د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

حوكمة الأداء الوظيفي: توزيع الأدوار والمسؤوليات في المنظومة الإدارية Governance of Employee Performance: Roles and Responsibilities within the Administrative System

يُحلّل هذا المقال مفهوم حوكمة الأداء الوظيفي من منظورٍ إداريٍ وتشريعيٍ متكامل، مبيّنًا كيف تُوزَّع الأدوار والمسؤوليات بين القيادة والموظف والجهات الرقابية لتحقيق العدالة، وضمان الاتساق، وترسيخ ثقافة المساءلة والتمكين في المنظومة المؤسسية.

October 27, 2025 عدد المشاهدات : 73

الحوكمة في عالم الإدارة ليست مجرد مفهومٍ رقابيٍ يُضاف إلى القوانين، بل هي روحُ النظام حين يسعى إلى أن يُدار بالشفافية والمسؤولية والتوازن. فحين نقول "حوكمة الأداء الوظيفي"، فإننا نتحدث عن بناءٍ مؤسسيٍ يضمن أن تكون كل عمليةٍ في منظومة الأداء محكومةً بمبدأٍ، وكل مسؤوليةٍ محددةً بوضوح، وكل سلطةٍ مقيدةً بضوابط العدالة. إن الحوكمة ليست نقيضًا للمرونة، بل هي التي تمنح المرونة معناها المنضبط، لأنها تُنظّم الحرية وتُحوّلها من فوضى المبادرات الفردية إلى نظامٍ متكاملٍ ينسجم فيه الجميع لتحقيق غايةٍ واحدة: الأداء العادل الفعّال الذي يخدم الإنسان والمؤسسة والوطن.

لقد نشأت فكرة حوكمة الأداء استجابةً لحاجةٍ مؤسسيةٍ ملحّةٍ إلى ضبط العلاقة بين مكونات النظام الإداري المختلفة، حين تبيّن أن غياب التحديد الدقيق للأدوار يُنتج تضاربًا في الصلاحيات، ويُضعف المحاسبة، ويُهدر العدالة. فالحوكمة جاءت لتقول بوضوحٍ من يضع الأهداف، ومن يُقيّم، ومن يُراجع، ومن يُحاسَب، ومن يُطوّر. بهذا التحديد تتحول المسؤولية من عبءٍ إداريٍ إلى التزامٍ مهنيٍ، ويصبح كل فاعلٍ في النظام يعرف حدوده ومجاله ومؤشراته. إنّ الحوكمة هي التي تمنح الأداء معنى النظام لا مجرد النشاط، وتمنح العدالة معنى التطبيق لا مجرد النص.

وتقوم فلسفة الحوكمة في الأداء على ثلاث ركائز: الوضوح، والمساءلة، والتوازن.
فالوضوح يُحدّد الأدوار ويمنع التداخل بين المهام، والمساءلة تُضمن من خلال تقارير الأداء المتدرجة والمراجعة المستقلة، والتوازن يتحقق حين تتكامل السلطة مع المسؤولية دون أن تطغى إحداهما على الأخرى. فالمدير الذي يملك سلطة التقييم يجب أن يُحاسَب على نزاهة قراراته، والموظف الذي يملك حرية الإنجاز يجب أن يتحمل مسؤولية النتائج، والجهات المركزية التي تضع القواعد يجب أن تُراجع أثرها في الميدان. بهذه المعادلة الثلاثية تستقر المنظومة وتُصبح العدالة ممارسةً يوميةً لا استثناءً.

وحين تُترجم الحوكمة إلى ممارسةٍ واقعيةٍ في أنظمة الأداء، فإنها تُعيد رسم المشهد الإداري بأكمله. فهي تجعل التخطيط عمليةً تشاركيةً، والتقييم عمليةً موثّقةً، والمتابعة عمليةً شفافةً، والمساءلة ثقافةً مؤسسيةً لا خوفًا رقابيًا. وهي تُعيد تعريف العلاقة بين الإدارة والموظف بوصفها علاقة ثقةٍ متبادلةٍ تُدار بالقواعد لا بالأهواء، وبالبيانات لا بالانطباعات. وبهذا تصبح الحوكمة لغةً جديدةً في الإدارة؛ لغةُ وضوحٍ تجعل الجميع يعرف ما له وما عليه، ولغةُ عدالةٍ تُحوّل التقييم من مجالٍ للجدل إلى أداةٍ للتحسين المستمر.


📚 فهرس للمقال

1️⃣ ⚙️ مفهوم الحوكمة في الأداء الوظيفي وأصولها الفكرية والإدارية
تحليل المفهوم من جذوره الفلسفية، وتطوره من الحوكمة المؤسسية إلى إدارة الأداء، وتبيان الفرق بين الحوكمة كقيمة والحوكمة كآلية.

2️⃣ 🧩 الهيكل التنظيمي للحوكمة في منظومة الأداء
كيف تتوزع المستويات الثلاثة: القيادة، والإدارة التنفيذية، والموظف، ضمن منظومةٍ قانونيةٍ متكاملةٍ تضمن الاتساق والعدالة.

3️⃣ 🏛️ الأدوار القيادية في صياغة التوجهات وضبط السياسات
دور القيادات العليا في ترسيخ ثقافة الأداء، وتحديد الاتجاهات، وموازنة السلطة بالمسؤولية، وربط الأداء برؤية المؤسسة الوطنية.

4️⃣ 📊 المسؤوليات التنفيذية للإدارات والمشرفين في إدارة دورة الأداء
كيف تُدار دورة الأداء يوميًا عبر الإشراف، والتوجيه، والحوار، والمتابعة، وآليات التنسيق الأفقي والرأسي بين المستويات.

5️⃣ 🧭 دور الموظف كشريكٍ في الأداء لا كموضوعٍ للتقييم
تطور نظرة النظام للموظف من منفذٍ للتعليمات إلى فاعلٍ واعٍ يشارك في وضع الأهداف ومراجعة النتائج وتحسين الأداء.

6️⃣ 🪞 الجهات الرقابية والمركزية كضامنٍ للعدالة والاتساق المؤسسي
تحليل دور الجهات العليا في المراجعة والتدقيق والتظلمات، وأثرها في ترسيخ العدالة المؤسسية ومنع تضارب المصالح.

7️⃣ 🤝 التكامل بين الحوكمة والتمكين: من الرقابة إلى المشاركة
كيف تُحوّل الحوكمة الحديثة مفهوم الإشراف إلى مفهوم الشراكة، وتُعيد بناء علاقة الثقة بين القيادة والموظفين.

8️⃣ 🌍 آفاق تطوير حوكمة الأداء في العالم العربي والخليج
استشراف مستقبل الحوكمة في الأداء العربي، من اللوائح الورقية إلى الأنظمة الذكية القائمة على التحليل التنبئي والذكاء الاصطناعي.


⚙️ مفهوم الحوكمة في الأداء الوظيفي وأصولها الفكرية والإدارية

حين نُحلّل مفهوم الحوكمة في الأداء الوظيفي، فإننا ندخل إلى أحد أكثر المفاهيم عمقًا في الفكر الإداري الحديث، لأنه يجمع بين القانون والأخلاق، وبين الانضباط والتمكين، وبين النظام والإنسان. الحوكمة ليست نصوصًا تشريعيةً أو هياكل تنظيميةً فقط، بل هي منهج تفكيرٍ إداريٍ يُعيد ترتيب العلاقة بين السلطة والمسؤولية، ويجعل كل قرارٍ داخل المؤسسة جزءًا من نظامٍ متكاملٍ تحكمه القيم، وتوجّهه الاستراتيجية، ويضبطه القانون. إنها فلسفةُ توازنٍ دقيقٍ بين الحرية والمساءلة، وبين الثقة والرقابة، وبين الحافز والانضباط، لأنّ الأداء لا يُدار في فراغٍ، بل في شبكةٍ من العلاقات المؤسسية والإنسانية التي تحتاج إلى ضابطٍ ينظّمها ويمنع انحرافها عن غاياتها الكبرى.

لقد نشأت فكرة الحوكمة أصلًا في الفكر الاقتصادي، حين أدرك المنظرون أنّ المؤسسات لا يمكن أن تظل تُدار بقراراتٍ فرديةٍ أو اجتهاداتٍ آنية، وأنّ نجاحها يتطلب إطارًا مؤسسيًا يضمن الشفافية والعدالة واستمرارية القرار. ثم تطوّر المفهوم في الإدارة العامة ليصبح أداةً لضبط الأداء الحكومي، وحماية المال العام، وتكريس مبادئ المساءلة والمسؤولية. ومع توسع الدولة الحديثة وتشعّب أجهزتها، انتقل مفهوم الحوكمة إلى مجال الموارد البشرية، ليُصبح "حوكمة الأداء" أحد أهم أشكال التطبيق العملي للعدالة المؤسسية، إذ لم يعُد الأداء مجرد مخرجاتٍ تُقاس، بل منظومةً تُدار وفق ضوابطٍ أخلاقيةٍ وتشريعيةٍ دقيقةٍ تضمن المساواة وتمنع الانحراف.

في جوهرها، الحوكمة في الأداء هي تحويل القيم إلى قواعد، والقواعد إلى ممارسات، والممارسات إلى ثقافة. فحين تضع المؤسسة نظامًا للأداء، فإنّها لا تُنشئ عملية تقييمٍ فحسب، بل تخلق لغةً مؤسسيةً تُعبّر عن رؤيتها للعلاقة بين الإنسان والعمل، بين الجهد والمكافأة، بين الحرية والمحاسبة. ولأن الأداء الوظيفي يمسّ جوهر العدالة داخل المؤسسة، فقد أصبحت الحوكمة هي الضمان الأعلى لاستقامة هذه العدالة، إذ تحدّد من يُقيّم ومن يُراجِع ومن يُحاسَب، وتُحوّل العملية من تفاعلٍ شخصيٍ بين رئيسٍ ومرؤوسٍ إلى نظامٍ مؤسسيٍ محكومٍ بالإجراءات والمعايير.

الحوكمة بهذا المعنى هي الوعي المنظّم الذي يحرس الأداء من التحيّز، لأنّها تُخضع جميع الأطراف للمنهج نفسه: الرئيس يخضع للمساءلة عن عدالته، والموظف يُحاسَب على التزامه، والمؤسسة تُقاس بمدى نزاهتها في إدارة منظومة الأداء ككلّ. وبهذا تتحول الحوكمة من سلطةٍ فوقيةٍ إلى منظومةٍ تشاركيةٍ تصنع الثقة من خلال التوازن بين الحقوق والواجبات. إنها ليست تقييدًا للمدير ولا تحررًا للموظف، بل نظامٌ يُعيد توزيع الأدوار بحيث يُصبح الجميع شركاء في صناعة الأداء.

ولكي نفهم أصول الحوكمة في الأداء، لا بدّ أن نُدرك أنها نتاجُ تطوّرٍ في الوعي الإداري نحو المسؤولية المؤسسية. ففي السابق كان المدير يرى نفسه مالك القرار الأوحد، والموظف يرى نفسه منفذًا خاضعًا، أما اليوم فقد أصبحت المؤسسة كائنًا حيًا يملك ذاكرةً ونظامًا وضميرًا إداريًا. وهذا الضمير هو ما تجسّده الحوكمة؛ فهي التي تمنح المؤسسة صوت العدالة حين تُصدر القرار، وذاكرة النزاهة حين تُراجع نتائجها. ولهذا فإنّ الحوكمة ليست إجراءً يُضاف إلى النظام، بل هي روحه التي تمنحه الاستقرار والمرونة في آنٍ واحدٍ.

تاريخيًا، يمكن القول إنّ حوكمة الأداء ظهرت استجابةً للتحدي المزدوج الذي واجه المؤسسات الحديثة: الحاجة إلى الانضباط في مواجهة الفوضى، والحاجة إلى المرونة في مواجهة الجمود. فهي وُلدت من رحم الصراع بين المركزية واللامركزية، وبين التفويض والمساءلة، وبين السلطة والثقة. وجاءت لتقول إنّ التوازن ممكنٌ إذا بُني النظام على أسسٍ واضحةٍ من المسؤولية والشفافية. ولهذا فإنّ الحوكمة تُعدّ شكلًا من أشكال التنظيم الذاتي للمؤسسات، حيث تتولى المنظومة تصحيح نفسها من الداخل دون انتظار أوامر من الخارج.

