حين نتحدث عن إدارة الأداء في دولة الإمارات العربية المتحدة، فإننا لا نتحدث عن نظامٍ إداريٍّ محدودٍ بحدود التقييم الوظيفي أو مؤشرات الإنجاز، بل عن فكرٍ إداريٍّ متكاملٍ جعل الأداء ثقافةً وطنيةً وسلوكًا مؤسسيًا راسخًا.
لقد أدركت القيادة الإماراتية منذ وقتٍ مبكرٍ أن المستقبل لا يُبنى بالأدوات فقط، بل بالإنسان الذي يمتلك الجدارات، ويعمل بإتقانٍ، ويقود بالتحفيز والإلهام، فكان أن وُلد نموذجٌ فريدٌ في العالم العربي والعالم بأسره: نموذج “القيادة بالجدارات” الذي جعل الأداء مرآةً للتميز، والتحفيز وقودًا للابتكار، والإنسان مركز المنظومة الإدارية.
إنّ هذا النموذج لم ينبثق من فراغٍ، بل هو ثمرة رؤيةٍ استراتيجيةٍ عميقةٍ قادها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الذي أعلن بوضوحٍ أن “الحكومة ليست جهةً إداريةً، بل مصنعٌ للقيادات وصانعٌ للسعادة”.
ومن هنا، تأسس نظام إدارة الأداء الحكومي في الإمارات ليكون أداةً لبناء القيادات وتمكين الكفاءات وتحفيز الإبداع، لا مجرّد وسيلةٍ للمساءلة أو الرقابة.
لقد استطاعت الإمارات، عبر وزارة شؤون مجلس الوزراء والموارد البشرية، أن تُحوّل إدارة الأداء إلى منظومةٍ وطنيةٍ ذكيةٍ متكاملةٍ تربط بين الأداء الفرديّ، والأداء المؤسسيّ، والنتائج الحكومية الشاملة.
وهذا التكامل لم يكن تقنيًا فحسب، بل فلسفيًا، لأنّه يقوم على مبدأ أن الجدارات هي جسر العبور بين السلوك الفرديّ والرؤية الوطنية، وأنّ التحفيز هو المحرك الحقيقيّ الذي يجعل الأداء مستدامًا، متجددًا، نابضًا بالحياة.
ولعلّ من أبرز معالم التجربة الإماراتية في إدارة الأداء أنّها جمعت بين الصرامة في القياس والمرونة في التحفيز.
فالنظام الإماراتي لا يكتفي بوضع مؤشرات الأداء، بل يخلق بيئةً تنظيميةً محفّزةً، تُكافئ الإنجاز، وتُثمّن الابتكار، وتُشجع روح المبادرة، وتُربط الأداء بمفاهيم التميز الحكوميّ وجودة الحياة المؤسسية.
وهكذا تحوّلت إدارة الأداء في الإمارات من أداةٍ لقياس الكفاءة إلى أداةٍ لإطلاق الطاقات، ومن نظامٍ إداريٍّ إلى فلسفةٍ قياديةٍ تنمويةٍ متكاملةٍ، تُلهم المنطقة بأسرها في كيفية بناء جهازٍ حكوميٍّ متفوقٍ، قادرٍ على المنافسة، ومؤمنٍ بأنّ “الجدارة لا تُمنح، بل تُبنى.”
إنّ الحديث عن النموذج الإماراتيّ في إدارة الأداء هو حديثٌ عن تحوّلٍ جذريٍّ في مفهوم القيادة الإدارية، حيث لم تعُد القيادة تُقاس بالموقع أو الدرجة، بل بالقدرة على تمكين الآخرين وتحفيزهم لتحقيق رؤى الدولة.
ولذلك، تبنّت الإمارات نموذجًا متفردًا يُعرف بـ “القيادة بالجدارات” (Leading by Competencies)، وهو نموذجٌ يستند إلى منهجيةٍ علميةٍ دقيقةٍ تُقيس السلوك القياديّ والأداء العمليّ في آنٍ واحدٍ، وتُحوّل الجدارات من مفاهيم نظريةٍ إلى ممارساتٍ يوميةٍ في بيئة العمل.
وقد تجسّد هذا التحوّل من خلال النظام الإلكترونيّ لإدارة الأداء في الحكومة الاتحادية، الذي أُطلق بإشراف الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية (FAHR)، والذي أصبح نموذجًا رقميًا يحتذى به عالميًا في الدمج بين إدارة الأداء، وتطوير القيادات، والتحفيز المعنويّ والماديّ، والتغذية الراجعة المستمرة.
وما يميّز هذا النظام أنه لا يُعالج الأداء بمعزلٍ عن الإنسان، بل يضع الإنسان في قلب النظام، فيُتابع تطوّره المهنيّ، ويقيس تقدّمه في الجدارات القيادية والسلوكية، ويُوفّر له برامج تدريبيةً مخصصةً لتعزيز قدراته.
إنّ التجربة الإماراتية قدّمت درسًا إداريًا للعالم العربيّ مفاده أنّ التحفيز ليس ترفًا تنظيميًا بل استراتيجية وطنية، وأنّ القيادة لا تُقاس بعدد القرارات، بل بقدرتها على بناء قادةٍ جددٍ داخل المؤسسة.
وهكذا، أصبحت الإمارات اليوم من الدول القليلة التي جعلت إدارة الأداء ليست “نظامًا لتقييم الموظف” بل “نظامًا لصناعة القائد”، وجعلت من الجدارات لغةً وطنيةً مشتركةً تُعبّر عن الهوية المؤسسية والإدارية للدولة.
ومن هنا، يهدف هذا المقال إلى تحليل تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة في إدارة الأداء الحكوميّ عبر ثلاثة أبعادٍ رئيسيةٍ مترابطةٍ:
الأول هو الجدارات القيادية والسلوكية كأساسٍ للتقييم والتطوير، والثاني هو التحفيز المؤسسيّ كأداةٍ لاستدامة الأداء العاليّ، والثالث هو التكامل بين الأداء والتميز المؤسسيّ بوصفه غاية النظام ومرآة نضجه المؤسسيّ.
إنّ استيعاب النموذج الإماراتيّ في جوهره لا يعني نقله أو تقليده، بل فهم فلسفته في إدارة الإنسان قبل إدارة الأداء، لأنّ السرّ في نجاح هذا النموذج لا يكمن في أدواته الرقمية أو معاييره التفصيلية، بل في الروح القيادية التي تسكنه، وفي إيمانه بأنّ التميز يبدأ من الداخل، وأنّ الجدارات لا تُبنى بالقرارات، بل تُزرع بالممارسة، وتُثمر بالتحفيز، وتزدهر بالإتقان.
📚 فهرس المقال
1️⃣🌍 تطور نظام إدارة الأداء في دولة الإمارات: من المبادرة إلى المنظومة الذكية
2️⃣🧠 فلسفة القيادة بالجدارات: من الكفاءة الفردية إلى التميز المؤسسيّ
3️⃣💡 التحفيز كقوةٍ دافعةٍ للأداء والإبداع: من المكافأة إلى الإلهام
4️⃣⚙️ منهجية التقييم والتطوير في الحكومة الاتحادية: الشمول، والذكاء، والشفافية
5️⃣📊 الجدارات القيادية والسلوكية: الإطار الوطنيّ للتميز الحكوميّ
6️⃣🏛️ التكامل بين الأداء المؤسسيّ والتميز الحكوميّ في رؤية القيادة الإماراتية
7️⃣🤖 التحول الرقميّ في نظام الأداء: من المراقبة إلى الذكاء المؤسسيّ
8️⃣🌱 الدروس المستفادة عربيًا: الإمارات نموذجًا في تمكين الإنسان وصناعة القادة
1️⃣🌍 تطور نظام إدارة الأداء في دولة الإمارات: من المبادرة إلى المنظومة الذكية
حين نقرأ مسيرة التطور الإداري في دولة الإمارات العربية المتحدة، لا يمكننا أن نغفل عن أنّ إدارة الأداء كانت وما تزال أحد أهم ركائز مشروعها الوطنيّ في بناء الحكومة الحديثة.
فمنذ بدايات الاتحاد في عام 1971، وضعت الدولة الإنسان في قلب عملية التنمية، لا بوصفه متلقيًا للخدمات بل صانعًا للتنمية ذاتها، واعتبرت أن الأداء الحكوميّ ليس وظيفةً إداريةً فحسب، بل مسؤولية وطنية تتعلق بجودة الحياة، ومستوى الرضا، وسمعة الدولة عالميًا.
من هذا المنطلق، لم يكن نظام إدارة الأداء في الإمارات مجرّد مشروعٍ تنظيميٍّ، بل رحلةً فكريةً طويلةً نحو بناء ثقافة الأداء في العمل الحكوميّ.
بدأت هذه الرحلة بمبادراتٍ محدودةٍ في مطلع التسعينيات حين بدأت المؤسسات الحكومية تعتمد تقارير الأداء الفرديّ السنوية وفق النماذج الورقية المستوحاة من أنظمة الخدمة المدنية البريطانية، وكانت تلك النماذج تركّز على التقييم الوصفيّ والرقابيّ دون الارتباط المباشر بالأهداف المؤسسية.
ومع تأسيس الحكومة الاتحادية الحديثة في عهد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، كانت الفلسفة العامة للإدارة ترتكز على قيم العدالة، والمساواة، وتحفيز الإنجاز، ولكنها لم تكن تمتلك بعدُ الأدوات العلمية المتقدمة التي تُحوّل هذه القيم إلى نظامٍ مؤسسيٍّ رقميٍّ متكاملٍ.
وفي مطلع الألفية الجديدة، ومع انطلاق “رؤية الإمارات 2021”، بدأت القيادة الإماراتية تُعيد تعريف مفهوم الحكومة، فانتقلت من مفهوم “الجهة الإدارية” إلى مفهوم “المؤسسة المبدعة القادرة على التعلّم”، وهنا وُلدت الحاجة إلى نظامٍ متكاملٍ لإدارة الأداء يربط بين التخطيط الاستراتيجيّ، وتقييم الأفراد، والنتائج الوطنية.
وقد تزامن ذلك مع إطلاق العديد من المبادرات الحكومية التي شكّلت الإطار المرجعيّ للتميز المؤسسيّ في الدولة، مثل “برنامج الشيخ محمد بن راشد للأداء الحكوميّ المتميز” و“برنامج الشيخ خليفة للتميز الحكوميّ”، وهي المبادرات التي رسّخت ثقافة “التميز كواجبٍ وطنيٍّ”، وجعلت الأداء المؤسسيّ مسؤوليةً مشتركةً بين القيادة والموظف والمجتمع.
