدافعية، والقدرة على التعلّم.
2️⃣ الجدارات المؤسسية (Organizational Competencies):
وهي القدرات التي تمتلكها المؤسسة كمجموعةٍ متكاملةٍ،
مثل قدرتها على الابتكار، وإدارة المعرفة، وبناء الشراكات، والتحسين المستمر.
العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين الخلايا والجسد.
فلا يمكن للجسد أن يكون قويًا إذا كانت خلاياه ضعيفة،
ولا يمكن للخلايا أن تزدهر إذا كان الجسد مريضًا.
فالمؤسسة الجداراتية تبني قوتها المؤسسية من مجموع الجهود الفردية الواعية،
وتمنح الأفراد بيئةً تمكّنهم من تطوير جداراتهم باستمرار.
وهكذا يتحقق التوازن بين “النظام الذي يُمكّن” و“الإنسان الذي يُسهم”،
فتنشأ بيئة عملٍ واعيةٍ تنمو فيها الجدارة كما تنمو القيمة.
⚙️ رابعًا: الجدارات في منظومة التميز المؤسسي (EFQM – CIPD – SHRM)
تتعامل النماذج العالمية مع الجدارات بوصفها البنية العميقة للتميز المؤسسي،
فهي الرابط الخفي بين الاستراتيجية، والثقافة، والعمليات.
في نموذج EFQM، تُعتبر الجدارات أحد مُمكّنات (Enablers) محور “الأفراد”،
ويُقيَّم التميز المؤسسي بمدى قدرة المؤسسة على تطوير وتوظيف الجدارات الفردية لتحقيق نتائج مستدامة.
أما CIPD فتربط الجدارات بالمهنية والأخلاق في الأداء،
وتعتبر أن التميز لا يُقاس فقط بالنتائج بل بالقيم التي تقف وراء تلك النتائج.
بينما SHRM ترى في الجدارات أداةً استراتيجيةً لتوحيد السياسات والعمليات،
حيث تُستخدم في التوظيف، والتدريب، وإدارة الأداء، وتخطيط التعاقب الوظيفي،
لتضمن أن المؤسسة تعمل كمنظومةٍ واحدةٍ تحكمها المعايير نفسها في السلوك والنتائج.
بهذه المقاربة، تتحول الجدارات من مجرد أداةٍ في الموارد البشرية إلى قوةٍ استراتيجيةٍ لإدارة الثقافة المؤسسية.
🏛️ خامسًا: التطبيق الخليجي – من تقييم الأداء إلى بناء ثقافة التميز
في التجارب الخليجية الحديثة،
برزت الجدارات كأحد الأعمدة الرئيسة في تحقيق التكامل بين الأداء الفردي والاستراتيجية الوطنية.
🔹 في المملكة العربية السعودية،
أكّد الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي (2017) أن تقييم الموظف لا يُقاس بالنتائج فقط،
بل أيضًا بالسلوكيات الوظيفية التي تعبّر عن الجدارات السلوكية والقيادية.
كما حدّد إطار الكفاءات التخصصية والسلوكية (2020) أن الجدارات تُستخدم في بناء الخطط التدريبية، وربطها بنتائج الأداء السنوي،
مما جعلها أداةً عمليةً في تطوير رأس المال البشري ضمن مسار التحول الوطني.
🔹 أما في دولة الإمارات العربية المتحدة،
فقد جعل نظام إدارة الأداء الحكومي (EPMS) الجدارات محورًا رئيسيًا في كل مراحل الدورة السنوية للأداء،
حيث تُستخدم في:
-
تحديد الأهداف الفردية.
-
إجراء الحوار النصف سنوي.
-
صياغة خطط التطوير الفردي (IDP).
-
إعداد التقييم السنوي النهائي.
وأصبحت الجدارة جزءًا من الثقافة الحكومية ذاتها،
إذ يُنظر إلى الموظف لا كمُنفّذٍ للأوامر، بل كصانعٍ للتميز الوطني من خلال سلوكه وأخلاقياته.
بهذا، تحوّلت الجدارات من مفهومٍ إداريٍّ إلى قيمةٍ وطنيةٍ تُجسّد روح الحوكمة، وتربط بين كفاءة الأداء وجودة الإنسان.