وفي البيئة العربية والخليجية، اكتسب مفهوم الحوكمة في الأداء بعدًا خاصًا، لأنه جاء في سياق التحول من الإدارة التقليدية القائمة على التوجيه الفردي إلى الإدارة المؤسسية القائمة على النظام. فالدول التي تبنّت رؤى وطنية للتحول الحكومي — مثل رؤية السعودية 2030 ورؤية الإمارات 2071 — جعلت الحوكمة إحدى ركائز الإصلاح الإداري، ليس فقط في الجوانب المالية أو المؤسسية، بل في صميم إدارة الموارد البشرية. وهكذا تحولت حوكمة الأداء من أداةٍ فنيةٍ إلى مشروعٍ وطنيٍ لضبط العدالة في بيئات العمل، وربط الأداء الفردي بالأداء الوطني ضمن رؤيةٍ شاملةٍ تجعل الكفاءة معيارًا، والعدالة قاعدةً، والشفافية شرطًا أساسيًا لنجاح المؤسسة.

ومن الناحية الفكرية، فإنّ الحوكمة في الأداء تمثل التقاء ثلاثة عوالمٍ متداخلةٍ: العالم القانوني الذي يُحدّد القواعد، والعالم الإداري الذي يُنظّم العمليات، والعالم القيمي الذي يُوجّه السلوك. فإذا غاب أحدها اختلّ النظام. فالقانون دون قيمٍ يُنتج بيروقراطيةً متحجرةً، والقيم دون قانونٍ تُنتج فوضى من الاجتهادات، والإدارة دون الاثنين تُصبح ممارسةً عشوائيةً. ولهذا فإنّ الحوكمة هي التي تُحدث هذا الانسجام، فتجعل القانون مرنًا، والقيم عمليةً، والإدارة عادلةً. إنها التجسيد العملي لفكرة أن العدالة لا تُبنى بالنية بل بالمنهج، وأن الأداء لا يُدار بالأمر بل بالقيمة، وأن القيادة لا تُقاس بالسلطة بل بالقدرة على بناء نظامٍ عادلٍ ومستدام.

إنّ الحديث عن حوكمة الأداء في زمن التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي يحمل أيضًا بعدًا جديدًا هو حوكمة البيانات، لأن العدالة في الأداء أصبحت تعتمد على دقة المعلومات أكثر من الأحكام الذاتية. فالمستقبل القريب سيشهد أنظمة أداءٍ تتغذى من قواعد بياناتٍ ضخمةٍ تُحدّث لحظيًا، وتُصدر تنبيهاتٍ عن الانحرافات قبل وقوعها، وتُقيّم الأداء وفق مؤشراتٍ علميةٍ لا انطباعاتٍ شخصية. هذه النقلة النوعية لن تُضعف البعد الإنساني في الحوكمة، بل ستعزّزه، لأنها ستجعل الحوار أكثر موضوعيةً، والقرارات أكثر استنارةً، والثقة أكثر رسوخًا.

إنّ الحوكمة في الأداء ليست ترفًا إداريًا ولا استجابةً مؤقتةً لموجةٍ عالميةٍ، بل هي تطوّرٌ طبيعيٌ في وعي المؤسسة الحديثة التي تدرك أن العدالة لا تُترك للمزاج، وأن الأداء لا يُدار بالعشوائية، وأن الثقة لا تُبنى على الصدفة. إنها خلاصة تجربةٍ بشريةٍ طويلةٍ مع الإدارة، تبيّن فيها أن أقصر طريقٍ إلى الكفاءة هو العدالة، وأنّ أقوى ضمانٍ للعدالة هو النظام، وأنّ أسمى صور النظام هي تلك التي تُدار بالحوكمة، لأنها تجعل المؤسسة قادرةً على أن تُراجع نفسها بنفسها، وتُحاسب نفسها قبل أن يُحاسبها الآخرون، وتتعلم من أخطائها لتصنع من الأداء علمًا ومن العدالة ثقافةً ومن الكفاءة أسلوب حياةٍ مؤسسيةٍ راقية.


🧩 الهيكل التنظيمي للحوكمة في منظومة الأداء

إنّ بناء الهيكل التنظيمي للحوكمة في منظومة الأداء الوظيفي هو الخطوة التي تُحوّل الفكرة إلى ممارسةٍ، والمبدأ إلى نظامٍ، والقيمة إلى سلوكٍ مؤسسيٍّ منضبطٍ ومتكررٍ. فالهيكل ليس مجرد توزيعٍ للمهام، بل هو هندسةٌ دقيقةٌ لمسار السلطة والمسؤولية والمساءلة، بحيث تتكامل المستويات الإدارية الثلاثة — القيادة، التنفيذ، والموظف — ضمن منظومةٍ موحدةٍ تضمن التوازن بين الحقوق والواجبات، وتحوّل العدالة من شعارٍ إداريٍ إلى بنيةٍ تنظيميةٍ صلبةٍ يمكن قياسها ومراجعتها وتطويرها.

حين نُمعن النظر في طبيعة الهيكل الحوكموي للأداء، نجد أنّه يقوم على التدرج الهرمي للمسؤولية المؤسسية، حيث تتوزع الأدوار بشكلٍ يضمن وضوح الصلاحيات من جهة، ووضوح أدوات الرقابة من جهةٍ أخرى. فالقيادة العليا تُشكّل رأس الهرم، وهي الجهة التي تُحدّد الرؤية العامة، وتُرسّخ المبادئ الكبرى التي تحكم نظام الأداء، كالقيم العدلية، والشفافية، والمساءلة، وتُصدر السياسات التي تُحدّد الإطار العام للأداء في المؤسسة. ثم تأتي في المستوى الثاني الإدارات التنفيذية والمشرفون الذين يُحوّلون هذه السياسات إلى خططٍ وأهدافٍ قابلةٍ للقياس، ويتابعون الأداء على مستوى الأفراد والفرق. أما المستوى الثالث، وهو الأوسع في القاعدة، فيمثّله الموظفون الذين يُعدّون الفاعل الأساسي في تطبيق السياسات وتحقيق النتائج، إذ هم الذين يُترجمون الأهداف المؤسسية إلى إنجازاتٍ يوميةٍ واقعيةٍ.

لكنّ الهيكل التنظيمي للحوكمة لا يكتفي بهذا التقسيم الرأسي، بل يُضيف إليه بُعدًا أفقيًا يُعرف بـ التكامل الوظيفي بين الوحدات. فالمنظومة الحديثة لإدارة الأداء لا تنجح بالسلطة وحدها، بل تحتاج إلى التنسيق بين الإدارات التي تتقاطع في مسؤوليات الأداء، مثل إدارة الموارد البشرية، وإدارة التخطيط الاستراتيجي، ووحدات التدريب، وإدارة الجودة، والمراجعة الداخلية. إذ إنّ كلٍّ منها يمارس دورًا محددًا في ضمان العدالة والاتساق. فالموارد البشرية تُشرف على الإطار العام للسياسات، والتخطيط يربط الأداء بالأهداف الاستراتيجية، والتدريب يُعالج فجوات الجدارات، والجودة تُراقب الاتساق، والمراجعة الداخلية تُقيّم سلامة التطبيق. وهكذا تتشكّل شبكةٌ معقدةٌ لكنها منسجمةٌ من العلاقات التي تجعل الحوكمة نظامًا حيًّا يتغذى بالبيانات ويراجع نفسه باستمرارٍ.

ومن الركائز الأساسية لهذا الهيكل أنّه يفصل بين الوظائف التنفيذية والرقابية دون أن يقطع التواصل بينهما. فالجهة التي تضع السياسات لا تُقيّم الأداء، والجهة التي تُقيّم لا تُحاسب، والجهة التي تُحاسب لا تُخطّط. هذا الفصل هو جوهر الحوكمة، لأنه يمنع تضارب المصالح، ويحمي النظام من الانحياز. ففي كثيرٍ من المؤسسات التقليدية كانت الإدارة نفسها تُقيّم نتائج قراراتها، فكانت العدالة تذوب في تضارب الأدوار. أما في المنظومات الحديثة، فإنّ الهيكل يُصمم بحيث تُمارس كل جهةٍ دورها ضمن حدودها، ويُفرض التنسيق بينها عبر مساراتٍ رسميةٍ تُسجَّل وتُراجع دورياً.

ويتّسم الهيكل الناجح لحوكمة الأداء بأنه ديناميكيٌّ ومتجدّد، إذ لا يُصمَّم مرةً واحدةً ويُترك، بل يُراجع دوريًا وفق نتائج الأداء والتحديات التنظيمية. فكل مرحلةٍ من مراحل دورة الأداء تُنتج معرفةً جديدةً قد تستدعي إعادة توزيع الأدوار أو تعديل مسار السلطة أو إنشاء وحدات دعمٍ جديدةٍ. فمثلًا، قد تُكتشف فجوةٌ في إدارة الحوار أثناء المراجعة النصف سنوية، فتُستحدث وحدةٌ تُعنى بتدريب المشرفين على مهارات الحوار البنّاء، أو قد تظهر حاجةٌ إلى آليةٍ أكثر فعاليةٍ للتظلّم، فتُنشأ لجنةٌ مستقلةٌ تعزّز مصداقية النظام. وبهذا يتحوّل الهيكل من وثيقةٍ جامدةٍ إلى نظامٍ يتطور مع وعي المؤسسة بذاتها.

إنّ الهيكل التنظيمي للحوكمة في الأداء لا يُبنى فقط على المخططات، بل على الثقافة التنظيمية التي تؤمن بأنّ العدالة مسؤوليةٌ مشتركة. فكلما زاد وعي العاملين بدورهم في النظام، زادت فاعلية الهيكل. فالهيكل لا يضبط السلوك إلا بقدر ما تكون القيم الداخلية منسجمةً معه. ولهذا فإنّ المؤسسات التي تنجح في تطبيق الحوكمة هي التي لا تكتفي برسم الحدود الإدارية، بل تُغرس في موظفيها فلسفة النظام القائم على النزاهة والتعاون والاحترام المتبادل. عندها يصبح كل موظفٍ — من أعلى القيادة إلى أصغر عاملٍ — جزءًا من منظومةٍ أخلاقيةٍ تُراقب ذاتها وتُصلح مسارها من الداخل.

ويُشكّل التوثيق في هذا الهيكل العمود الفقري للحوكمة، لأنّ النظام العادل لا يقوم على النوايا بل على الأدلة. فكل مرحلةٍ من مراحل الأداء — من تحديد الأهداف إلى التقييم إلى التحسين — يجب أن تكون موثّقةً بوضوحٍ بحيث يُمكن الرجوع إليها ومراجعتها عند الحاجة. وهذا التوثيق لا يُستخدم فقط للمساءلة، بل للتعلّم والتحسين، إذ يُتيح للمؤسسة تحليل القرارات وفهم أسباب النجاح أو الإخفاق. ومن هنا يظهر البعد العلمي للحوكمة، فهي ليست رقابةً لحظيةً بل معرفةٌ تراكميةٌ تُبنى عبر الأرشفة والتحليل والمقارنة.

إنّ تصميم الهيكل التنظيمي للحوكمة في منظومة الأداء يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ تصميم الجهاز العصبي في الجسد البشري، حيث تتوزع المهام بين مراكز القيادة ومراكز الاستجابة، وتنتقل الإشارات عبر مساراتٍ واضحةٍ تضمن التواصل السليم دون تداخلٍ أو بطءٍ أو انقطاعٍ. فالقيادة هي الدماغ الذي يضع التوجه، والإدارة التنفيذية هي الأعصاب التي تنقل الأوامر، والموظفون هم الأطراف التي تُنفّذ الحركة، والجهات الرقابية هي الحواس التي تُبلّغ عن الخطأ وتمنع الضرر. وكلما كان هذا النظام منسجمًا، كان الأداء أكثر اتزانًا واستجابةً وفاعليةً.