ثم جاء التحول الحقيقيّ في عام 2012 حين أُنشئت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية (FAHR) لتكون الجهة المسؤولة عن تصميم وتنفيذ نظامٍ وطنيٍّ موحّدٍ لإدارة الأداء في الحكومة الاتحادية، يقوم على مبادئ الكفاءة، والجدارات، والتحفيز.
وبذلك انتقل النظام الإماراتيّ من مرحلة “المبادرات” إلى مرحلة “المأسسة”، حيث أصبحت إدارة الأداء جزءًا من بنية الموارد البشرية الحكومية، تُدار وفق لوائح دقيقةٍ، ومنصاتٍ رقميةٍ، وإجراءاتٍ معياريةٍ موحدةٍ تغطي جميع الجهات الاتحادية.
لقد تمّ تطوير نظام إدارة الأداء لموظفي الحكومة الاتحادية ليُصبح نموذجًا فريدًا في العالم العربيّ، لأنه لم يقتصر على قياس ما يُنجز، بل اهتم بكيفية الإنجاز وسلوكيات الموظف وقيمه في أثناء العمل.
وتمّ دمج هذا النظام مع نظام إدارة التدريب والتطوير بحيث يُترجم نتائج التقييم مباشرةً إلى خطط تطويرٍ فرديةٍ، وبرامج تدريبيةٍ مخصصةٍ لكل موظفٍ بحسب نقاط قوته وفرص تحسينه.
وهنا يتجلى البعد الإنسانيّ للنظام الإماراتيّ الذي يرى أنّ الأداء ليس مجرد رقمٍ في تقريرٍ سنويٍّ، بل رحلة نموٍّ وتعلّمٍ مستمرةٍ، يُتابع فيها الموظف تقدمه، ويُسهم مديره في تمكينه، وتدعمه المؤسسة في تحقيق أهدافه المهنية بما يخدم الرؤية الوطنية.
ولعلّ من أبرز خصائص هذا النظام أنّه تحوّل تدريجيًا من الإدارة الورقية إلى الإدارة الذكية.
ففي عام 2015 تمّ إطلاق منصة الأداء الإلكترونية المرتبطة مباشرةً بنظام الموارد البشرية الذكيّ في الحكومة الاتحادية، والتي سمحت بتسجيل الأهداف، ومتابعة التقدم، وتبادل الملاحظات بين الموظف والمدير في الوقت الحقيقيّ، بدلًا من الانتظار إلى نهاية العام.
هذا التحول الرقميّ لم يكن تقنيًا فحسب، بل ثقافيًا أيضًا، إذ غيّر طريقة التفكير في الأداء، وجعل من المتابعة عمليةً تشاركيةً مستمرةً بين الطرفين، تُعزّز الشفافية، وتُحوّل العلاقة الإدارية إلى علاقة تطويرٍ وتعلّمٍ.
كما أُدخلت على النظام تعديلات جوهرية في عام 2017 شملت الربط بين الأداء الفرديّ والأداء المؤسسيّ من خلال مؤشرات الأداء الرئيسة (KPIs)، وأصبح لكل جهةٍ حكوميةٍ أهدافٌ استراتيجيةٌ مترجمةٌ إلى مؤشراتٍ كميةٍ ونوعيةٍ، يتم تفكيكها إلى أهدافٍ وظيفيةٍ فرديةٍ، بحيث تُصبح كل مهمةٍ يُنجزها الموظف لبنةً في بناء النتيجة الاستراتيجية للدولة.
هذا الترابط العموديّ بين المستويات الاستراتيجية والتشغيلية عزّز مفهوم “المسؤولية الجماعية عن الأداء”، فلم يعُد الموظف يعمل بمعزلٍ عن المؤسسة، بل أصبح جزءًا من منظومةٍ تُقاس نجاحاتها بنجاح الجميع.
وفي عام 2019، تمّ تعزيز البُعد التحفيزيّ في النظام بإدخال برامج الاعتراف بالأداء المتميز، مثل “جائزة الأداء الفرديّ المتميز” و“جائزة الفريق المتميز”، التي تُكرّم الإنجازات النوعية والسلوكيات الإيجابية، مما جعل النظام أكثر حيويةً وإنسانيةً.
فالموظف في الإمارات لا يُكافأ على الأرقام وحدها، بل على القيم التي يجسّدها، والإبداع الذي يقدّمه، والروح التي يبثّها في فريقه.
ومن هنا، أصبحت إدارة الأداء وسيلةً لتعزيز السعادة الوظيفية، وجزءًا من مشروعٍ وطنيٍّ أوسع يسعى إلى “أن تكون الإمارات من أسعد دول العالم في بيئة العمل”.
أما في العقد الأخير، ومع التحول إلى “الحكومة الرقمية” و“الذكاء الاصطناعيّ الحكوميّ”، فقد دخل نظام إدارة الأداء مرحلةً جديدةً من النضج، إذ أصبح يُدار عبر أنظمة تحليلٍ ذكيةٍ قادرةٍ على تقديم تقاريرٍ تنبؤيةٍ حول الأداء المستقبليّ، وتحديد الفجوات في القدرات، واقتراح مسارات التطوير الأنسب لكل فئةٍ وظيفيةٍ.
كما بدأت الإمارات في تطبيق مفهوم التحليل التكامليّ للأداء المؤسسيّ (Integrated Performance Analytics) الذي يربط بين بيانات الأداء الفرديّ، وبيانات التدريب، والتوظيف، والترقيات، والرضا الوظيفيّ، لتقديم رؤيةٍ شاملةٍ تُسهم في صنع القرار الحكوميّ الاستراتيجيّ.
ولم يتوقف التطوير عند هذا الحد، بل أُطلقت في عام 2022 مبادرة “نظام إدارة الأداء المتكامل في الحكومة الاتحادية” الذي يجمع بين الأهداف الذكية (SMART Goals)، والجدارات السلوكية، وخطط التطوير المهنيّ، والتحفيز المستدام، في إطارٍ إلكترونيٍّ واحدٍ، لتتحول إدارة الأداء إلى نظامٍ ذكيٍّ للتعلّم المؤسسيّ والقيادة بالجدارة.
إنّ هذا المسار التاريخيّ المليء بالتجديد يؤكد أن تجربة الإمارات في إدارة الأداء ليست مجرّد سلسلة تحديثاتٍ إداريةٍ، بل رحلة وعيٍ مؤسسيٍّ متكاملةٍ نحو بناء نموذجٍ إداريٍّ متفرّدٍ في العالم العربيّ، يعتمد على فلسفةٍ إنسانيةٍ عميقةٍ مفادها أنّ “الموظف المحفَّز ذو الجدارات العالية هو أعظم استثمارٍ لأي حكومةٍ طموحةٍ”.
ولذلك، فإنّ النموذج الإماراتيّ يُمثّل اليوم مرجعًا عالميًا في كيفية تحويل الأداء إلى ثقافةٍ وطنيةٍ، تربط بين الجدارات والتميز، بين التحفيز والمسؤولية، بين القيادة والإبداع، وبين الذكاء المؤسسيّ والضمير الإنسانيّ.
2️⃣🧠 فلسفة القيادة بالجدارات: من الكفاءة الفردية إلى التميز المؤسسيّ
حين نتأمل التجربة الإماراتية في إدارة الأداء الحكومي، نجد أن جوهر تفرّدها لا يكمن في أدواتها الرقمية ولا في لوائحها التنظيمية، بل في فلسفتها القيادية العميقة التي جعلت "الجدارة" حجر الزاوية في بناء الأداء المؤسسيّ والتميز الحكوميّ.
لقد أدركت القيادة الإماراتية مبكرًا أن الكفاءة لا تُقاس بالنتائج فقط، بل بالقدرات التي تمكّن من تحقيق تلك النتائج باستمرارٍ وبطريقةٍ أخلاقيةٍ ومنسجمةٍ مع قيم المؤسسة.
ومن هنا نشأت فلسفة "القيادة بالجدارات" (Leading by Competencies) التي تُعدّ اليوم إحدى أكثر المفاهيم تأثيرًا في الفكر الإداريّ العربيّ المعاصر، إذ جمعت بين البعد الإنسانيّ والبعد المؤسسيّ، وبين النظرية الإدارية الحديثة والتطبيق الواقعيّ في بيئةٍ حكوميةٍ ديناميكيةٍ ومتسارعةٍ.
هذه الفلسفة تقوم على مبدأٍ بسيطٍ وعميقٍ في الوقت ذاته:
أن الجدارة ليست مهارةً مكتسبةً فقط، بل هي منظومةٌ متكاملةٌ من المعرفة، والسلوك، والقيمة، والموقف، والممارسة.
فالقائد الجدير ليس من يعرف كيف يُدير المهام، بل من يعرف كيف يُلهِم، ويُحفّز، ويُنمّي، ويُحوّل الأداء إلى طاقةٍ إيجابيةٍ تُغذي بيئة العمل بأكملها.
ولذلك لم تتعامل الإمارات مع "الجدارات" بوصفها مصطلحًا فنيًا يُستخدم في تقييم الأداء، بل كمبدأٍ فلسفيٍّ يُوجّه السياسات الحكومية ويصوغ هوية القيادة.
🔹 أولًا: البنية المفاهيمية للجدارة في الفكر الإداريّ الإماراتي
تُعرِّف الحكومة الإماراتية "الجدارة" بأنها مجموعة من السمات السلوكية والمعرفية والوجدانية التي تمكّن الفرد من أداء مهامه بفعاليةٍ وكفاءةٍ، وتحقيق نتائج تفوق التوقعات، في انسجامٍ مع قيم المؤسسة وثقافتها.
هذا التعريف يختلف جوهريًا عن المفهوم التقليدي للكفاءة الذي يركّز على الأداء الوظيفيّ فقط، لأنه يضيف إلى "المعرفة" و"المهارة" بُعديْن أساسيين هما "القيم" و"السلوك"، فيجعل الأداء انعكاسًا للهوية المؤسسية، لا مجرد تنفيذٍ للمهام.
إنّ هذا المنظور يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفكر القيادة الإماراتية الذي يؤكد على أنّ الإنسان هو الاستثمار الأغلى، وأنّ القيمة الحقيقية للموظف لا تُقاس بما يفعله، بل بما يُمثّله من التزامٍ بالقيم، وولاءٍ للمؤسسة، وقدرةٍ على إلهام من حوله.
ولذلك، وضعت الحكومة الإماراتية إطارًا وطنيًا متكاملًا للجدارات القيادية والسلوكية يُعتبر من أكثر الأطر شمولًا وتطورًا على المستوى العالميّ.
🔹 ثانيًا: الإطار الوطنيّ للجدارات القيادية والسلوكية
تمّ تصميم "إطار الجدارات القيادية والسلوكية في الحكومة الاتحادية" ليكون بوصلةً للتميز الإداريّ، حيث يُحدّد السمات الأساسية التي يجب أن يتحلى بها الموظفون والقادة في جميع المستويات الوظيفية.
ويشمل هذا الإطار محورين رئيسيين:
1️⃣ الجدارات القيادية (Leadership Competencies):
وهي مجموعة القدرات والسلوكيات التي تُميّز القائد الحكوميّ الفعّال، وتشمل الجدارات التالية:
- 
	