🧩 سادسًا: الأثر الثقافي والمعرفي للجدارات في بيئة العمل
لا يمكن الحديث عن التميز المؤسسي دون الحديث عن الثقافة المؤسسية التي تُغذّيه.
فالجدارات لا تنشأ في الفراغ، بل تُبنى وتُغذّى في بيئةٍ تنظيميةٍ تمتلك ثقافةً داعمةً للتعلّم والانفتاح والمساءلة.
حين تكون المؤسسة قائمةً على ثقافة الخوف أو المحاباة،
فإنّ الجدارة تُصبح شكليةً لأنّ السلوك لا يُكافأ بعدله.
أما حين تسود ثقافة الثقة والتغذية الراجعة البنّاءة،
فإنّ الموظف يُصبح أكثر استعدادًا لتجسيد الجدارات المطلوبة.
وهنا يظهر البعد المعرفي العميق للجدارات:
فهي ليست مجرد سلوكٍ خارجي، بل نظام تفكيرٍ إدراكيٍّ (Cognitive System)
يُعيد تشكيل طريقة الفرد في فهم ذاته، وفهم الآخرين، وفهم المؤسسة التي يعمل فيها.
وقد أكّدت أبحاث علم النفس التنظيمي أنّ المؤسسات التي تبني ثقافتها على الجدارات تُحقق:
-
ارتفاعًا في الولاء الوظيفي بنسبة تصل إلى 30%.
-
تحسنًا في مؤشرات الأداء المؤسسي بمعدل 20–25%.
-
انخفاضًا في معدل دوران الموظفين نتيجة شعورهم بالعدالة والانتماء.
وهذه الأرقام — وإن اختلفت من بيئةٍ إلى أخرى — تؤكد حقيقةً واحدة:
أنّ الاستثمار في الجدارة هو استثمارٌ في الثقافة قبل أن يكون في المهارة.
⚙️ سابعًا: الجدارات كمحرّكٍ للاستدامة والتحسين المستمر
إنّ أحد أعظم الأدوار التي تؤديها الجدارات هو تمكين المؤسسة من التحسين المستمر (Continuous Improvement).
فحين تُصبح الجدارات جزءًا من النظام المؤسسي،
يُصبح التعلّم جزءًا من الأداء ذاته،
ويتحول الخطأ إلى فرصةٍ للتطوير،
ويُصبح التقييم وسيلةً للنموّ لا أداةً للمحاسبة فقط.
وهذا هو جوهر فلسفة Kaizen اليابانية التي تلتقي مع الفكر الجداراتي في رؤيةٍ واحدة:
أنّ التميز لا يُصنع في يومٍ، بل يُبنى بالتكرار الواعي للسلوك الصحيح.
ولهذا، نجد أن المؤسسات الجداراتية لا تُكرّر نفسها،
بل تتعلّم من نفسها،
فهي تمتلك “ذاكرةً سلوكيةً” تحفظ أفضل الممارسات وتُحسّنها باستمرار.
ومن هنا يمكن القول إنّ الجدارات ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها.
فكل جدارةٍ تُقاس وتُطوّر تُصبح خطوةً في مسارٍ طويلٍ من النضج المؤسسي الذي لا يتوقف.
🌿 ثامنًا: الرؤية التحليلية الختامية
إنّ الجدارات هي النسيج الذي يربط خيوط الأداء الفردي بخارطة التميز المؤسسي.
فمن خلالها يتحوّل الموظف من منفّذٍ إلى شريك،
والقائد من مراقبٍ إلى مُمكّن،
والمؤسسة من كيانٍ إداريٍّ إلى كيانٍ متعلمٍ ومُلهم.
فهي تمثل الضمير الحيّ للأداء المؤسسي،
تُوازن بين العقل والعاطفة، بين الهدف والقيمة، وبين النتيجة والطريقة.
وحين تُصبح الجدارات جزءًا من الحمض النووي للمؤسسة،
فإنّ التميز لم يعد خيارًا استثنائيًا،
بل سلوكًا يوميًا متكررًا يُمارسه الجميع بوعيٍ، لأنهم يرونه انعكاسًا لهويتهم المهنية والإنسانية.