وفي السياق الخليجي والعربي، تزداد أهمية بناء هذا الهيكل بسبب التنوع الكبير في طبيعة المؤسسات وتفاوت مستويات النضج الإداري بينها. فبعض الجهات الحكومية قطعت شوطًا في بناء أنظمةٍ رقميةٍ متكاملةٍ لإدارة الأداء، بينما لا تزال جهاتٌ أخرى في مراحلها الأولى من التحول. لذا فإنّ بناء الهيكل لا يكون موحّدًا، بل يُصمَّم وفق نموذج النضج المؤسسي (Maturity Model) الذي يُحدّد لكل مؤسسةٍ مستوى الحوكمة الملائم لها، ويضع خطةً تصاعديةً لتطويره حتى تصل إلى مرحلة النضج الكامل حيث تُدار منظومة الأداء تلقائيًا من خلال سياساتٍ مؤتمتةٍ ومؤشراتٍ ذكيةٍ وأدوارٍ واضحةٍ ومستقرةٍ.

وختامًا، يمكن القول إنّ الهيكل التنظيمي للحوكمة في منظومة الأداء هو الترجمة العملية لمفهوم العدالة الإدارية. فحين يُبنى الهيكل على وضوح الأدوار، وتكامل المستويات، وفصل السلطات، وتوثيق القرارات، فإنّ العدالة لا تبقى شعارًا، بل تتحول إلى نظامٍ حيٍّ ينبض في كل تفاعلٍ إداريٍ. إنه البنية التي تُمكّن الأداء من أن يُدار لا بالاجتهاد، بل بالمنهج، ولا بالسلطة، بل بالثقة، ولا بالعقوبة، بل بالمسؤولية، فتُصبح الحوكمة حينها فنًّا في إدارة التوازن بين النظام والإنسان، وبين النص والضمير.


🏛️ الأدوار القيادية في صياغة التوجهات وضبط السياسات

تُمثّل القيادة في منظومة الأداء الوظيفي العقل المفكّر والقلب النابض للنظام بأكمله، فهي التي تضع الاتجاه، وتُحدّد القيم، وتُوازن بين الأهداف التنظيمية والإنسانية، وتُترجم الرؤية الاستراتيجية للمؤسسة إلى فلسفةٍ عمليةٍ تُدار بها الموارد البشرية بعدالةٍ وفاعليةٍ. ولأنّ الحوكمة لا يمكن أن تُمارَس في فراغٍ، فإنّ القيادة هي التي تمنحها الحياة وتُضفي عليها المعنى، فهي التي تُجسّد العدالة في قراراتها، والشفافية في تواصلها، والمساءلة في ممارساتها، فتصبح القدوة قبل أن تكون سلطة، والموجّه قبل أن تكون الحاكم، والحاضن قبل أن تكون الرقيب.

إنّ الدور القيادي في حوكمة الأداء لا يقتصر على إقرار اللوائح أو متابعة التنفيذ، بل يبدأ من صناعة الرؤية المؤسسية للأداء، وهي الرؤية التي تُجيب عن السؤال الجوهري: لماذا نقيس الأداء؟ فحين يكون الهدف هو العقاب، تتحول المنظومة إلى رقابةٍ جامدةٍ تُطفئ روح المبادرة، أما حين يكون الهدف هو التطوير، فإنّ النظام يُصبح منصةً للنمو والتحفيز. وهنا يظهر البعد الفلسفي لدور القيادة في الأداء، إذ تُعيد تعريف الغاية من التقييم بوصفه وسيلةً للتعلّم لا للحكم، وأداةً للتمكين لا للسيطرة. فالقائد الواعي هو الذي يرى في تقييم موظفيه فرصةً لتطويرهم لا وسيلةً لفرزهم، ويُدرك أن العدالة الحقيقية لا تكمن في المساواة الشكلية بل في تمكين كل فردٍ من أن يُقدّم أفضل ما لديه وفق طاقاته وقدراته.

ومن مهام القيادة أيضًا ترجمة القيم المؤسسية إلى سياساتٍ قابلةٍ للتطبيق، لأنّ كثيرًا من المؤسسات تمتلك شعاراتٍ جميلةً عن العدالة والشفافية، لكنها لا تتحول إلى ممارسةٍ فعليةٍ إلا حين تُترجمها القيادة إلى لوائح ومعايير وإجراءاتٍ ملموسةٍ. فالقائد هو المشرّع الأول في نظام الأداء، لا بمعنى كتابة القوانين، بل بمعنى غرس الفهم الصحيح لها، وتفسيرها للآخرين، وضمان انسجامها مع ثقافة المؤسسة. فهو الذي يضع الإطار القيمي للحوكمة، ويُحدّد سقف الصلاحيات وحدود التدخل، ويضمن ألا تتحول السلطة إلى وسيلةٍ للمحاباة أو أداةٍ للإقصاء. فحين يمارس القائد صلاحياته بعدلٍ، فإنه يُعيد تعريف السلطة بوصفها مسؤوليةً لا امتيازًا، ويُحوّل الانضباط إلى قناعةٍ داخليةٍ لدى المرؤوسين لا إلى خوفٍ من العقوبة.

كما تتحمل القيادة مسؤولية تصميم البنية الاستراتيجية للسياسات التي تحكم دورة الأداء، بدءًا من ميثاق الأداء، مرورًا بالمراجعة النصف سنوية، وصولًا إلى التقييم النهائي وخطة التطوير الفردي. فكل مرحلةٍ من هذه المراحل تحتاج إلى وضوحٍ في الأدوار، وتوازنٍ في العلاقة بين المتابعة والتحفيز. فالقائد هو الذي يُحدّد المعايير التي تُقاس بها النتائج، ويضمن أن تكون هذه المعايير واقعيةً، عادلةً، وقابلةً للقياس، وفي الوقت ذاته مُلهمةً تدفع نحو التميّز لا الاكتفاء بالحد الأدنى. فهو الذي يصوغ لغة الأهداف بحيث تجمع بين الطموح والانضباط، وبين المدى القصير والمتوسط والطويل. إنّ القائد الذي يُحسن صياغة الأهداف يُعلّم مؤسسته كيف تُفكّر بالنتائج لا بالأعذار، وكيف تُحوّل الأحلام إلى مؤشراتٍ قابلةٍ للقياس.

ويُعدّ من أبرز أدوار القيادة في حوكمة الأداء ضبط التوازن بين السلطة والمساءلة. فالقيادة لا تكون فعّالة إلا إذا خضعت هي نفسها للمساءلة، لأنّ العدالة لا تُكتسب بالموقع بل بالممارسة. فحين تُراقب المؤسسة أداء موظفيها، يجب أن تكون هناك جهةٌ تُراقب أداء القادة، ليس لزرع الشك، بل لضمان الاتساق. فالمدير الذي يُقيّم الآخرين يجب أن يُقيَّم هو أيضًا على نزاهته ودقته وقدرته على التحفيز. وبهذا تُصبح المساءلة دائرةً مغلقةً من العدالة تبدأ من الأعلى ولا تستثني أحدًا. فالقائد العادل لا يخاف من المراجعة، بل يرحّب بها لأنها تُصحّح مساره وتُظهر نزاهته أمام الآخرين.

ومن المهام القيادية الجوهرية أيضًا ترسيخ ثقافة الحوار المؤسسي في منظومة الأداء، لأنّ الحوار هو الوسيط الذي تنتقل من خلاله القيم من النظرية إلى التطبيق. فالقائد الواعي يُدرك أن الأداء لا يتحسّن بالأوامر بل بالمحادثة الصادقة، وأنّ الخطأ لا يُصحّح بالتوبيخ بل بالفهم. لذا فإنّ القيادات الناجحة تُحوّل الاجتماعات الدورية لمراجعة الأداء إلى منصاتٍ للتعلّم المشترك، تُبنى فيها الثقة قبل التقييم، ويُناقش فيها التحدي قبل المحاسبة. إنّ القيادة التي تُحسن إدارة الحوار تصنع بيئةً يشعر فيها الموظف أنّ صوته مسموعٌ وأنّ جهده مقدّر، وهذا هو جوهر الحوكمة: أن يشعر الجميع بأنّ العدالة ليست مراقبةً من الخارج، بل التزامٌ ينبع من الداخل.

وفي السياق الخليجي والعربي، تزداد أهمية الدور القيادي في حوكمة الأداء، لأنّ التحول نحو الأنظمة الإلكترونية والرقمية يتطلب قيادةً قادرةً على الموازنة بين التقنية والإنسان. فالقائد هنا ليس من يقرأ التقارير، بل من يُفسّرها في ضوء الواقع، ويُحوّل الأرقام إلى قراراتٍ، والبيانات إلى بصيرةٍ. إنه الذي يُدرك أن النظام الإلكتروني مهما بلغ من الدقة لا يُغني عن البصيرة الإنسانية، وأنّ العدالة الرقمية تحتاج إلى قيادةٍ أخلاقيةٍ تحميها من الانحراف. فالقيادة في هذا العصر لا تُقاس بعدد القرارات، بل بقدرتها على بناء نظامٍ عادلٍ متفاعلٍ يتعلم من بياناته ويتطور باستمرار.

أما البُعد القيمي في القيادة فهو الأعمق والأبقى. فالقائد لا يصنع العدالة بالقوانين فقط، بل بالقدوة. فحين يرى الموظفون في قائدهم نموذجًا للنزاهة والاحترام والتواضع، تتحول الحوكمة إلى سلوكٍ يوميٍّ لا يحتاج إلى رقابةٍ مستمرةٍ. لأنّ القيادة ليست فقط ما يُقال في الاجتماعات، بل ما يُرى في السلوك. فالقائد الذي يُنصف موظفيه في الغياب كما في الحضور، ويُثني على إنجازاتهم بصدق، ويعترف بخطئه عند الحاجة، هو الذي يُحوّل المؤسسة إلى منظومةٍ أخلاقيةٍ تُدير نفسها دون أوامر. وهذه هي ذروة الحوكمة: حين تتحوّل القيادة إلى ضميرٍ جماعيٍّ يغرس في الناس الإحساس بالعدالة دون حاجةٍ إلى تذكيرٍ أو توجيه.

إنّ الأدوار القيادية في صياغة التوجهات وضبط السياسات ليست ترفًا تنظيميًا، بل هي الركيزة التي يقوم عليها استقرار منظومة الأداء بأكملها. فالقائد الذي يفهم دوره كحارسٍ للقيم قبل أن يكون مديرًا للنتائج، يُحوّل النظام من آليةٍ جامدةٍ إلى كيانٍ حيٍّ يتفاعل وينمو ويتطور. والقيادة التي تُدير الأداء بالعدالة، وتُوازن بين الحزم والرحمة، وتُعلي من شأن الإنسان كما تُعلي من شأن الإنجاز، هي التي تبني مؤسساتٍ مستدامةٍ لا تنهار بتغيّر الأفراد، لأنّها تُدار بالمبادئ لا بالأمزجة، وبالأنظمة لا بالعشوائية، وبالقيم لا بالمصالح. فحين تصل القيادة إلى هذا المستوى من الوعي، تُصبح المؤسسة قادرةً على إنتاج قادتها الجدد من داخلها، لأنّ العدالة حين تُمارس تُصبح مدرسةً، والحوكمة حين تُتّبع تُصبح ثقافةً، والقيادة حين تُؤدّى بإخلاصٍ تُصبح مصدر إلهامٍ لا سلطةً فقط.


📊 المسؤوليات التنفيذية للإدارات والمشرفين في إدارة دورة الأداء

إذا كانت القيادة هي التي تضع الاتجاهات العليا للأداء، فإنّ الإدارات التنفيذية والمشرفين هم الذين يُحوّلون هذه الاتجاهات إلى واقعٍ عمليٍّ ينبض بالحياة. إنهم المهندسون الميدانيون الذين يترجمون الرؤية إلى أفعال، والسياسات إلى إجراءات، والأهداف إلى مؤشرات. فهم الحلقة التي تربط بين الفكر الإداري والقيمة المؤسسية، وبين التخطيط والتنفيذ، وبين ما يُكتب في اللوائح وما يُمارس على أرض الواقع. وبقدر ما تكون هذه الحلقة قويةً وواعيةً، بقدر ما يُصبح نظام الأداء فعّالًا، عادلًا، وقادرًا على تحقيق غايته الكبرى وهي التنمية البشرية المستدامة.