الرؤية الاستراتيجية (Strategic Vision): قدرة القائد على استشراف المستقبل، ورسم مسارات التنمية بما يتفق مع توجهات الدولة.
 - 
	
الابتكار واستشراف المستقبل (Innovation and Foresight): امتلاك العقلية الابتكارية والقدرة على تحويل التحديات إلى فرصٍ.
 - 
	
التحفيز والإلهام (Inspiring and Motivating): خلق بيئة عملٍ إيجابيةٍ تدفع الآخرين لتقديم أفضل ما لديهم.
 - 
	
التمكين وبناء الفرق (Empowering and Team Building): تمكين الموظفين من اتخاذ القرار، وتنمية روح التعاون.
 - 
	
المساءلة والحوكمة (Accountability and Governance): الالتزام بأعلى معايير النزاهة والشفافية.
 - 
	
اتخاذ القرار المبنيّ على البيانات (Data-Driven Decision-Making): استخدام التحليل والمعلومة الدقيقة في صياغة السياسات والإجراءات.
 
2️⃣ الجدارات السلوكية (Behavioral Competencies):
وهي القدرات التي تُعبّر عن القيم والسلوكيات اليومية التي يُمارسها الموظف داخل بيئة العمل، وتشمل:
- 
	
الالتزام المؤسسيّ والولاء الوظيفيّ.
 - 
	
خدمة المتعاملين والاهتمام بالمجتمع.
 - 
	
العمل بروح الفريق والتعاون المؤسسيّ.
 - 
	
إدارة الذات والمرونة في المواقف.
 - 
	
الابتكار والتحسين المستمرّ.
 - 
	
التعلّم والتطوير الذاتيّ.
 