إنّ المؤسسة التي تُدير جداراتها بوعيٍ تُدير مستقبلها بثقة،
لأنها لا تُراهن على السياسات، بل على الإنسان الذي يصنعها.
ومن هنا، فإنّ الجدارات هي الجسر الذي يربط الأداء بالإنسانية، والنتائج بالرسالة، والتميّز بالاستدامة.
🔚 الخاتمة التحليلية الشاملة
حين نتأمل رحلة “الجدارات” من جذورها الفكرية الأولى إلى تجلياتها المؤسسية الحديثة، ندرك أننا أمام مفهومٍ ليس مجرد مصطلحٍ إداريٍّ أو إجراءٍ تنظيميٍّ، بل أمام منظورٍ فلسفيٍّ متكاملٍ لإدارة الإنسان داخل المنظومة المؤسسية.
لقد انتقلت الإدارة عبر العقود من التركيز على المهام إلى التركيز على الأهداف، ثم إلى التركيز على الإنسان بوصفه محور الأداء، والجدارة هي التعبير العلمي عن هذا التحول العميق في الوعي الإداري.
فالجدارة ليست “ما يفعله الموظف” فقط، بل “كيف يُفكّر ويتصرف ويُعبّر عن ذاته المؤسسية.”
إنها المزيج الدقيق بين المعرفة والمهارة والسلوك والقيمة، الذي يجعل الأداء فعّالًا، متكررًا، ومستدامًا.
ومن هنا تأتي قوتها: فهي لا تقيس فقط ما تحقق، بل تكشف ما وراء ذلك — أي المنظومة الذهنية والسلوكية التي أنتجت الأداء.
🧭 أولًا: من المعرفة إلى الوعي
لقد كان الفكر الإداري القديم يكتفي بقياس ما يعرفه الفرد،
ثم تطور لقياس ما يستطيع فعله،
ثم بلغ ذروته حين بدأ في قياس كيف يتصرف ولماذا يفعل.
في هذا التطور، تمثل الجدارة نقطة العبور من التعليم إلى الوعي،
ومن التدريب إلى التمكين،
ومن المخرجات إلى القيم.
إنّ المؤسسة التي تبني نظامها على الجدارات لا تكتفي بتدريب موظفيها على المهارات،
بل تُنمّي فيهم وعيًا سلوكيًا يجعلهم يتصرفون وفق قيمٍ مشتركةٍ حتى في غياب الرقابة.
وهنا يتحول الانضباط من خارجيٍّ إلى داخليٍّ،
ويصبح الالتزام نابعًا من القناعة لا من اللوائح.
⚙️ ثانيًا: من الأداء الفردي إلى الثقافة المؤسسية
تُعيد الجدارة تعريف الأداء الفردي من كونه مجرد تحقيق أهدافٍ إلى كونه إسهامًا في بناء الثقافة المؤسسية.
فكل سلوكٍ جديرٍ يُكرّر ويُكافأ يتحول إلى عادةٍ مؤسسيةٍ،
وكل عادةٍ مؤسسيةٍ تُكرّس تصبح جزءًا من هوية المؤسسة.
وحين تُصبح الجدارات لغة المؤسسة، تتحول الإدارة إلى ثقافةٍ حيةٍ تتجسّد في تفاصيل العمل اليومي.
حينها لا يكون القائد هو من يُصدر الأوامر،
بل من يُجسّد القيم ويُلهم الآخرين ليتصرّفوا بها.
ولا يكون الأداء فعلًا منفصلًا، بل حالةً جماعيةً من الانسجام التنظيمي،
يتصرف فيها الجميع وكأنهم كيانٌ واحدٌ تحكمه القيم ذاتها.
🧠 ثالثًا: من النظام إلى الإنسان
إنّ الجدارات تُعيد الاعتبار إلى الإنسان داخل النظام،
فهي لا ترى فيه ترسًا في آلة، بل عقلًا وقلبًا وضميرًا وموقفًا.
إنّ النظام بلا جداراتٍ يُنتج الطاعة،
لكن النظام بالجدارات يُنتج الوعي.