تبدأ المسؤوليات التنفيذية للإدارات والمشرفين من لحظة تخطيط الأداء، وهي المرحلة التي يُترجم فيها ميثاق الأداء المؤسسي إلى أهدافٍ فرديةٍ دقيقةٍ وقابلةٍ للقياس. في هذه المرحلة، لا يكون دور المشرف مجرد نقل التعليمات من الأعلى، بل قيادة حوارٍ منهجيٍّ مع فريق العمل لتحديد الأهداف التي تُعبّر عن احتياجات المؤسسة وتطلعاتها، وفي الوقت نفسه تراعي قدرات الأفراد وفرص نموهم. فالمشرف الواعي لا يفرض الأهداف، بل يبنيها بالحوار، لأنّه يدرك أنّ الهدف الذي يشارك الموظف في صياغته هو الهدف الذي يلتزم بتحقيقه بصدقٍ واندفاعٍ. وهنا تظهر أولى علامات الحوكمة الفعالة في الأداء: الشفافية في التحديد، والمشاركة في الصياغة، والمسؤولية في التنفيذ.

ثم تأتي مرحلة المتابعة الدورية والتوجيه المستمر، وهي المرحلة التي تُختبر فيها فعالية النظام وعدالته. فالإدارة التنفيذية تتحمل مسؤولية تحويل الخطط السنوية إلى واقعٍ يوميٍّ يُدار من خلال المراقبة البنّاءة، لا عبر الرقابة العقابية. إنّ المتابعة هنا لا تعني الصيد في الأخطاء، بل اكتشاف الفرص والتحسين المستمر. فالمشرف الناجح هو الذي يُمارس دوره كمدرّبٍ أكثر من مراقب، وكقائدٍ أكثر من مفتّش، إذ يدرك أنّ الأداء يتطور بالتغذية الراجعة الهادئة لا بالتقريع، وبالتشجيع الصادق لا بالتخويف.

وتتضمن مسؤوليات الإدارات التنفيذية كذلك توحيد معايير التقييم لضمان العدالة بين الإدارات والموظفين. فالمؤسسة التي تترك لكل مديرٍ أن يُقيم موظفيه بمعاييره الخاصة، تُحوّل الأداء إلى فوضى شخصيةٍ تفتقد الموضوعية وتزرع الشك في النفوس. ولذلك، فإنّ من أهم أدوار الإدارات التنفيذية وضع دليلٍ واضحٍ للقياس يُعرّف المؤشرات، ويُحدّد الأوزان، ويشرح مستويات الأداء، بحيث يُصبح الجميع على بيّنةٍ من معايير التقييم. وهذه الشفافية تُحوّل التقييم من مفاجأةٍ إلى عمليةٍ متوقعةٍ ومفهومةٍ، فيشعر الموظف أنّ الحكم عليه ليس مزاجًا، بل نظامًا عادلاً يمكنه أن يُراجع نفسه بناءً عليه.

ومن أبرز مسؤوليات المشرفين كذلك بناء ثقافة الحوار الدوري حول الأداء. فالتقييم السنوي لم يعُد كافيًا في الأنظمة الحديثة، لأنّ الأداء عمليةٌ مستمرةٌ تتطلب مراجعةً متواصلةً. لذا، فإنّ المراجعة النصف سنوية أو الربع سنوية أصبحت من ضرورات الحوكمة الحديثة، ليس فقط لتصحيح المسار، بل لتغذية الدافعية وتحفيز النمو. فكل حوارٍ ناجحٍ حول الأداء هو لحظة تعلمٍ مزدوجةٍ للطرفين؛ للمدير الذي يتعرّف على تحديات موظفيه، وللموظف الذي يتلقى تغذيةً راجعةً تُعينه على تطوير نفسه. إنّ الحوار البنّاء هو جوهر العدالة في الأداء، لأنه يضمن أن تُقال الحقيقة في وقتها وبأسلوبها المناسب.

وتتحمّل الإدارات التنفيذية أيضًا مسؤولية التعامل المهني مع نتائج الأداء بعد التقييم، وهي المرحلة التي تُظهر مدى نضج المؤسسة في إدارة العدالة. فالإدارة العادلة لا تُكافئ الأعلى تقييمًا فقط، بل تُحلّل الأسباب وراء التفاوت في النتائج لتفهم السياق. فالنتيجة المنخفضة ليست دائمًا دليل تقصير، بل قد تكون إشارة إلى ضعفٍ في التدريب، أو خللٍ في توزيع الموارد، أو غموضٍ في التوجيه. وهنا يأتي دور المشرف في تحليل النتائج بعين الباحث لا بعين القاضي، فيستخدم البيانات لتطوير النظام لا لمعاقبة الأفراد.

أما في الجانب التشغيلي، فإنّ الإدارات التنفيذية مسؤولة عن ضمان الترابط بين الأداء الفردي والأداء المؤسسي. فليس المهم أن ينجز كل موظفٍ أهدافه بمعزلٍ عن الآخرين، بل أن تتكامل جهودهم لتحقيق النتيجة المشتركة. ولهذا، فإنّ أحد أهم أدوار المشرفين هو إدارة "نقاط الالتقاء" بين الموظفين، أي تلك المساحات التي يلتقي فيها عمل فردٍ بعملٍ آخر، حيث تنشأ أغلب الأخطاء أو الانقطاعات في سلسلة القيمة. فالحوكمة هنا ليست فقط في مراقبة النتائج، بل في ضمان الانسياب السليم للعمل، وتكامل الجهود عبر فرقٍ منسجمةٍ تفهم دورها ضمن المنظومة الكلية.

ومن الركائز الحاسمة في مسؤوليات المشرفين أيضًا إدارة العدالة اليومية في بيئة العمل، لأنّ العدالة ليست حدثًا موسميًا يُمارس في التقييم السنوي، بل ممارسةٌ يوميةٌ تُبنى على القرارات الصغيرة: توزيع المهام، منح الإجازات، الاعتراف بالجهود، التعامل مع الأخطاء، وإدارة الوقت. فكل قرارٍ إداريٍّ هو اختبارٌ للحوكمة. والمشرف الذي يتعامل مع موظفيه بميزانٍ منصفٍ يزرع فيهم الثقة بالنظام، أما الذي يُمارس التحيّز أو المزاجية فيفقد شرعيته الأخلاقية حتى وإن احتفظ بصلاحياته الإدارية. ولهذا، فإنّ نجاح نظام الأداء لا يُقاس فقط بجودة لوائحه، بل بمدى التزام المشرفين بسلوكٍ عدليٍّ ينسجم مع روح النظام وقيم المؤسسة.

ولا يمكن الحديث عن المسؤوليات التنفيذية دون التطرّق إلى أهمية بناء القدرات القيادية للمشرفين. فالحوكمة ليست مجرّد التزامٍ بالقواعد، بل مهارةٌ في الفهم والتطبيق والتقدير. والمشرف الذي لا يملك أدوات الحوار والتقييم والتحفيز لا يستطيع أن يُطبّق النظام بعدالةٍ حتى وإن نوى ذلك. لذلك، تتحمل الإدارات التنفيذية مسؤولية تدريب المشرفين على إدارة الأداء بوعيٍ ومعرفةٍ، وتزويدهم بالأدوات التحليلية والتقنية اللازمة لقراءة البيانات وتفسيرها. فالتقنيات الحديثة في أنظمة الأداء — كلوحات المتابعة الذكية Dashboards والتحليلات التنبئية Predictive Analytics — أصبحت جزءًا من أدوات الحوكمة اليومية، وعلى المشرفين أن يتقنوها ليصبح القرار مبنيًا على البيانات لا على الانطباعات.

وفي المؤسسات الخليجية والعربية الحديثة، بدأت تتضح ملامح مسؤوليات المشرفين في إطارٍ وطنيٍ واضحٍ، إذ لم يعُد دورهم إداريًا فحسب، بل تربويًا وتنمويًا أيضًا. فالمشرف اليوم يُعدّ حارسًا للقيم المؤسسية قبل أن يكون مراقبًا للمهام، وقائدًا لرحلة النمو قبل أن يكون ناقلًا للتوجيهات. إنه شريك في صناعة بيئة العمل التي تُحفّز الإبداع وتحتوي الخطأ وتُكافئ الجهد، لأنه يُدرك أن العدالة لا تتحقق بالجمود، بل بالمرونة الواعية التي تضع الإنسان في قلب النظام.

إنّ الإدارات التنفيذية والمشرفين يشكّلون العصب الحساس في منظومة الأداء، لأنهم الأقرب إلى الميدان والأقدر على رصد التفاصيل التي لا تراها التقارير. وحين يُمارسون مسؤولياتهم بوعيٍ وعدلٍ وتواصلٍ إنسانيٍّ متزن، فإنّ نظام الأداء يتحوّل من وثيقةٍ رسميةٍ إلى تجربةٍ حيةٍ تُعيد للموظف ثقته بأنّ المؤسسة مكانٌ للتقدير لا للحكم، وللقائد يقينه بأنّ الأداء الحقيقي لا يُقاس فقط بما يُنجَز، بل بما يُتعلَّم، ولا يُدار فقط بالسياسات، بل بالعلاقات التي تبني جسور الثقة بين الجميع.


🧭 دور الموظف كشريكٍ في الأداء لا كموضوعٍ للتقييم

حين نُعيد تعريف موقع الموظف في منظومة الأداء، فإننا نخطو خطوةً فارقةً في وعي المؤسسة بذاتها، لأنّ الطريقة التي تنظر بها المؤسسة إلى موظفيها تُحدّد طبيعة ثقافتها ومستوى نضجها الإداري. فالمؤسسة التي ترى في الموظف "موضوعًا للتقييم" تضعه في موقع الدفاع، وتحوّل الأداء إلى معادلةٍ أحاديةٍ قوامها الحكم والمحاسبة. أما المؤسسة التي ترى فيه "شريكًا في الأداء"، فإنها تُعيد هندسة العلاقة بأكملها لتُصبح علاقةَ تعاونٍ وتعلّمٍ ومسؤوليةٍ مشتركةٍ. في الأولى يسود الخوف، وفي الثانية تزدهر الثقة. وفي الأولى يُخفي الموظف خطأه خشية العقوبة، وفي الثانية يُبادر بالاعتراف به طلبًا للتطوير. تلك النقلة الفكرية من "موضوعٍ للحكم" إلى "فاعلٍ في النمو" هي جوهر الحوكمة العادلة وأحد أعظم إنجازات الإدارة الحديثة.

إنّ الموظف في منظومة الأداء الحديثة ليس نهاية السلسلة، بل بدايتها. فهو المصدر الأصيل للمعلومات، وصاحب التجربة الميدانية التي تُغذي النظام بالبيانات الدقيقة. فالأداء لا يُقاس من الخارج فحسب، بل يُبنى من الداخل، من وعي الموظف بمهامه، ومن إدراكه لأثر عمله في الصورة الكلية للمؤسسة. ولذلك، تُبنى أنظمة الأداء الفعّالة على مبدأ المسؤولية الذاتية (Self-Responsibility)، التي تعني أن يتحمّل الموظف الدور الأول في متابعة تقدّمه، وتحليل نتائجه، وتصحيح مساره دون انتظار التوجيه الدائم من الأعلى. فحين يدرك الموظف أنّه ليس خاضعًا للمراقبة بل شريكٌ في القيادة، يتحوّل نظام الأداء من سلطةٍ تُفرض عليه إلى منظومةٍ يتبنّاها ويؤمن بها.