هذا الإطار لم يكن وثيقةً تنظيريةً، بل أداةً عمليةً تُستخدم في التعيين، والتدريب، والتطوير، والتقييم، والترقية، بحيث تُصبح الجدارة معيارًا شاملًا للحياة الوظيفية منذ بدايتها حتى نهايتها.
فالموظف يُعيَّن بناءً على الجدارات المطلوبة، ويُدرَّب لتطويرها، ويُقيَّم وفقها، ويُكافأ على ممارستها، مما يجعلها اللغة المشتركة في المؤسسة الحكومية الإماراتية.
🔹 ثالثًا: القيادة بالجدارات كفلسفة تحفيزية وتنموية
في التجربة الإماراتية، القيادة بالجدارات ليست مجرد أسلوبٍ إداريٍّ، بل أسلوب حياةٍ داخل المؤسسة.
القائد الجدير لا يُصدر الأوامر، بل يُحفّز الآخرين ليكتشفوا إمكاناتهم.
إنّه يقود من الداخل، لا من الأعلى، ويصنع من كل عضوٍ في فريقه قائدًا محتملًا.
لقد تبنّت الإمارات مفهوم القيادة التحفيزية (Motivational Leadership) باعتبارها امتدادًا طبيعيًا لفلسفة الجدارات.
فكل جدارةٍ قياديةٍ أو سلوكيةٍ تُقاس في النهاية بقدرتها على تحفيز الآخرين وإشراكهم في الرؤية.
ولهذا نجد أن معايير الأداء القياديّ في الإمارات تُركّز على تأثير القائد في بيئته أكثر من تركيزها على إنجازاته الفردية.
فالقائد الذي يُحقّق أهدافه وحده لا يُعدّ قائدًا متميزًا ما لم يُسهم في تطوير الآخرين ورفع كفاءتهم.
هذا المنظور يُحوّل القيادة إلى عمليةٍ تشاركيةٍ مستمرةٍ من التعليم والتأثير والتحفيز، ويُعيد تعريف العلاقة بين الرئيس والمرؤوس على أساس الثقة والتمكين بدلًا من السيطرة والرقابة.
إنّ القائد في الفكر الإماراتيّ يُعامَل باعتباره صانع بيئةٍ للتميز، لا مراقبًا للنتائج، وهو مسؤول عن بناء ثقافةٍ تنظيميةٍ تعزّز التعاون، والإبداع، والشفافية، والانتماء.
🔹 رابعًا: التكامل بين الجدارات والأداء المؤسسي
من نقاط التميّز البارزة في النموذج الإماراتيّ أن الجدارات لم تُفصل عن الأداء، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من دورة إدارة الأداء الحكومية.
ففي كل مرحلةٍ من مراحل دورة الأداء (تخطيط الأداء، المتابعة الدورية، المراجعة النهائية، التطوير)، تُستخدم الجدارات كمعيارٍ سلوكيٍّ لقياس "كيف" تمّ تحقيق النتائج، وليس "ماذا" تمّ تحقيقه فقط.
فإذا كان الموظف قد بلغ أهدافه الرقمية، ولكن من دون الالتزام بالسلوكيات المؤسسية، يُعدّ أداؤه غير مكتملٍ في ميزان الجدارات.
هذا الربط بين "النتيجة" و"الأسلوب" أحدث تحولًا نوعيًا في الثقافة الإدارية الإماراتية، إذ جعل الأداء انعكاسًا للثقافة المؤسسية لا فقط للمخرجات التشغيلية.
كما مكّن المؤسسات من استخدام البيانات السلوكية في التحليل المؤسسيّ، بحيث أصبح بالإمكان قياس معدلات التعاون، والابتكار، والتفاعل الإيجابيّ، والولاء، ضمن تقارير الأداء.
بهذا، أصبحت الجدارات جسرًا معرفيًا بين تقييم الأفراد وقياس نضج المؤسسات، وأداةً استراتيجيةً للحوكمة البشرية الشفافة.
🔹 خامسًا: الجدارات في بناء الهوية المؤسسية الوطنية
القيادة بالجدارات في الإمارات ليست مشروعًا حكوميًا داخليًا فقط، بل هي جزءٌ من هوية الدولة في المحافل الدولية.
فعندما تُكرَّم الإمارات عالميًا بوصفها من أكثر الدول كفاءةً في الإدارة الحكومية، فإنّ هذا التكريم هو في جوهره تقديرٌ لقدرتها على بناء إنسانٍ جديرٍ، مؤهلٍ، محفّزٍ، مسؤولٍ، ومبدعٍ.
ولذلك، تُعدّ الجدارات اليوم اللغة الرسمية لإدارة الكفاءات الوطنية، وهي التي تُحوّل السياسات الحكومية إلى سلوكٍ عمليٍّ، وتجعل من الأداء أداةً لتجسيد رؤية الدولة لا مجرد وسيلةٍ لتطبيقها.
ومن الناحية الثقافية، تتناغم فلسفة القيادة بالجدارات مع منظومة القيم الإماراتية الأصيلة القائمة على الاحترام، والإتقان، والمسؤولية، والتسامح.
فالقائد الإماراتيّ لا يُلهم فقط بقراراته، بل بقدوته وسلوكه وقيمه اليومية، مما جعل القيادة الحكومية نموذجًا للمواطنة الإيجابية، والعمل بروح الفريق، والالتزام برؤية "الإنسان أولًا".
🔹 سادسًا: التحول من الكفاءة الفردية إلى التميز المؤسسيّ
لقد تجاوزت الإمارات في فلسفتها الإدارية مفهوم "الكفاءة الفردية" نحو بناء منظومةٍ من التميز المؤسسيّ المستدام.
فما الفائدة من قائدٍ كفءٍ يعمل في مؤسسةٍ غير ناضجةٍ، أو من موظفٍ جديرٍ في بيئةٍ لا تُكافئ الإبداع؟
إنّ القيادة بالجدارات تضمن أن يتحوّل التميّز الفرديّ إلى طاقةٍ جماعيةٍ تصنع مؤسسةً رائدةً.
فكل جدارةٍ فرديةٍ تُسهم في نضج المؤسسة، وكل مؤسسةٍ ناضجةٍ تُضيف إلى التميز الوطنيّ.
وهكذا، تصبح الجدارات سلسلةً متصلةً تبدأ من الفرد وتنتهي بالدولة.
فعندما يُمارس الموظف التعاطف، والمسؤولية، والابتكار، فإنه لا يُحسّن أداءه فقط، بل يُغني ثقافة المؤسسة، ويرتقي بالهوية الوطنية.
وحين تُصبح الجدارات ثقافةً وطنيةً، يُصبح الأداء لغةً مشتركةً للإتقان، ويُصبح الإنسان مصدر الريادة لا موضوعها.
3️⃣💡 التحفيز كقوةٍ دافعةٍ للأداء والإبداع: من المكافأة إلى الإلهام
حين نتأمل فلسفة الإدارة في دولة الإمارات العربية المتحدة، نكتشف أنّ التحفيز ليس مجرد سياسةٍ تنظيميةٍ لتحسين الأداء، بل هو فلسفة حياةٍ قياديةٍ متجذّرةٍ في فكر الدولة وثقافتها الإدارية.