والفرق بين الطاعة والوعي هو الفرق بين المؤسسة التي تُدار بالقواعد،
والمؤسسة التي تُقاد بالقيم.
فالجدارات تزرع في كل موظفٍ بذرة القيادة،
وتجعله مسؤولًا عن قراره وسلوكه ونتيجته.
وحين يتحول كل فردٍ إلى “قائدٍ في موقعه”،
تُصبح المؤسسة كيانًا ناضجًا، متكاملًا، قادرًا على التعلم الذاتي والتجدد المستمر.
وهذا هو جوهر الفلسفة التي تبنّتها النماذج الخليجية الحديثة،
إذ لم تكتفِ باستيراد أدوات القياس من الغرب،
بل أضافت إليها الروح القيمية العربية والإسلامية،
لتجعل الجدارة لا مجرد سلوكٍ مهنيٍّ، بل أمانةً أخلاقيةً ومسؤوليةً وطنيةً.
🏛️ رابعًا: من التنظيم إلى التميز
في النماذج التقليدية، كانت المؤسسة تُنظّم العمل لتضمن الانضباط،
أما في النماذج الجداراتية، فهي تُنمّي الإنسان لتصنع التميز.
فالجدارة هي البنية التحتية للتميز المؤسسي،
لأنها تُحوّل المبادئ إلى ممارسةٍ، والرؤية إلى سلوكٍ، والاستراتيجية إلى ثقافةٍ.
ومن دونها، يظل التميز شعارًا تجميليًا، لا واقعًا عمليًا.
ولهذا، نجد أن كل نماذج التميز العالمية — من EFQM إلى Baldrige —
تضع “الأفراد والقيادة الجداراتية” في قلب معاييرها،
لأنها تدرك أن الأنظمة يمكن نسخها، لكن السلوك لا يُستنسخ.
إنّ ما يميّز المؤسسة المتميزة حقًا هو أسلوبها الفريد في التفكير والعمل والتفاعل.
🌿 خامسًا: من الحوكمة إلى الاستدامة
لقد نقلت الجدارة مفهوم الحوكمة من مراقبة الأداء إلى قيادة الأداء.
فالمؤسسة الجداراتية لا تكتفي بوضع ضوابط للامتثال،
بل تبني نظامًا يضمن أن الامتثال ينبع من الداخل.
وعندما يُبنى الأداء على الجدارة،
تتحقق الاستدامة لأنّ السلوك الصحيح يتكرر دون إجبارٍ أو متابعةٍ مفرطة.
فالإنسان الجدير يُصبح نظامًا ذاتيًا للانضباط،
والمؤسسة الجداراتية تُصبح نظامًا حيًا للتجدد.
وهكذا تتحقق الاستدامة المؤسسية لا لأنها وُضعت في خطةٍ،
بل لأنها تترسخ في السلوك اليومي، وفي الوعي الجمعي للمؤسسة.
💡 سادسًا: البعد الخليجي – الهوية كمرجعية للجدارة
تُعدّ التجارب الخليجية في إدارة الأداء عبر الجدارات تجربةً فريدةً عالميًا،
لأنها لم تكتفِ باعتماد النماذج الدولية (CIPD، SHRM، EFQM)،
بل أعادت تأطيرها في سياقٍ وطنيٍّ وثقافيٍّ عميقٍ،
يربط الجدارة بالقيم الوطنية والهوية المؤسسية.
في المملكة العربية السعودية، أصبحت الجدارة جزءًا من منظومة العدالة الإدارية التي تضمن التقييم الموضوعي،
وفي الإمارات العربية المتحدة، أصبحت الجدارة لغة القيادة الحديثة التي تربط بين الأداء والسعادة والإيجابية.
لقد تجاوزت هذه النماذج فكرة “قياس الأداء” إلى “بناء الإنسان”،
وتحوّلت من أدواتٍ للموارد البشرية إلى أدواتٍ للتحول الوطني والتميز الحكومي،
حتى أصبح من الممكن القول إنّ الجدارة اليوم هي التعبير الإداري عن فلسفة التنمية البشرية في الخليج.