وتقوم الشراكة في الأداء على ثلاث ركائز رئيسية: المشاركة في التخطيط، والشفافية في الحوار، والمبادرة في التطوير.
ففي المشاركة في التخطيط، يُمنح الموظف حقه في المساهمة في تحديد أهدافه الخاصة ضمن الإطار العام للمؤسسة. وهذا الحق لا يعني المساومة على النتائج، بل يعني أنّ الموظف يُدرك تمامًا كيف تترجم مهامه اليومية إلى قيمةٍ مؤسسيةٍ، وكيف تُقاس جهوده بمؤشراتٍ واضحةٍ. فحين يُشارك في بناء الهدف، يشعر بملكيته له، ويُصبح نجاحه فيه نجاحًا شخصيًا لا مجرد واجبٍ إداري.
أما الشفافية في الحوار، فهي الضمانة لاستمرارية هذه الشراكة، لأنّ الأداء الحقيقي لا يُبنى على الظنون، بل على وضوح التوقعات والنتائج والمعايير. فالحوار المنتظم بين الموظف والمشرف يُحوّل التقييم من حكمٍ نهائيٍ إلى حوارٍ تنمويٍ، تُطرح فيه التحديات بصدقٍ ويُناقش فيه الدعم اللازم بموضوعيةٍ.
وأما المبادرة في التطوير، فهي البعد الثالث الذي يُكمل المعادلة، إذ يُصبح الموظف هو المحرّك الأساسي لمسيرته المهنية، يبحث عن التعلم، ويطلب التدريب، ويقترح التحسينات. فالشراكة لا تكتمل بالاستجابة، بل بالفعل الواعي الذي يُقدّمه الموظف حين يُدرك أنّ المؤسسة تفتح له المجال ليكون شريكًا حقيقيًا في صناعة القيمة.

إنّ تحويل الموظف إلى شريكٍ في الأداء يتطلب تغييرًا جذريًا في الثقافة المؤسسية. فالموظف الذي نشأ في بيئةٍ إداريةٍ تكرّس الخوف من الخطأ يحتاج إلى وقتٍ ليتعلم أنّ الخطأ لم يعُد وصمةً بل فرصةً للتعلّم. والمؤسسة التي كانت ترى في الموظف تابعًا عليها أن تُعيد بناء أدواتها الاتصالية والإجرائية لتُظهر له أنّ صوته مسموعٌ وأنّ مبادرته مرحّبٌ بها. ولهذا، فإنّ الأنظمة الحديثة لإدارة الأداء تتبنّى مبدأ "التمكين التدريجي" (Progressive Empowerment)، حيث تُمنح الصلاحيات بقدر النضج المهني، وتُوزّع المسؤوليات وفق مستوى الوعي، بحيث يتطور الموظف من مُنفّذٍ إلى مشاركٍ إلى قائدٍ في مجاله.

ومن مظاهر هذه الشراكة أنّ الموظف أصبح اليوم طرفًا في تغذية النظام بالمعلومات التحليلية. فأنظمة الأداء الذكية تعتمد على ما يُسجله الموظف من بياناتٍ عن إنجازه، وملاحظاته حول العقبات التي تواجهه، واقتراحاته للتحسين. هذه البيانات تُحوّل الأداء من عمليةٍ فوقيةٍ إلى نظامٍ تشاركيٍ مبنيٍّ على المعرفة الجماعية. وهكذا تتحول المؤسسة إلى كيانٍ يتعلّم من موظفيه بقدر ما يُعلّمهم، ويستفيد من تجاربهم الميدانية لتحسين القرارات والسياسات. فالشراكة هنا ليست رمزية، بل معرفية، تجعل الموظف مساهمًا في إنتاج القرار الإداري نفسه من خلال ما يقدمه من مدخلاتٍ واقعيةٍ.

ويُعدّ التحفيز المعنوي أحد أهم مقومات ترسيخ دور الموظف كشريكٍ في الأداء. فالموظف الذي يشعر بتقدير جهده، والاعتراف بإنجازاته، والإنصات لاقتراحاته، يتبنّى أهداف المؤسسة كأنها أهدافه الشخصية. ولهذا، تُؤكد أنظمة الأداء الحديثة على ضرورة أن يكون التقدير جزءًا مستمرًا من الحوار الإداري، لا حدثًا موسميًا في نهاية السنة. فالتحفيز المستمر يُبقي شعلة الشراكة مشتعلة، لأنه يُغذّي الدافعية الذاتية ويُعمّق الإحساس بالانتماء. وفي المقابل، تُظهر الدراسات أنّ المؤسسات التي تغيب فيها ثقافة التقدير تعاني من ارتفاع معدل الدوران الوظيفي، وتراجع الالتزام، وضعف الإبداع. فالشراكة الحقيقية لا تُبنى بالواجب فقط، بل بالاحترام المتبادل الذي يُشعر كل فردٍ أنّه عنصرٌ مؤثرٌ في النجاح الجماعي.

كما يتحمّل الموظف في منظومة الأداء الحديثة مسؤوليةً واضحةً في ضمان نزاهة النظام، من خلال التزامه الصادق بالشفافية والإفصاح. فحين يُزوّد النظام بالمعلومات الدقيقة، ويُوثّق جهوده بموضوعيةٍ، ويقبل الملاحظات دون دفاعٍ أو تهرّب، فإنه يُسهم في حماية النظام من التشويه. فالعدالة لا تتحقق بالقيادة وحدها، بل بمشاركة الجميع في حمايتها. إنّ الموظف الذي يُقدّر قيمة العدالة في مؤسسته يُصبح خط الدفاع الأول عنها، لأنه يدرك أنّ التلاعب بالبيانات أو إخفاء الحقائق لا يضر النظام فقط، بل يهدد ثقته هو نفسه بمؤسسته.

وفي السياق الخليجي والعربي، تبرز أهمية تمكين الموظف كشريكٍ في الأداء في ظل التحولات الكبرى نحو الاقتصاد المعرفي والإدارة الرقمية. فالموظف لم يعُد مجرد منفّذٍ للتوجيهات، بل أصبح منتِجًا للمعرفة التنظيمية. فكلّ اقتراحٍ يُقدّمه، وكلّ تجربةٍ يُشاركها، وكلّ تحدٍّ يُحلله، يُضيف إلى الوعي المؤسسي قيمةً جديدةً تُسهم في تحسين الأداء العام. ولهذا بدأت المؤسسات الرائدة تُنشئ "منصات مشاركة المعرفة" و"مجالس التطوير الداخلي"، ليُصبح الموظف مشاركًا في رسم السياسات المستقبلية من موقعه في الميدان، لا مجرد متلقٍ لما يُقرره الآخرون.

إنّ اعتبار الموظف شريكًا في الأداء يُعيد صياغة العلاقة بينه وبين المؤسسة على أساس الثقة المتبادلة. فبدل أن يُنظر إليه كمواردٍ تُستهلك، يُنظر إليه كطاقةٍ تُستثمر. وبدل أن يُقاس فقط بنتائجه، يُقاس كذلك بجهوده، وبقدرته على التعلّم والتكيّف والإضافة. وبهذا، يتحول الأداء إلى منظومةٍ إنسانيةٍ شاملةٍ تربط بين الهدف والإحساس، وبين الكفاءة والولاء، وبين الطموح الفردي والمصلحة العامة.

وفي النهاية، يمكن القول إنّ الموظف هو محور العدالة في نظام الأداء، لأنه المستفيد الأول من نزاهته، والمتضرر الأول من انحرافه. فحين يُدار النظام بالثقة والمشاركة، تُزهر العدالة في كل تفاصيل المؤسسة، وحين يُدار بالخوف والمراقبة، تذبل الروح وتختفي المبادرة. لذلك، فإنّ أكبر نجاحٍ يمكن أن يحققه أي نظامٍ للأداء ليس ارتفاع متوسط التقييمات، بل ارتفاع وعي الموظفين بأنهم شركاء حقيقيون في الإنجاز، يتحملون مسؤوليتهم بوعيٍ، ويقودون تطورهم بأنفسهم، ويُساهمون في بناء مؤسسةٍ تتقدم بهم وبفضلهم معًا.


🪞 الجهات الرقابية والمركزية كضامنٍ للعدالة والاتساق المؤسسي

تُعدّ الجهات الرقابية والمركزية في منظومة الأداء الوظيفي العمود الفقري للعدالة الإدارية، لأنها تمثل الضمانة المؤسسية التي تحمي النظام من الانحراف، وتُعيد إليه اتزانه كلما مالت كفة المصالح أو غلبت ضغوط الواقع على مبادئ الإنصاف. فالحوكمة — مهما كانت متقنة في تصميمها — تحتاج دائمًا إلى عينٍ يقظةٍ تراقب التطبيق، وعقلٍ موضوعيٍ يُحلل النتائج، وصوتٍ مستقلٍ يُذكّر الجميع بأنّ العدالة ليست ملكًا لفريقٍ دون آخر، بل حقٌ أصيلٌ لكل موظفٍ ولكل مؤسسةٍ داخل المنظومة الإدارية الكبرى. هذه الجهات لا تعمل ضد الإدارة، بل من أجلها، فهي المرآة التي تعكس ما قد لا تراه القيادة في زحمة التفاصيل، والبوصلة التي تضمن بقاء السفينة على مسارها مهما تبدلت الرياح.

في جوهرها، تقوم الجهات الرقابية على مبدأ الفصل بين واضع السياسة ومُنفّذها ومُقيّمها، وهو المبدأ الذي يُعتبر حجر الزاوية في الحوكمة المؤسسية. فحين تُفصل السلطات تُحمى العدالة، لأنّ الجهة التي تُنفّذ لا ينبغي أن تكون هي التي تُراجع أو تُصدر الأحكام على نفسها. فالمؤسسة التي تراقب ذاتها دون رقابةٍ خارجيةٍ تُصبح أسيرةً لتحيزاتها الداخلية، أما حين توجد جهةٌ مركزيةٌ تُراجع أداءها بموضوعيةٍ، فإنّ ثقة الجميع بالنظام تزداد، ويشعر الموظفون أن التقييم لا يخضع للأهواء بل للمعايير. ولهذا تُعدّ الجهات الرقابية صمام الأمان الذي يحفظ توازن النظام بين الصلاحيات والمسؤوليات.

تتمثل هذه الجهات في نماذج متعددةٍ بحسب البنية الحكومية والتنظيمية لكل دولة، لكنها في الغالب تشمل:

  • الجهات التشريعية والتنظيمية العليا التي تضع الإطار العام لأنظمة الأداء وتُراجع لوائحها التنفيذية لضمان انسجامها مع القوانين الوطنية.

  • هيئات الموارد البشرية المركزية التي تتابع مدى تطبيق المؤسسات للأنظمة وتُقيّم فاعليتها في تحقيق العدالة والتنمية البشرية.

  • وحدات المراجعة الداخلية والتدقيق داخل المؤسسات، التي تُحلل بيانات الأداء وتكشف الانحرافات في التطبيق أو الاستخدام.

  • لجان التظلّم والمساءلة التي تُتيح للموظف وسيلةً عادلةً للطعن أو المراجعة دون خوفٍ أو تمييز.

  • هيئات مكافحة الفساد والرقابة العامة التي تُشرف على نزاهة النظام وتمنع استغلال الصلاحيات في منح أو حجب الحقوق.

تعمل هذه الجهات وفق منظومةٍ مترابطةٍ تجعل العدالة ليست مجرد مبدأٍ أخلاقيٍ بل ممارسةً مؤسسيةً ممنهجةً. فهي تُحدّد معايير الأداء وتُراقب تطبيقها، وتُصدر التقارير الدورية التي تُرفع إلى القيادة العليا، وتُوصي بالإصلاحات التشريعية أو الإجرائية عند الحاجة. كما تُسهم في بناء قاعدة بياناتٍ وطنيةٍ شاملةٍ للأداء تُتيح المقارنة بين المؤسسات وتكشف مكامن القوة والضعف في النظام. وبهذا، فإنّ دورها لا يقتصر على الرقابة السلبية، بل يتجاوز إلى الرقابة التحسينية (Developmental Oversight) التي لا تكتفي بكشف الخطأ، بل تُقدّم التوصيات التي تُحسّن الأداء وتُطوّر الأنظمة.

غير أنّ فاعلية هذه الجهات لا تتحقق بمجرد وجودها، بل بمستوى استقلاليتها وشفافيتها. فحين تكون الجهة الرقابية خاضعةً لنفس السلطة التي تُراجعها، تفقد مصداقيتها. ولهذا، تُصمم أنظمة الحوكمة الحديثة بحيث تُفصل تبعية الجهات الرقابية إداريًا عن الوحدات التنفيذية، وتُمنح الصلاحيات الكاملة للوصول إلى المعلومات، وإجراء المراجعة دون تدخل. وهذه الاستقلالية لا تُعدّ تحديًا للقيادة، بل دعمًا لها، لأنها تُوفّر معلوماتٍ محايدةً تمكّن صانع القرار من رؤية الحقيقة دون تزيينٍ أو إخفاء. إنّ الرقابة التي تخدم العدالة هي الرقابة التي تُمارس بعينٍ علميةٍ لا بعينٍ سياسية، وبمنهجٍ موضوعيٍ لا برغبةٍ في الإثبات أو الإدانة.