فمنذ أن أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مقولته الشهيرة: «التحفيز سرّ الإنجاز، والفرق بين القائد والمدير أن الأول يُلهم والثاني يُراقب»، أصبح التحفيز جوهرًا للقيادة الحكومية الإماراتية، وركيزةً أساسيةً في منظومة إدارة الأداء، لا تقل أهميةً عن القياس، والتقييم، والمتابعة.
لقد أدركت القيادة الإماراتية مبكرًا أن الإنسان لا يُحرّكه الخوف أو الرقابة بقدر ما يُحرّكه الإلهام، والانتماء، والإحساس بالمعنى.
فالتحفيز في الفكر الإماراتيّ ليس أداةً لتوجيه السلوك نحو الامتثال فقط، بل منظومة شاملة لإطلاق الطاقة الكامنة في الإنسان وتحويلها إلى إبداعٍ مستدامٍ.
ومن هنا تحوّلت إدارة الأداء في الإمارات إلى مدرسةٍ قياديةٍ متكاملةٍ لا تكتفي بتحديد الأهداف وقياس النتائج، بل تهتم بما يُعرف بـ “ديناميكية الدافعية”، أي: كيف يمكن للمنظمة أن تبعث في موظفيها الشغف بالعمل، لا لمجرد إنجاز المهام، بل لأنهم يجدون في العمل معنى حياتهم المهنية؟
🔹 أولًا: التحفيز في الفكر الإداريّ الإماراتيّ — من الراتب إلى الرسالة
في العقود الماضية، كان التحفيز في المؤسسات الحكومية العربية يرتبط غالبًا بالمكافآت المالية أو الترقيات الوظيفية.
لكن النموذج الإماراتيّ تجاوز هذا الفهم المحدود، لأنه انطلق من قاعدةٍ نفسيةٍ وفكريةٍ مفادها أن التحفيز الحقيقيّ لا يُشترى بالمال، بل يُبنى بالمعنى.
فقد صُمّم النظام الإماراتيّ لإدارة الأداء بحيث يدمج بين التحفيز الخارجيّ (المكافأة المادية والمعنوية) والتحفيز الداخليّ (الدافع الذاتيّ للإنجاز والإتقان).
ولهذا نرى أن السياسات الحكومية الإماراتية تركّز على ما يُسمّى بـ “بيئة السعادة الوظيفية”، وهي منظومة متكاملة تخلق مناخًا يجعل الموظف يشعر أن عمله ذو قيمةٍ وتأثيرٍ في تحقيق رؤية الدولة.
ويقوم هذا المناخ على خمسة أعمدةٍ رئيسيةٍ هي:
1️⃣ الاحترام والتقدير الإنسانيّ: فكل موظفٍ في المنظومة الحكومية يُعامل بوصفه شريكًا في النجاح، لا ترسًا في آلةٍ بيروقراطيةٍ.
2️⃣ التمكين والثقة: تُمنح الصلاحيات بوعيٍ ومسؤوليةٍ لتجعل الموظف قادرًا على اتخاذ القرار.
3️⃣ الإنصاف والشفافية: يشعر الجميع أن المكافآت تُمنح بالاستحقاق لا بالمحاباة، وأن العدالة مبدأٌ حاكمٌ لا خيارٌ تنظيميٌّ.
4️⃣ التواصل المستمرّ والتغذية الراجعة البنّاءة: فلا يُفاجأ الموظف بتقييمه في نهاية العام، بل يعيش في حوارٍ تطويريٍّ دائمٍ مع قائده.
5️⃣ الاحتفاء بالإنجازات الفردية والجماعية: لأن التقدير العلنيّ يُحوّل الجهد إلى قدوةٍ، ويُحوّل الإنجاز إلى ثقافةٍ متوارثةٍ داخل المؤسسة.
ومن هنا يُدرك الموظف الإماراتيّ أنّ الأداء ليس مجرّد وسيلةٍ للحصول على الترقية أو المكافأة، بل طريقٌ لتحقيق ذاته والمشاركة في صناعة مستقبل بلده.
إنه يعمل لأنه يشعر أن كل إنجازٍ يقدّمه جزءٌ من مشروعٍ وطنيٍّ أكبر، يُترجم رؤية القيادة إلى واقعٍ.
وهذا هو التحفيز الراقيّ الذي يتجاوز الراتب والدرجة الوظيفية إلى تحفيز المعنى والانتماء والرسالة.
🔹 ثانيًا: التحفيز كمكوّنٍ استراتيجيٍّ في دورة إدارة الأداء
لا يمكن لأي نظامٍ للأداء أن ينجح ما لم يتضمّن آليةً واضحةً للتحفيز.
ومن هنا جاء تصميم النظام الإماراتيّ ليجعل التحفيز جزءًا بنيويًا من دورة الأداء ذاتها، وليس مرحلةً لاحقةً.
ففي مرحلة “تخطيط الأداء”، يُتّفق بين الموظف والمدير على الأهداف المتفق عليها بوضوحٍ، وتُربط بتحفيزٍ معنويٍّ مسبقٍ يتمثّل في وضوح التوقعات والثقة في قدراته.
وفي مرحلة “المتابعة الدورية”، تُستخدم جلسات التغذية الراجعة كأداةٍ لتحفيز السلوك الإيجابيّ، وتعزيز الإنجاز المستمرّ بدل الانتظار حتى التقييم النهائيّ.
أما في مرحلة “المراجعة النهائية”، فيُستخدم التحفيز كأداةٍ للتقدير والتكريم، سواء عبر الجوائز المؤسسية أو فرص التطوير المهنيّ أو الترقيات.
بهذا الشكل، أصبح التحفيز عمليةً دائريةً متصلةً، لا مجرّد حدثٍ موسميٍّ.
ويُقاس نجاح القائد الحكوميّ اليوم في الإمارات بقدرته على بناء بيئةٍ محفّزةٍ، أكثر من قدرته على تحقيق الأرقام وحدها.
فالقيادة هنا ليست سلطةً على الموظفين، بل قدرةٌ على تحريكهم نحو التميّز بإرادتهم.
🔹 ثالثًا: التحفيز القيميّ — من السلوك إلى الهوية
أحد الجوانب الفريدة في التجربة الإماراتية أنّها لم تكتفِ بالتحفيز الإداريّ أو الماديّ، بل أضافت بُعدًا جديدًا هو التحفيز القيميّ (Value-Based Motivation).
فالموظف في الإمارات يُحفّز ليس فقط لتحقيق الأهداف، بل ليجسّد القيم المؤسسية التي تعكس هوية الدولة: الاحترام، التعاون، الإيجابية، الابتكار، المسؤولية المجتمعية، الإتقان.
وتُعدّ هذه القيم جزءًا من مؤشرات الأداء السلوكيّ التي تُقاس في نهاية كل دورةٍ.
وهذا النوع من التحفيز يجعل الموظف يعمل بدافعٍ أخلاقيٍّ داخليٍّ، لا ضغطٍ خارجيٍّ، لأنه يدرك أن التزامه بالقيم يُعزّز سمعته المهنية ويُكسبه تقدير المؤسسة والمجتمع.
فحين يُكافأ موظفٌ على مبادرةٍ إنسانيةٍ أو تعاونٍ غير إلزاميٍّ، فإنّ الرسالة التي تُوجّه إليه وللآخرين هي أن المنظومة تُكافئ السلوك النبيل كما تُكافئ الإنجاز التقنيّ، وهذا ما يُعيد تعريف التحفيز في البيئة الحكومية.