⚙️ سابعًا: التكامل بين العقل والقيمة
من أبرز ما تُحققه الجدارات هو التوازن بين العقل المؤسسي والقيمة الإنسانية.
فهي تجمع بين التحليل والانتماء،
وبين الفكر والأخلاق،
لتخلق نموذجًا للإنسان الفعّال الذي يعمل بإتقانٍ لأنه يُحب عمله،
ويُخلص لمؤسسته لأنها تُقدّر قيمته.
ففي الوقت الذي يسعى فيه العالم إلى الذكاء الاصطناعي،
تُعيد الجدارة الاعتبار إلى الذكاء الإنساني الأخلاقي الذي لا يُمكن برمجته.
إنها تعلّم المؤسسات أن التقنية تُنظّم، لكن القيم تُلهم،
وأنّ التميز لا يُقاس بما تمتلكه المؤسسة من أنظمةٍ،
بل بما تُجسّده من سلوكياتٍ حيّةٍ تعبّر عن روحها.
🧩 ثامنًا: الوعي الختامي – الجدارة كفلسفة حياةٍ مهنية
في نهاية هذه الرحلة الفكرية، يمكن القول إنّ الجدارة ليست مسارًا إداريًا فحسب،
بل أسلوب تفكيرٍ وحياةٍ مهنيةٍ راقيةٍ
تُعلّم الإنسان أن العمل ليس وسيلةً للبقاء فقط، بل مجالًا للازدهار والنموّ.
حين يُصبح السلوك المهني انعكاسًا للقيم،
وحين تتحول الجدارة إلى ثقافةٍ متجذّرةٍ في كل قرارٍ وسلوكٍ وموقف،
حينها لا تُصبح المؤسسة ناجحةً فحسب،
بل مُلهمةً للنجاح.
فالموظف الجدير ليس من يُنجز المهام،
بل من يُضيف المعنى إلى كل ما يُنجز،
والمؤسسة الجداراتية ليست من تُطبّق الأنظمة،
بل من تعيش رسالتها وتُترجمها سلوكًا يوميًا متكرّرًا.
إنّ هذا هو التميز الحقيقي:
أن يتحول الأداء من نتيجةٍ إلى ثقافةٍ،
ومن ثقافةٍ إلى هويةٍ،
ومن هويةٍ إلى وعيٍ جمعيٍّ يقود المؤسسة نحو الاستدامة والخلود الإداريّ.
✨ الخلاصة الفكرية
حين تُدار المؤسسة بالأنظمة فقط، فإنها تُنتج الالتزام.
وحين تُدار بالقيم فقط، فإنها تُنتج الحماس.
لكن حين تُدار بالجدارات، فإنها تُنتج الالتزام الواعي، والحماس المنضبط، والتميّز المستدام.
الجدارة إذًا ليست محطةً في طريق الأداء، بل هي الطريق ذاته.
ومن يسلك هذا الطريق بإيمانٍ وفهمٍ ووعيٍ،
سيكتشف أن أعظم ما تبنيه الجدارة ليس المؤسسة فحسب،
بل الإنسان القادر على تحويل كل تجربةٍ إلى قيمةٍ، وكل تحدٍّ إلى فرصةٍ، وكل سلوكٍ إلى تميزٍ.
✍🏻 التوثيق للمقال
📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات،
ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.
✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد:
د. محمد العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية،
بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.
📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية،
ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z
🌐 تصفّح المزيد من المقالات عبر الموقع:
👉 www.mohammedaameri.com
🏷️ #إدارة_الأداء_الوظيفي #الجدارات #Competencies #د_محمد_العامري #مهارات_النجاح #التطوير_المؤسسي #الجدارات_السلوكية #الجدارات_الوظيفية #الجدارات_القيادية #Competency_Framework #CIPD #SHRM #EFQM #ISO30414 #Human_Capital #التميز_المؤسسي #القيادة_التحفيزية #حوكمة_الأداء #التحسين_المستمر #الموارد_البشرية #HR_Development #Talent_Management #Performance_Management #Behavioral_Competencies #Leadership_Competencies #Saudi_Vision2030 #UAE_Government #ادارة_الموارد_البشرية #الكفاءات_الوطنية