ومن الركائز المهمة في عمل هذه الجهات أنّها تُمارس دورها في ضبط الاتساق المؤسسي، أي ضمان أن تُطبّق جميع الإدارات نفس المعايير بنفس الطريقة، لأنّ العدالة تفقد معناها حين تختلف باختلاف المواقع. فحين يُقيَّم موظفان في مؤسستين مختلفتين بمعايير متناقضةٍ، تضعف ثقة الأفراد بالنظام، وتُفقد الحوكمة تماسكها. ولهذا تُعنى الجهات المركزية بوضع "أدلة الحوكمة الوطنية للأداء" التي تُحدّد المسار الإجرائي الموحد، وتُقدّم الأدوات المعيارية (كالنماذج والدلائل التفسيرية والمصفوفات القياسية) التي تضمن وحدة التطبيق. وبهذا، يتحقق التكامل بين الاستقلال في القرار المؤسسي والوحدة في الإطار الوطني، فتُحافظ المؤسسات على هويتها دون أن تفقد انسجامها مع المنظومة الكبرى.

كما تضطلع هذه الجهات بمسؤوليةٍ تربويةٍ لا تقل أهميةً عن دورها الرقابي، إذ تُسهم في نشر ثقافة العدالة والشفافية داخل المؤسسات من خلال الدورات التوعوية، والمبادرات التثقيفية، والتقارير التحليلية التي تُبرز قصص النجاح والنماذج المتميزة في تطبيق الحوكمة. فالموظف حين يرى العدالة تُكافأ كما يُكافأ الأداء، يبدأ في إدراك أن الرقابة ليست تهديدًا بل حماية. وهذا الوعي الجمعي هو ما يحوّل الرقابة من ممارسةٍ خارجيةٍ إلى سلوكٍ داخليٍ، حين يُصبح كل موظفٍ رقيبًا على ذاته لأنّه يعرف أنّ النظام العادل سيحميه إن أنصف، ويُحاسبه إن أخطأ.

وفي التجربة الخليجية تحديدًا، تميّزت الجهات المركزية المعنية بالأداء بقدرتها على تحويل الرقابة إلى تمكينٍ، فهي لا تكتفي بالتفتيش والمساءلة، بل تُقدّم الدعم الفني والإرشاد للجهات التنفيذية لتطوير أنظمتها. فهي تُصدر الأدلة الاسترشادية، وتُقدّم ورش العمل، وتُتابع عبر منصاتٍ رقميةٍ موحّدةٍ عملية التقييم والتطوير. وبهذا، أصبحت الرقابة شريكًا في التنمية وليست سلطةً فوقيةً. إنّ هذه الرؤية الخليجية المتقدمة للحوكمة الرقابية جعلت العدالة أكثر إنسانيةً، لأنّها تقوم على الثقة والتعاون لا على الصدام أو العقوبة.

ولا يمكن الحديث عن الجهات الرقابية دون الإشارة إلى دورها في حماية العدالة الرقمية في ظل التحول إلى أنظمة الأداء الإلكترونية. فكل نظامٍ ذكيٍّ يحتاج إلى حوكمةٍ رقميةٍ تضمن نزاهة البيانات وأمنها، وتمنع التلاعب أو الاختراق أو التحيّز الخوارزمي. ومن هنا نشأت وحداتُ حوكمة البيانات التي تُراجع سلامة قواعد المعلومات المستخدمة في تقييم الأداء، وتتحقق من أن الخوارزميات لا تميّز بين الأفراد على أساسٍ غير موضوعي. وهكذا تتوسّع الرقابة من البشر إلى الأنظمة، لتُصبح العدالة المؤسسية شاملةً تشمل الإنسان والتقنية معًا.

إنّ الجهات الرقابية والمركزية لا تُمارس دورها في الظل، بل تُشكّل الضمير الحيّ للمؤسسة. فهي التي تذكّر الجميع بأنّ العدالة ليست خيارًا إداريًا بل التزامٌ وطنيٌّ وأخلاقيٌّ، وأنّ النظام الإداري لا يُقاس فقط بما يُحققه من أرقامٍ، بل بما يُجسده من قيمٍ. وحين تؤدي هذه الجهات دورها بشفافيةٍ ومهنيةٍ، فإنّها تُحوّل الخوف من الرقابة إلى ثقةٍ بها، وتُحوّل العلاقة بين المراقِب والمراقَب إلى علاقةِ شراكةٍ في البحث عن الحقيقة. فحين تُصبح الرقابة وسيلةً للتطوير، والعدالة غايةً للجميع، يتحول الأداء المؤسسي إلى نظامٍ متوازنٍ تُحكمه المبادئ لا المصالح، ويُدار بالعقل قبل أن يُدار بالقوة.

إنّ العدالة التي تصنعها هذه الجهات لا تقتصر على إنصاف الأفراد، بل تمتد لتُعيد ثقة المجتمع في مؤسساته. فحين يرى المواطن أو الموظف أنّ النظام يُحاسب الجميع بمعيارٍ واحدٍ، وأنّ لا أحد فوق القانون الإداري، تتعزز شرعية الدولة المؤسسية الحديثة. فالحوكمة ليست فقط وسيلةً لتحسين الأداء، بل هي أداةٌ لبناء الإيمان الجماعي بأنّ الكفاءة والإنصاف هما الطريق الأوحد للتقدم. ومن هنا، تُصبح الجهات الرقابية والمركزية حارسةً للضمير الإداري العربي والخليجي، وضامنةً لأن تظل العدالة المؤسسية قاعدةً لا استثناءً، وثقافةً لا شعارًا، وسلوكًا راسخًا لا مبادرةً عابرةً.


🤝 التكامل بين الحوكمة والتمكين: من الرقابة إلى المشاركة

حين نتأمل العلاقة بين الحوكمة والتمكين في إدارة الأداء، فإننا ندرك أننا أمام ثنائيةٍ إداريةٍ بالغة الحساسية، تجمع بين الانضباط والحرية، وبين الرقابة والثقة، وبين السلطة والمسؤولية. فالخطأ الشائع في كثيرٍ من المؤسسات أنّ الحوكمة تُفهم بوصفها قيدًا، وأنّ التمكين يُفهم بوصفه فوضى. غير أنّ المؤسسات الناضجة أدركت أن الحوكمة هي التي تخلق الشروط الحقيقية للتمكين، وأنّ الرقابة حين تُمارس بعدالةٍ وشفافيةٍ تُصبح هي ذاتها وسيلةَ الثقة لا نقيضها. إنّ التكامل بين الحوكمة والتمكين ليس خيارًا تنظيميًا بل شرطًا وجوديًا لكل مؤسسةٍ تطمح إلى تحقيق التوازن بين الأداء العالي والاستقرار الداخلي، وبين الانضباط في الإجراءات والإبداع في الممارسة.

تبدأ هذه العلاقة من الوعي بأنّ التمكين لا يُمنح إلا داخل نظامٍ محكومٍ بالحوكمة. فالموظف المُمكّن ليس من يعمل بلا حدود، بل من يعرف حدوده بوضوحٍ ويُدير حريته بمسؤوليةٍ. إنّ الحوكمة هنا هي التي تُحدّد المسار وتُرسي القواعد، بينما يأتي التمكين ليملأ هذا المسار بالحياة والمبادرة. فبدون الحوكمة يتحوّل التمكين إلى فوضى عاطفيةٍ تُرهق المؤسسة بانفعالاتٍ فرديةٍ واجتهاداتٍ متعارضةٍ، وبدون التمكين تتحوّل الحوكمة إلى بيروقراطيةٍ جامدةٍ تُخمد روح الابتكار. إنّ الجمع بينهما يشبه جمع الأوكسجين بالنار: حين تُنظَّم العلاقة بينهما تُنتج طاقةً، وحين تُترك بلا نظامٍ تُحدث احتراقًا.

إنّ الحوكمة في جوهرها تُعطي الموظف الحق في أن يعرف، والتمكين يُعطيه الحق في أن يفعل. الأولى تُبنى على الشفافية والثانية على الثقة. فالمؤسسة التي تُخفي المعلومات عن موظفيها ثم تطلب منهم أن يكونوا مبدعين، تُناقض نفسها. فالابتكار لا يُولد في الظلام، والمساءلة لا تُثمر إلا في بيئةٍ يعرف فيها الجميع ما يُنتظر منهم وما هو متاحٌ لهم. ولهذا، فإنّ أول شرطٍ للتكامل بين الحوكمة والتمكين هو وضوح المعلومات وتداولها المؤسسي. فالموظف الذي يملك المعلومة الدقيقة يُصبح أكثر قدرةً على اتخاذ القرار، وأكثر استعدادًا لتحمّل المسؤولية، وأكثر ثقةً بأنّ النظام سيحميه إن اجتهد بصدقٍ.

ويُترجم هذا التكامل عمليًا في أسلوب القيادة. فالقائد الواعي لا يستخدم الحوكمة لتقييد موظفيه، بل لتأمينهم من الفوضى، ولا يستخدم التمكين كمنحةٍ تُقدَّم حين يشاء، بل كحقٍ يُكتسب بالثقة والأداء. إنه يعرف أن الرقابة لا تُناقض الحرية بل تُنظّمها، وأنّ الحرية بلا حوكمة تتحول إلى عبءٍ إداريٍ لا يمكن ضبطه. فالقائد في هذا السياق ليس شرطياً يراقب، ولا مروّجًا يوزّع الثقة مجانًا، بل مربٍّ مؤسسيٌّ يُوازن بين التوجيه والاحتواء، ويُدير الفرق بميزانٍ من العدالة والانفتاح. هذه هي القيادة التمكينية الحوكموية، التي تُعلّم موظفيها كيف يكونون أحرارًا بمسؤوليةٍ، وكيف يُبدعون ضمن نظامٍ، وكيف يُمارسون الشجاعة المهنية دون تجاوزٍ للقيم أو اللوائح.

ومن الجوانب العميقة في هذه العلاقة أنّ التمكين لا يُلغِي الرقابة بل يُحوّلها من خارجيةٍ إلى ذاتيةٍ. فالموظف في المؤسسة الناضجة لا يحتاج إلى رقيبٍ دائمٍ فوق رأسه، لأنه يُراقب ذاته انطلاقًا من وعيه المؤسسي. وهذه أعلى درجات الحوكمة، حين تتحوّل المساءلة من إجراءٍ إلى ثقافةٍ، ومن خوفٍ إلى التزام. فالتمكين الحقيقي هو الذي يُحوّل الالتزام إلى عادةٍ داخليةٍ تُمارس حتى في غياب المراقبة، لأنّ الموظف أدرك أن نزاهته هي ضمان استمراره في نظامٍ عادلٍ. وهذا هو جوهر "الرقابة الواعية" التي تسعى الحوكمة الحديثة إلى تحقيقها؛ رقابةٌ تُمارس من الداخل لا تُفرض من الخارج.

كما أنّ التكامل بين الحوكمة والتمكين يُنتج نظامًا أكثر استدامةً في الأداء، لأنّ القرارات لا تعتمد على الأفراد بل على المنهج. فحين يُغادر المدير أو يتغير الرئيس، لا تتعطل المنظومة، لأنّ قواعدها محكومةٌ ومفوضةٌ بوضوحٍ. فكل موظفٍ يعرف ما له وما عليه، وكل مستوىٍ إداريٍ يدرك مجال قراره وحدود سلطته. وهكذا يتحول الأداء إلى نظامٍ ذاتيٍ قادرٍ على الاستمرار دون ارتباكٍ، لأنّ الحوكمة تضمن الهيكل، والتمكين يضمن المرونة، والاثنان معًا يصنعان توازنًا يَصعُب اختلاله.