التحفيز القيميّ أيضًا أداةٌ تربويةٌ لبناء ثقافة الأداء الواعيّ، التي تجعل الموظف يُراجع ذاته باستمرارٍ، لأنّ التقييم لا يُقاس فقط بما أنجزه، بل بمن أصبح عليه أثناء الإنجاز.
وبذلك، يتحوّل التحفيز من مكافأةٍ على الفعل إلى تقديرٍ للنية والسلوك والجهد والموقف.
🔹 رابعًا: التحفيز الجماعيّ والثقافة التنظيمية الإيجابية
أثبتت التجربة الإماراتية أنّ التحفيز الجماعيّ لا يقل أهميةً عن التحفيز الفرديّ، لأنّ ثقافة الإنجاز في بيئة العمل لا تُبنى بالأفراد فقط، بل بالروح الجماعية التي تُوحّدهم حول هدفٍ مشتركٍ.
ولهذا أنشأت الجهات الحكومية برامج تحفيزية تُركّز على فرق العمل، مثل “جائزة الفريق المتميز”، التي تُكرّم الإنجاز الجماعيّ وتُكافئ التعاون، والابتكار المشترك، والنتائج المتكاملة بين الإدارات.
هذه الجوائز لا تهدف إلى المنافسة فقط، بل إلى ترسيخ التعاون كقيمةٍ استراتيجيةٍ.
فالموظف الذي يعمل في بيئةٍ يشعر فيها بأنّ نجاح زميله جزءٌ من نجاحه، وبأنّ التقدير يُوزّع بعدلٍ وشفافيةٍ، يُصبح أكثر التزامًا وعطاءً، لأنّ الدافعية هنا تنبع من الانتماء لا من المقارنة.
ولذلك، فإنّ التحفيز الجماعيّ في الإمارات لم يقتصر على الجوائز، بل امتدّ إلى بناء ما يُعرف بـ “الثقافة الإيجابية في بيئة العمل”، وهي ثقافةٌ مؤسسيةٌ تُعزّز التواصل الإنسانيّ، وتُقلّل التوتر، وتُشجّع التعبير عن الأفكار دون خوفٍ من اللوم أو الرفض، وهو ما يُعرف في أدبيات الإدارة الحديثة بـ Psychological Safety أي "الأمان النفسيّ الوظيفيّ".
وفي بيئةٍ كهذه، يُصبح الأداء فعلَ إبداعٍ لا مجرّد واجبٍ، لأنّ الموظف يعمل بشغفٍ دون خوفٍ من الفشل، فيتحول الخوف إلى حافزٍ للتجريب، والخطأ إلى درسٍ للتطوير.
🔹 خامسًا: التحفيز في سياق التميز المؤسسيّ والقيادة الذكية
لا يمكن فهم التحفيز في الإمارات بمعزلٍ عن منظومة التميز الحكوميّ والقيادة الذكية، لأنّ كلتا المنظومتين تعملان بتكاملٍ لتكوين بيئةٍ متوازنةٍ تجمع بين الصرامة والتحفيز.
ففي نموذج التميز الحكوميّ الإماراتيّ، تُعدّ "السعادة الوظيفية" و"التحفيز الإيجابيّ" من المعايير الرئيسة لتقييم أداء المؤسسات.
وهذا يعني أن المؤسسة لا تُقيَّم فقط بما تُحققه من نتائج، بل بما تُقدّمه لموظفيها من بيئةٍ محفّزةٍ تُطلق طاقتهم.
أما في القيادة الذكية، فإن التحفيز لم يعُد يعتمد على الأوامر، بل على الذكاء العاطفيّ والمعرفيّ الذي يمكّن القائد من فهم دوافع موظفيه واستخدام أساليب تحفيزية مخصصة لكل شخصيةٍ بحسب نمطها واحتياجاتها.
فالقائد الناجح هو من يعرف متى يُشجّع، ومتى يُوجّه، ومتى يُحفّز بالصمت أو بالكلمة، لأنّه يدرك أنّ الدافعية الإنسانية ليست ميكانيكيةً بل وجدانيةً.
وبفضل هذا الفهم العميق، تحوّلت القيادة الإماراتية إلى نموذجٍ للتمكين الذكيّ الذي يجعل كل موظفٍ يشعر بأنه مرئيّ، ومسموع، ومقدّر، وأن جهده لن يضيع في الزحام.
🔹 سادسًا: التحفيز كمنظومة تعلمٍ وتطويرٍ ذاتيٍّ
التحفيز في الإمارات ليس نهاية الأداء بل بدايته، لأنّ كل مكافأةٍ أو اعترافٍ بالتميز تُعتبر بدايةً لدورة تعلمٍ جديدةٍ.
فالنظام الحكوميّ لا يكتفي بتكريم المتميزين، بل يُعيد استثمارهم بوصفهم قدواتٍ داخل المؤسسة، يشاركون خبراتهم مع زملائهم في برامج “نقل المعرفة” و“التوجيه القياديّ الداخليّ (Coaching)”.
بهذا، يتحول التحفيز من حدثٍ فرديٍّ إلى عملية تعلمٍ مؤسسيةٍ مستدامةٍ تُعزّز تبادل الخبرات وتنشر روح الإبداع في جميع المستويات الوظيفية.
كما يتم توظيف التحفيز في دعم برامج التطوير المستقبليّ، حيث تُستخدم نتائج الأداء والتحفيز لتحديد المرشحين للبرامج القيادية مثل “برنامج قيادات حكومة الإمارات”، الذي يهدف إلى بناء جيلٍ من القادة المحفّزين القادرين على تحفيز غيرهم.
وهكذا يتحوّل التحفيز من هدفٍ إلى وسيلةٍ لإعادة إنتاج القيادة المُلهمة داخل الجهاز الحكوميّ.
🔹 سابعًا: التحفيز كقيمةٍ وطنيةٍ وثقافةٍ مجتمعيةٍ
التحفيز في الإمارات تجاوز حدود المؤسسات ليُصبح قيمةً وطنيةً متجذّرةً في الخطاب الرسميّ وفي الثقافة المجتمعية.
فكل مبادرةٍ حكوميةٍ تحمل بداخلها بعدًا تحفيزيًا، من جائزة "إمارات تبتكر"، إلى "برنامج السعادة"، إلى "مبادرة موظف الشهر"، إلى "جائزة محمد بن راشد للأداء الحكوميّ المتميز".
كلّها أدوات لتحويل التحفيز إلى ثقافةٍ عامةٍ للتميز والإيجابية.
لقد تمكّنت الإمارات من تحويل التحفيز إلى طاقةٍ اجتماعيةٍ ترفع سقف التوقعات، وتُغرس في النفوس قناعةً بأنّ النجاح مسؤوليةٌ جماعيةٌ.
ولهذا نجد أن الموظف الإماراتيّ حين يُبدع، لا يفعل ذلك فقط لأجل ذاته أو ترقيةٍ أو حافزٍ، بل بدافع الانتماء لروح الدولة التي تُكافئ العطاء وتُقدّر الإتقان.
🔹 ثامنًا: التحفيز في ضوء علم النفس المعاصر
من الناحية النفسية، تتقاطع فلسفة التحفيز الإماراتية مع نظريات علم النفس التحفيزيّ مثل نظرية ماسلو للحاجات، ونظرية ماكليلاند للدوافع، ونظرية ديسي وريان في "التحفيز الذاتيّ" (Self-Determination Theory).
فالنظام الإماراتيّ يُراعي جميع مستويات الحاجات الإنسانية:
- 
	
يُلبّي الحاجة للأمان عبر العدالة التنظيمية.
 - 
	
ويُلبّي الحاجة للانتماء عبر بيئة العمل الإيجابية.
 - 
	
ويُشبع الحاجة للتقدير عبر برامج المكافآت.
 - 
	
ويُحفّز الحاجة للنموّ عبر التدريب والتطوير.
 - 
	
ويُحقّق الحاجة للذات عبر تمكين الإنسان من المشاركة في بناء وطنه.
 
وهذا التكامل بين التحفيز النفسيّ والتحفيز الإداريّ يُمثّل قمة النضج في الفكر الإداريّ الحديث، لأنه يجمع بين العلم والإنسانية، بين الفاعلية والرحمة، وهو ما جعل الإمارات نموذجًا يُدرّس عالميًا في “التحفيز المؤسسيّ الشامل”.
بهذا التحليل الشامل يتضح أن التحفيز في النموذج الإماراتيّ ليس أداةً ثانويةً لتحسين الأداء، بل جوهر المنظومة، لأنه يُحرّك السلوك، ويُشكّل الثقافة، ويُعيد تعريف العلاقة بين القائد والموظف، وبين الإنسان والمؤسسة، وبين العمل والغاية.
إنّ القيادة بالتحفيز ليست أن تقول للآخرين ماذا يفعلون، بل أن تجعلهم يريدون أن يفعلوه، بإرادتهم، وبشغفهم، وبإيمانهم أنّ العمل رسالةٌ قبل أن يكون وظيفة.
4️⃣⚙️ منهجية التقييم والتطوير في الحكومة الاتحادية: الشمول، والذكاء، والشفافية
حين نقترب من جوهر التجربة الإماراتية في إدارة الأداء الحكوميّ، نجد أن أعظم ما يميزها ليس فقط وضوح الرؤية أو كفاءة النظام التقنيّ، بل المنهجية الدقيقة التي صيغت بها دورة الأداء، إذ جرى تصميمها لتكون شاملةً في المضمون، ذكيةً في التطبيق، وشفافةً في الحوكمة، بحيث تُحقّق معادلةً فريدةً تجمع بين الانضباط المؤسسيّ والتمكين الإنسانيّ، وبين الصرامة التحليلية والرحمة الإدارية.
لقد بنت الإمارات نظامها لتقييم وتطوير الأداء في الحكومة الاتحادية على أساسٍ علميٍّ صارمٍ يُراعي تكامل الأبعاد الثلاثة: البُعد الإداريّ (النظام والإجراءات)، البُعد البشريّ (السلوك والدافعية)، والبُعد التقنيّ (الذكاء المؤسسيّ والتحليل الرقميّ).
ويمكن القول إنّ هذا التكامل هو ما جعل منهجية الأداء الإماراتية إحدى أكثر النماذج توازنًا في العالم، لأنها لا تُخضع الإنسان للآلة، ولا تجعل التقنية بديلًا عن القيادة، بل تُنسّق بين الثلاثة ضمن هندسةٍ إداريةٍ متكاملةٍ تحقّق الغاية الكبرى: تحسين الأداء من أجل التنمية، لا من أجل التقييم فقط.
🔹 أولًا: فلسفة الشمول — إدارة الأداء كمنظومةٍ متكاملةٍ
تقوم فلسفة "الشمول" في النظام الإماراتيّ على مبدأٍ أساسيٍّ مفاده أن الأداء ليس عمليةً إداريةً جزئيةً تخصّ الموظف وحده، بل هو منظومةٌ متكاملةٌ تشمل الفرد، والفريق، والمؤسسة، والدولة.
ولذلك، صُمّمت دورة الأداء بحيث تبدأ من أعلى الهرم الإداريّ (رؤية الحكومة وأهدافها الاستراتيجية) وتنتهي عند أصغر وظيفةٍ في الجهاز الحكوميّ، في سلسلةٍ مترابطةٍ من الأهداف والمؤشرات التي تُشكّل ما يُعرف بالـ Cascade Alignment أي “الترابط الهرميّ للأداء”.
فكل موظفٍ في الحكومة الاتحادية يملك خطة أداءٍ سنويةٍ تُشتقّ من خطة إدارته، وهذه تُشتقّ من خطة الجهة الاتحادية، وهذه الأخيرة تتفرّع من الأجندة الوطنية ورؤية الإمارات 2031.
وهذا الترابط العموديّ يُولّد شمولًا مؤسسيًا يجعل الجميع يتحركون في الاتجاه نفسه، ويدركون أن مسؤولياتهم ليست فرديةً بل وطنيةٌ تشاركية.
كما أن الشمول في هذا النظام لا يقتصر على الأهداف، بل يمتد إلى المعايير والمؤشرات، إذ تُقسّم التقييمات إلى ثلاثة محاور رئيسية:
1️⃣ الأداء الوظيفيّ (What): وهو ما أنجزه الموظف فعليًا من نتائجٍ كميةٍ ونوعيةٍ.
2️⃣ الجدارات السلوكية (How): وهي كيفية أداء المهام، ومدى التزامه بالقيم والسلوك المؤسسيّ.
3️⃣ المساهمة في بيئة العمل (Impact): وهو أثره في الفريق، وتعاونه، وروحه الإيجابية في المؤسسة.
هذا التوزيع الثلاثيّ يجعل التقييم أكثر شمولًا وإنصافًا، لأنه لا يختزل الإنسان في أرقامه، بل يُقيّمه في ضوء منظومته الكاملة من الإنجاز والسلوك والتأثير.
وقد أثبتت التجربة أن هذا النموذج يقلل من النزاعات ويُعزّز العدالة النفسية بين الموظفين، لأنّ كل إنسانٍ يجد نفسه منظورًا إليه من زوايا متعددةٍ، لا من زاويةٍ واحدةٍ.
🔹 ثانيًا: دورة الأداء الإماراتية — من التخطيط إلى التطوير
تتكوّن دورة الأداء في الحكومة الاتحادية من أربع مراحلٍ رئيسيةٍ مترابطةٍ:
1️⃣ مرحلة تخطيط الأداء (Performance Planning):
تبدأ في الربع الأول من كل عامٍ، حيث يجتمع الموظف ومديره المباشر لتحديد الأهداف الفردية الذكية (SMART Goals) المستمدة من أهداف الإدارة.
ويُراعى في هذه المرحلة أن تكون الأهداف واضحةً، قابلةً للقياس، قابلةً للتحقيق، واقعيةً، ومحددةً بزمن.
كما يتم تحديد الجدارات السلوكية المطلوبة لكل موظفٍ، وخطة تطويره السنوية، ومؤشرات القياس المرتبطة بها.
وتُعتبر هذه الجلسة أول ممارسةٍ حقيقيةٍ للحوكمة التشاركية، لأنّ الموظف لا يُملى عليه ما يجب فعله، بل يُشارك في صياغة أهدافه ومسؤولياته، مما يزيد التزامه الداخليّ بتحقيقها.
2️⃣ مرحلة المتابعة الدورية (Ongoing Review):
تُعدّ من أهم سمات النظام الإماراتيّ لأنها تُحوّل الأداء إلى عمليةٍ حيةٍ مستمرةٍ بدل أن تكون حدثًا سنويًا جامدًا.
ففي كل ربعٍ من السنة، يُجري المدير والموظف جلسة مراجعةٍ لتقييم التقدم ومناقشة العقبات وإعادة ضبط الأهداف إذا لزم الأمر.
ويُسجّل كل ذلك في النظام الإلكترونيّ عبر منصة “بياناتي” التابعة للهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية.
وهنا يتجلّى البُعد الإنسانيّ للنظام، إذ تتحول جلسات المتابعة إلى حواراتٍ تطويريةٍ لا مجرد تقاريرٍ رقميةٍ، تُبنى فيها الثقة وتُقدّم التغذية الراجعة المستمرة (Feedback).
كما تُستخدم هذه المرحلة لاكتشاف الموظفين ذوي الأداء المرتفع والمواهب الواعدة لإدماجهم في برامج التطوير القياديّ المستقبلية.
3️⃣ مرحلة التقييم النهائيّ (Final Review):
تُعقد في نهاية السنة وتُبنى على البيانات الكمية والنوعية الموثقة طيلة العام.