وفي التجربة الخليجية تحديدًا، تجسّد هذا التكامل بوضوحٍ في السياسات الوطنية للموارد البشرية التي ربطت بين مفهوم القيادة بالتمكين والعدالة المؤسسية. فالإدارات الحكومية في دول الخليج تبنّت نماذج تمكينيةٍ تستند إلى مؤشرات الأداء الواضحة، بحيث يُمنح الموظف حرية الابتكار في كيفية تحقيق الهدف، بينما تظلّ النتائج خاضعةً للمساءلة عبر نظامٍ رقميٍ شفافٍ. هذا المزج بين الحرية المقننة والمحاسبة الموضوعية خلق بيئةً مؤسسيةً مثاليةً تُحفّز الإبداع وتُحافظ على الانضباط في آنٍ واحدٍ، فازدادت الكفاءة دون أن تُضحّى بالعدالة، وارتفع الولاء دون أن يُلغَى النظام.

ويتجلى التكامل كذلك في توزيع السلطة ضمن فرق العمل. فالحوكمة تُحدّد من يملك القرار، لكنّ التمكين يُشرك الآخرين في التفكير فيه. فالمدير المُمكّن لا يحتكر المعرفة، بل يُشرك فريقه في التحليل، ويمنحهم حرية اقتراح الحلول. وهذا لا يُضعف سلطته، بل يُقوّيها، لأنّ السلطة التي تستند إلى المشاركة أكثر ثباتًا من تلك التي تستند إلى الإملاء. فحين يشعر الموظف أنّ رأيه يُسمع، يصبح أكثر التزامًا بالقرارات التي تُتخذ حتى وإن لم تكن مطابقةً لرأيه، لأنه يعلم أنّه شريكٌ فيها. وهكذا تتحول الحوكمة إلى "إدارةٍ تشاركيةٍ بالمساءلة"، لا إلى سلطةٍ هرميةٍ تُخضع الجميع، بل إلى نظامٍ متوازنٍ يُديرهم بالعقل والاحترام.

ولا يمكن للتكامل أن يتحقق إلا بوجود نظامٍ تعلّميٍ مؤسسيٍ يُتيح للموظف أن يُطوّر نفسه باستمرارٍ ضمن إطار الحوكمة. فكلما زادت المعرفة، تقل الحاجة إلى الرقابة الخارجية. فالموظف الذي يفهم النظام يُصبح حارسًا له، والذي يُدرك أهداف المؤسسة يُصبح موجهًا لأدائه دون أوامر. ولذلك تُركّز أنظمة الأداء الحديثة على تمكين الأفراد من فهم اللوائح والمعايير والعمليات عبر التدريب المستمر والتواصل الفعّال. فكل ساعة تدريبٍ تُضاف إلى وعي الموظف تُخفض ساعة رقابةٍ من فوقه. والتمكين في جوهره ليس منح صلاحياتٍ فحسب، بل بناء وعيٍ يجعل الصلاحيات تُستخدم بحكمةٍ ومسؤوليةٍ.

إنّ التكامل بين الحوكمة والتمكين هو أيضًا جسرٌ بين العدالة والإبداع. فالبيئة التي تُدار بالعدالة وحدها قد تُنتج انضباطًا دون تجديد، والبيئة التي تُدار بالتمكين وحده قد تُنتج إبداعًا دون استقرار. لكن حين يلتقي الاثنان في نقطة التوازن، تُولد بيئةٌ عالية الأداء تُحقّق الكفاءة دون أن تُضحّي بالمرونة، وتُشجّع على الابتكار دون أن تُفرّط في القواعد. هذه البيئة لا تُخيف موظفيها من الخطأ، بل تُعلّمهم كيف يُصلحونه، ولا تُراقبهم لتُعاقبهم، بل لتفهمهم وتُعينهم. إنها بيئةٌ تحكمها القيم أكثر مما تحكمها التعليمات، ويُقاس فيها النجاح بما تُضيفه من وعيٍ وسلوكٍ لا بعدد التقارير أو المؤشرات فحسب.

وحين تصل المؤسسة إلى هذه المرحلة من النضج، تُصبح الرقابة والتمكين وجهين لعملةٍ واحدةٍ تُسمى "الثقة المؤسسية". فالحوكمة تُرسّخ النظام الذي يُولّد الثقة، والتمكين يُنتج المبادرة التي تُغذّيها. والثقة هنا ليست عاطفةً مؤقتةً، بل ثقافةٌ ثابتةٌ تُبنى على وضوح الإجراءات وعدالة الممارسات واستمرارية التواصل. إنها الثقة التي تجعل الموظف مطمئنًا أنّ النظام سيحميه إن اجتهد، وأنّ المؤسسة ستُقدّره إن أخلص، وأنّ القيادة ستُسانده إن أخطأ بحسن نيةٍ وسعت إلى تصحيح المسار. عندها تُصبح الحوكمة ليست رقيبًا بل صديقًا، والتمكين ليس مغامرةً بل مسؤوليةً، ويصبح الأداء المؤسسي سيمفونيةً متناغمةً بين الانضباط والإبداع.

وهكذا، فإنّ التكامل بين الحوكمة والتمكين يُمثّل ذروة النضج الإداري، لأنه يُعيد التوازن المفقود بين النظام والإنسان. فالمؤسسة التي تُتقن هذا الفنّ لا تحتاج إلى أن تختار بين الصرامة والمرونة، لأنّها تمتلك الاثنين في الوقت ذاته، وتعرف متى تُشدّد ومتى تُيسّر، ومتى تُراقب ومتى تُفوض. إنها المؤسسة التي تجاوزت مرحلة الإدارة إلى مرحلة القيادة المؤسسية، حيث تُصبح القواعد وسيلةً للتطور لا غايةً للضبط، ويُصبح الأداء رحلةً مستمرةً من التعلم والثقة والتمكين.


🌍 آفاق تطوير حوكمة الأداء في العالم العربي والخليج

إنّ الحديث عن آفاق تطوير حوكمة الأداء في العالم العربي والخليج هو حديث عن مستقبل الإدارة العامة في المنطقة، وعن التحوّل من النظم الوصفية إلى النظم الاستراتيجية المتكاملة التي تقيس الأثر لا الجهد، وتربط بين كفاءة الإنسان وفاعلية المؤسسة ونتائج التنمية الوطنية. فالحوكمة في إدارة الأداء ليست غايةً تنظيميةً فحسب، بل هي أداةٌ لبناء ثقافة مؤسسيةٍ قادرةٍ على التعلّم من ذاتها، وإعادة تصميم سياساتها وفق التغذية الراجعة المستمرة. وفي هذه المرحلة من التطور الإداري الخليجي، لم تعد المؤسسات تبحث عن "نظامٍ لتقييم الأداء" بقدر ما تبحث عن "نظامٍ لإدارة القيمة المؤسسية"، أي منظومةٍ متكاملةٍ تُحوّل كل أداءٍ فرديٍ إلى لبنةٍ في بناء الازدهار الوطني.

إنّ أهم آفاق التطوير تبدأ من توحيد الإطار المفاهيمي للحوكمة والأداء على المستوى العربي، فالملاحَظ اليوم وجود تباينٍ بين الدول في تعريف الأداء، وفي غايات التقييم، وفي أدوات القياس، وهو تباينٌ يُفقد المقارنة قيمتها، ويُضعف القدرة على بناء مؤشراتٍ إقليميةٍ مشتركةٍ تعكس حالة الإنتاجية الحكومية في المنطقة. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى صياغة "إطارٍ عربيٍّ موحّدٍ لحوكمة الأداء الوظيفي" يستند إلى المبادئ الخمسة الأساسية: العدالة، الشفافية، الكفاءة، المشاركة، والتحسين المستمر. هذا الإطار يجب أن يُترجم إلى معايير تشغيليةٍ قابلةٍ للقياس والتطبيق عبر الوزارات والهيئات، بحيث يُصبح التقييم لغةً مشتركةً بين الأنظمة العربية كما هي الحال في معايير الجودة الدولية مثل ISO وEFQM.

ويمتدّ الأفق الثاني إلى تحويل أنظمة الأداء من ورقيةٍ إلى رقميةٍ تكامليةٍ، بحيث تُصبح البيانات هي المحرّك الأساسي لصنع القرار. فالنظام الإلكتروني لا يهدف فقط إلى تسريع الإجراءات، بل إلى إرساء ثقافة "الإدارة بالبيانات" (Data-Driven Management). حين تتوحّد المنصات الخليجية في إدارة الأداء، وتُربط بأنظمة الموارد البشرية والحوكمة المؤسسية، فإنّ ذلك سيُتيح للدولة رؤيةً شموليةً لحالة الأداء الوطني، ومقارنةً دقيقةً بين الإدارات، وربطًا مباشرًا بين مستوى الأداء ومستوى الإنجاز الاستراتيجي. إنّ بناء هذه المنظومات لا يُقاس بعدد النماذج أو الشاشات، بل بقدرتها على توليد الذكاء المؤسسي الذي يُنير القرار ويُرشد التطوير.

أما الأفق الثالث فيكمن في نقل مفهوم التقييم من الأفراد إلى الفرق والأنظمة. فالمستقبل الإداري لن يقوم على محاسبة الأفراد بمعزلٍ عن بيئتهم، بل على تقييم منظومات العمل المتكاملة التي تصنع النتائج. ولهذا، تُوصي التجارب الدولية الحديثة مثل (CIPD, SHRM, OECD) باعتماد نموذج "أداء المنظومة System Performance" الذي يُحلّل الأداء في ضوء ثلاثة مستويات: أداء الفرد، أداء الفريق، أداء النظام الإداري. هذا التحوّل يُحرّر الموظف من ثقافة الخوف من التقييم، ويحوّله إلى شريكٍ في التحسين، لأنّ الخطأ لم يعد يُنسب إلى شخصٍ بل يُعالج في النظام.

ويُشكّل الأفق الرابع تحديًا جوهريًا في بناء قدرات القيادات الإشرافية على ممارسة التقييم القيَمي لا الوصفي. فالقادة في المؤسسات العربية ما زال كثيرٌ منهم يربط تقييم الأداء بالعقوبة أو المكافأة فقط، في حين أنّ التقييم الناضج هو أداةُ تطويرٍ وتعلّمٍ وتغذيةٍ راجعةٍ. إنّ بناء الجدارات القيادية في مجال إدارة الأداء يجب أن يكون محورًا رئيسًا في البرامج الوطنية للقيادة، لأنّ النظام لا ينجح بذكائه الآلي، بل بوعي القائد الذي يُديره. فحين يدرك المدير أنّ هدف التقييم هو تمكين الموظف لا تصنيفه، تتحول العملية كلها إلى حوارٍ بنّاءٍ ينتج معرفةً ومهارةً وثقةً.

وفي الأفق الخامس، تأتي إعادة تعريف مفهوم العدالة في التقييم من منظورٍ سلوكيٍ وبياناتيٍ في آنٍ واحدٍ. فالعدالة لم تعد تقتصر على الحياد في الأحكام، بل تتوسع لتشمل العدالة في البيانات (Data Equity)، أي ضمان تكافؤ الظروف والمعايير التي تُقاس بها الأداءات. فالموظف الذي يعمل في بيئةٍ محدودة الموارد لا يمكن مقارنته بمن يعمل في بيئةٍ مثاليةٍ دون مراعاة الفروق التشغيلية. ومن هنا، تُوصي الاتجاهات الحديثة بتطبيق "النماذج المعيارية المعدَّلة حسب السياق" (Contextualized Benchmarks) التي تُقيم الأداء في ضوء عوامل البيئة والموارد والمهام. هذه النقلة المفاهيمية تُحوّل العدالة من شعارٍ إلى ممارسةٍ تحليليةٍ قائمةٍ على الفهم العميق للظروف المؤسسية.

ويتسع الأفق السادس ليشمل دمج الحوكمة في الأداء مع التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. فأنظمة الذكاء الاصطناعي قادرةٌ اليوم على تحليل البيانات السلوكية والتشغيلية واستخلاص أنماط الأداء بدقةٍ تتجاوز التقييم البشري، لكنّ التحدي يكمن في ضمان أن تبقى هذه الأنظمة خاضعةً لمبادئ العدالة والشفافية وعدم التحيّز. من هنا تنشأ مسؤوليةُ بناء "حوكمة الذكاء الاصطناعي للأداء" (AI Performance Governance)، وهي منظومةٌ تضع الضوابط الأخلاقية والفنية لضمان نزاهة الخوارزميات وحماية الخصوصية. هذا المجال يُمثل المستقبل الحقيقي لإدارة الأداء في العالم العربي، حين تُصبح الرقابة مؤتمتةً بالمعرفة، والعدالة مُسنَدةً بالتحليل الذكي، والمساءلة مبنيةً على الشفافية الرقمية.

كما يمتد الأفق السابع إلى تدويل التجربة الخليجية في إدارة الأداء، بعد أن أصبحت دول الخليج من أكثر البيئات نضجًا في بناء الأنظمة الإدارية المؤسسية. فالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر والكويت وعُمان تمتلك اليوم نماذج حوكمة أداءٍ يمكن أن تتحوّل إلى مرجعٍ عربيٍ مشتركٍ. إنّ توثيق هذه التجارب ونشرها في المحافل الإقليمية والدولية سيُسهم في بناء "المدرسة الخليجية في الحوكمة والأداء"، مدرسةٍ قائمةٍ على الدمج بين القيم العربية والابتكار الإداري الحديث. هذه المدرسة هي التي ستُعيد تعريف صورة الإدارة العربية عالميًا من كونها مُتلقّيةً إلى كونها مُنتِجةً للمعرفة الإدارية.

وفي الأفق الثامن، يُتوقع أن يتّجه العالم العربي إلى تحويل إدارة الأداء إلى منظومة تعلمٍ مستمرٍّ، بحيث لا تنتهي الدورة السنوية بتقريرٍ، بل تبدأ منها دورةٌ جديدةٌ للتطوير. فكل تقييمٍ يجب أن يُنتج خطة تطويرٍ، وكل خطةٍ يجب أن تُوثّق أثرها، وكل أثرٍ يجب أن يُغذّي النظام بالمعلومات للتحسين القادم. هذه الدورة التعلمية المستمرة (Continuous Learning Loop) هي التي تضمن أن لا يتجمّد النظام في شكله الإداري، بل يظلّ حيًّا نابضًا بالتجريب والابتكار.

وفي النهاية، فإنّ آفاق تطوير حوكمة الأداء في العالم العربي والخليج تُختصر في جملةٍ واحدةٍ: من النظام إلى الثقافة. فحين تُصبح الحوكمة سلوكًا يوميًا، وحين يُمارس الأداء كقيمةٍ إنسانيةٍ قبل أن يكون مؤشّرًا رقميًا، وحين يُقاس التقدّم بوعي الموظفين لا بعدد التقارير، عندها فقط نكون قد انتقلنا من إدارة الأداء إلى قيادة الأداء، ومن التقييم إلى التمكين، ومن المراقبة إلى الإلهام.


🪞 الخاتمة التحليلية

حين نتأمل الصورة الكاملة التي رسمتها محاور هذا المقال الثمانية حول حوكمة الأداء الوظيفي، يتجلّى أمامنا مشهدٌ إداريٌّ متكاملٌ يعكس رحلة النضج المؤسسي التي تمرّ بها مؤسسات العالم العربي والخليج في سعيها للتحول من الإدارة التقليدية إلى الإدارة القائمة على القيم والأنظمة. فالموضوع لم يكن عن لوائح أو نماذج أو إجراءاتٍ فحسب، بل عن فلسفةٍ متكاملةٍ لإدارة الإنسان ضمن منظومةٍ واعيةٍ تُوازن بين القواعد والضمير، وبين الانضباط والإبداع، وبين الرقابة والثقة. هذه الرحلة لا تُقاس بعدد الأدلة الإجرائية أو الأنظمة التقنية، بل بمقدار ما تُحدثه من وعيٍ جمعيٍّ يجعل العدالة ممارسةً يوميةً، ويجعل الأداء مرآةً للنضج الأخلاقي قبل أن يكون مقياسًا للكفاءة.

لقد بدأنا هذه الرحلة بتأصيل مفهوم الحوكمة في الأداء بوصفها الضابط الذي يُعيد توزيع السلطة والمسؤولية داخل المؤسسة، ويحوّلها من تفاعلاتٍ شخصيةٍ إلى منظومةٍ مؤسسيةٍ تضبطها القيم وتوجّهها الرؤية. ثمّ رأينا كيف أنّ الهيكل التنظيمي للحوكمة ليس مجرد رسمٍ إداريٍ، بل هو بنيةٌ حيةٌ تُنظّم العلاقات وتمنح النظام القدرة على النمو الذاتي. وتعمّقنا في الدور القيادي باعتباره المحرّك الذي يضخّ الحياة في النصوص، ويحفظ للعدالة معناها وللقيم حضورها، إذ لا تُمارس الحوكمة إلا من قيادةٍ تمتلك وعيًا أخلاقيًا عميقًا ورؤيةً استراتيجيةً بعيدة المدى.

وانتقلنا إلى الميدان التنفيذي حيث تُختبر فعالية الحوكمة على أرض الواقع، فوجدنا أنّ الإدارات والمشرفين يشكّلون الجسر الذي يربط بين الرؤية والتنفيذ، وأنّ مسؤولياتهم لا تقتصر على المتابعة بل تمتد إلى بناء ثقافةٍ للحوار والمساءلة والتحفيز المستمر. ومن هناك، نظرنا إلى الموظف لا كموضوعٍ للتقييم بل كفاعلٍ وشريكٍ في الأداء، يملك صوته ومسؤوليته، ويشارك في صياغة أهدافه وتطوير ذاته، ليصبح النظام أكثر إنسانيةً وأقرب إلى روح التمكين.

ثمّ توسعنا نحو الجهات الرقابية والمركزية التي تؤدي الدور الحاسم في ضمان نزاهة المنظومة، فهي الضمير المؤسسي الذي يحافظ على التوازن بين الحرية والمسؤولية، ويمنع انزلاق النظام إلى التحيّز أو المجاملة أو الإقصاء. فبدون هذه الجهات تفقد الحوكمة معناها، وبدون استقلالها تفقد العدالة مصداقيتها. وهنا برزت فكرة الرقابة التحسينية التي لا تكتفي بالمراجعة، بل تُسهم في التطوير وتُغذي التعلم المؤسسي.

وفي ذروة التحليل، اكتشفنا أن العلاقة بين الحوكمة والتمكين هي محور التوازن الحقيقي في الأداء المؤسسي. فالمؤسسة التي تُحسن الجمع بين الرقابة والثقة، بين الصرامة والمرونة، هي المؤسسة التي بلغت النضج الإداري. إنّ الحوكمة بلا تمكينٍ تتحول إلى صرامةٍ بيروقراطيةٍ خانقة، والتمكين بلا حوكمةٍ يتحول إلى فوضى من الاجتهادات الشخصية. أما التكامل بينهما فيُنتج بيئةً مزدهرةً تنبض بالحيوية والانضباط معًا، حيث تُدار الحرية بالقيم، وتُضبط السلطة بالمسؤولية، ويُمارس الإبداع ضمن إطار العدالة.

وحين وصلنا إلى آفاق التطوير المستقبلية في العالم العربي والخليج، رأينا أن الرحلة لم تبدأ لتتوقف، بل لتستمر في التعلّم والتجريب والتحسين. فالتحدي اليوم لم يعُد في وجود أنظمةٍ للأداء، بل في نضجها واستدامتها وقدرتها على التعلم الذاتي. فالحوكمة في المستقبل لن تكون ورقيةً ولا حتى رقميةً فحسب، بل ستكون ذكاءً مؤسسيًا واعيًا يُوظّف البيانات والذكاء الاصطناعي والحوكمة الرقمية لتحقيق العدالة بأدواتٍ أكثر دقةً وحيادًا وفاعليةً. وهذا ما يجعلنا نرى الحوكمة ليس كإطارٍ إداريٍ، بل كنهجٍ حضاريٍّ لبناء مؤسساتٍ تفكر وتتعلم وتُحاسب ذاتها قبل أن يُحاسبها أحد.

لقد أصبح واضحًا أنّ التطور الحقيقي في إدارة الأداء لا يبدأ بتحديث النماذج، بل بتغيير الفلسفة التي تُوجّهها. فكل مؤسسةٍ ما زالت ترى في الأداء وسيلةً لتصنيف موظفيها لم تدخل بعد مرحلة النضج. أما تلك التي ترى في الأداء وسيلةً لتطوير الإنسان، فإنها تمارس الحوكمة بمعناها الأسمى: العدالة المنتجة؛ عدالةٌ تُنصف وتُعلّم، تُحاسب وتُمكّن، تُوازن بين حقوق الفرد وغايات المؤسسة.

وفي البيئة الخليجية تحديدًا، أصبح الأداء المؤسسي أداةً لتحقيق رؤية الدولة الحديثة التي تربط بين الكفاءة الفردية والنهضة الوطنية. فالموظف الفعّال اليوم ليس من يُنجز مهامه فحسب، بل من يُدرك أثر إنجازه على الاقتصاد الوطني وعلى صورة بلده في العالم. والمؤسسة الناجحة ليست من تُحقّق أهدافها التشغيلية فقط، بل من تُسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ورؤية 2030 وما بعدها. وهكذا تتحوّل الحوكمة إلى جسرٍ بين الإدارة والتنمية، بين الفرد والوطن، بين الأداء والهوية.

إنّ النضج في حوكمة الأداء يعني أن تكون العدالة ممارسةً لا استثناءً، وأن يُصبح كل موظفٍ في المؤسسة شاهدًا على عدلها لا متظلّمًا من ظلمها. إنه يعني أن تُدار الأنظمة بروحٍ لا بورق، وبقيمٍ لا بشعارات. وحين تصل المؤسسة إلى هذه المرحلة، تُصبح ذاتها نموذجًا يُحتذى، ومصدرًا للثقة المجتمعية التي تُعيد للمواطن احترامه للمؤسسة العامة والخاصة على السواء. فالمؤسسات التي تُنصف موظفيها تُنصف وطنها، لأنها تبني ضميرًا إداريًا جماعيًا يجعل العدالة قيمةً وطنيةً لا مجرد بندٍ تنظيميٍّ في لائحة الأداء.

وفي خاتمة هذه الرحلة الفكرية، يمكن القول إنّ حوكمة الأداء ليست فقط أداةً لتحسين الكفاءة، بل هي مرآةٌ لإنسانية الإدارة. فحين تُدار المؤسسات بالعدالة، تتسع فيها مساحة الإبداع، وحين يُعامل الموظف كشريكٍ في النجاح لا كموضوعٍ للتقييم، يُصبح الانتماء للمؤسسة طاقةً لا التزامًا. فالحوكمة هي فنّ تحويل النظام إلى ثقافة، والتمكين هو فنّ تحويل الثقة إلى أداء، وإدارة الأداء الواعية هي التي تمزج بين الاثنين في منظومةٍ واحدةٍ تصنع مستقبل الإدارة العربية الجديدة — الإدارة التي تُدير بالعقل وتلهم بالقيم، وتؤمن أن العدل ليس فقط أساس الحكم، بل أساس التميز والابتكار والاستدامة.


✍🏻 التوثيق للمحتوى

📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات،
ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.

✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد
د. محمد العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية، بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.

📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية،
ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z

🌐 تصفّح المزيد من المقالات عبر الموقع الرسمي:
👉 www.mohammedaameri.com


📌 #إدارة_الأداء_الوظيفي #حوكمة_الأداء #العدالة_المؤسسية #د_محمد_العامري #مهارات_النجاح #القيادة_التمكينية #التمكين_الإداري #الشفافية_والمساءلة #حوكمة_الموارد_البشرية #التميز_المؤسسي #التحسين_المستمر #الثقافة_التنظيمية #الرقابة_التحسينية #القيادة_الواعية #التحول_الرقمي #الذكاء_المؤسسي #رؤية_2030 #الهوية_المؤسسية #التطوير_المؤسسي #الموارد_البشرية #الابتكار_الإداري #التقييم_الموضوعي #العدالة_الوظيفية #القيادة_التحفيزية #التمكين_الوظيفي #حوكمة_البيانات #التحول_الرقمي_في_الأداء #العدالة_الرقمية #التمكين_الذاتي #التميز_الإداري #التمكين_المهني #القيادة_المؤسسية #إدارة_الأداء_في_الخليج #التنمية_المؤسسية #الحوكمة_العربية

تحميل محتوى الصفحة رجوع