يُقيّم الموظف على أساس مؤشرات الأداء المتفق عليها، والجدارات السلوكية، ومستوى تأثيره في بيئة العمل.
ويُصنف الأداء إلى خمس درجاتٍ قياسيةٍ تتراوح بين: "يتجاوز التوقعات بكثير" إلى "دون التوقعات"، مع تحليلٍ نوعيٍّ للأسباب وخطةٍ للتحسين.
التميز في هذه المرحلة ليس فقط في دقتها، بل في شفافيتها، لأنّ النتائج تُعرض على الموظف ويُتاح له النقاش أو التوضيح أو الاعتراض قبل اعتمادها رسميًا، وهو ما يُجسّد العدالة الإجرائية (Procedural Justice) في أعلى صورها.
4️⃣ مرحلة التطوير والتحسين (Development & Improvement):
وهي ما يجعل النظام الإماراتيّ مختلفًا عن النظم التقليدية، إذ لا تنتهي دورة الأداء بالتقييم، بل تبدأ منه من جديدٍ.
فكل ملاحظةٍ أو فجوةٍ في الأداء تُترجم مباشرةً إلى خطة تطويرٍ فرديةٍ تحتوي على برامج تدريبيةٍ محددةٍ زمنًا ومضمونًا، تُنفّذ بإشراف المدير والموظف معًا.
ويُتابع النظام إلكترونيًا مدى تنفيذ خطة التطوير ومدى تحسّن الأداء بعد التدريب، مما يجعل من إدارة الأداء نظامًا ديناميكيًا للتعلم المستمرّ.
🔹 ثالثًا: الذكاء المؤسسيّ والتحليل الرقميّ
واحدة من أعظم نقاط القوة في منهجية الأداء الإماراتية هي دمجها العميق لتقنيات الذكاء الاصطناعيّ والتحليل المؤسسيّ.
فقد طورت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية نظامًا إلكترونيًا متكاملًا يُحلّل بيانات الأداء الفرديّ والمؤسسيّ بشكلٍ لحظيٍّ، ويُصدر تقارير تنبؤيةً عن الاتجاهات المستقبلية للأداء.
ويتيح هذا النظام تحديد الفجوات المهارية في القطاعات المختلفة، ورصد الموظفين ذوي الأداء العالي، واقتراح برامج تطويرٍ مخصصةٍ لهم، مما يجعل القرارات الإدارية مستندةً إلى الأدلة الرقمية (Evidence-Based Decision Making).
كما يُستخدم الذكاء الاصطناعيّ في ربط الأداء بعوامل مثل الرضا الوظيفيّ، والانضباط، والمشاركة في المبادرات التطويرية، فيُقدّم صورةً شاملةً عن الكفاءة المؤسسية في الدولة.
وتُعرض هذه البيانات على صُنّاع القرار في شكل لوحات تحكمٍ ذكيةٍ (Dashboards) تُتيح متابعة الأداء الوطنيّ في الزمن الحقيقيّ، وربطه بالمؤشرات الاستراتيجية لرؤية الإمارات 2031.
وبهذا، تتحول إدارة الأداء من عمليةٍ إداريةٍ داخليةٍ إلى نظام وطنيٍّ متكاملٍ للحوكمة والتحسين المستمرّ.
🔹 رابعًا: الشفافية والعدالة المؤسسية
لم يكن من الممكن للنظام الإماراتيّ أن ينجح لولا التزامه الصارم بمبدأ الشفافية.
فالعدالة في التقييم ليست شعورًا ذاتيًا، بل نتيجةٌ لإجراءاتٍ واضحةٍ ومعلنةٍ وقابلةٍ للتحقق.
ولهذا السبب، ألزمت الحكومة جميع الجهات الاتحادية بنشر معايير التقييم ومؤشرات الأداء المعتمدة، وإشراك الموظفين في مراجعتها كل عامٍ لضمان فهمهم الكامل لها.
كما يُطبّق النظام مبدأ “المراجعة المتعددة” بحيث لا يكون التقييم النهائيّ قرارًا فرديًا من المدير، بل نتيجةً لتوافقٍ بين أكثر من مستوى إداريٍّ، يشمل المشرف المباشر، والإدارة العليا، وإدارة الموارد البشرية.
ويُتيح النظام آلية اعتراضٍ إلكترونيةٍ عادلةٍ تمكّن الموظف من تقديم ملاحظاته أو طلب إعادة النظر في تقييمه، مما يعزّز الثقة المؤسسية.
وقد أثبتت دراسات الهيئة الاتحادية أن المؤسسات التي تُمارس الشفافية في التقييم تُحقّق معدلات أعلى من الرضا والانتماء بنسبة تفوق 30% مقارنةً بتلك التي تُمارس التقييم المغلق.
فحين يشعر الموظف أن التقييم واضحٌ، والمكافأة عادلةٌ، والتواصل مستمرٌّ، فإنّ طاقته تتضاعف، وثقته بالنظام تترسخ، وروح الانتماء لديه تزداد قوةً.
🔹 خامسًا: التقييم كأداةٍ للتعلّم لا للمحاسبة
في النظام الإماراتيّ، التقييم ليس لحظةَ حكمٍ على الأداء، بل فرصةٌ للتعلّم والتحسين.
فبدل أن يُستخدم التقرير السنويّ كسلاحٍ للعقوبة، يُستخدم كخريطةٍ للارتقاء.
وقد تمّ تدريب القادة والمديرين على ممارسة ما يُعرف بـ Coaching for Performance أي “التوجيه من أجل الأداء”، حيث يتحوّل المدير من مُقيّمٍ إلى مُرشِدٍ يساعد الموظف على اكتشاف نقاط قوته وتجاوز تحدياته.
وتُقدّم الهيئة الاتحادية برامج تدريبيةً خاصةً للمديرين بعنوان “كيف تُجري جلسة تغذيةٍ راجعةٍ فعّالة؟” لأنّ فنّ التقييم يقوم على الحوار والتمكين، لا على النقد والتوبيخ.
هذا النهج الإنسانيّ جعل عملية التقييم في الإمارات من أكثر العمليات قبولًا لدى الموظفين، لأنها لم تعد مرادفًا للقلق، بل منصةً للنموّ والتطوير.
🔹 سادسًا: التكامل بين الأداء الفرديّ والمؤسسيّ
أحد أهم عناصر الذكاء في المنهجية الإماراتية هو قدرتها على ربط الأداء الفرديّ بنتائج الأداء المؤسسيّ.
فلم يعُد الهدف من تقييم الأفراد معرفة “من يعمل جيدًا”، بل معرفة “كيف يمكن أن نرفع أداء المؤسسة بأكملها”.
ولذلك، تُجمّع نتائج تقييم الأفراد لتُكوّن قاعدة بياناتٍ تُستخدم في مراجعة الأداء المؤسسيّ، بحيث يمكن للإدارة العليا اكتشاف الوحدات أو الإدارات التي تُظهر أداءً متميزًا أو تحتاج دعمًا إضافيًا.
هذا الترابط جعل الأداء المؤسسيّ نتيجةً منطقيةً للأداء الفرديّ، لا مجرد مقياسٍ خارجيٍّ.
كما أوجد نوعًا جديدًا من “المساءلة الذكية”، حيث يتحمّل كل مديرٍ مسؤولية تحسين أداء فريقه بناءً على نتائج بياناته.
وهكذا تحوّلت إدارة الأداء إلى نظامٍ ذاتيٍّ للتقويم والتطوير الجماعيّ، لا إلى أداة رقابةٍ أحاديةٍ.
🔹 سابعًا: الاستدامة والتحسين المستمرّ
المنهجية الإماراتية لا ترى التقييم غايةً بل وسيلةً للتحسين المستمرّ.
ولهذا تُراجع الحكومة الاتحادية نظام إدارة الأداء كل عامين لتطوير معاييره وفق التغيرات العالمية والتقنية.
وقد تمّ تحديث النظام أكثر من ثلاث مراتٍ منذ إطلاقه ليواكب أفضل الممارسات العالمية الصادرة عن معاهد مثل CIPD، SHRM، EFQM، وISO 30414، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية الوطنية.
كما تُجرى مراجعاتٌ تحليليةٌ بعد كل دورةٍ سنويةٍ لتحديد مؤشرات التحسّن في أداء الجهات الاتحادية، وتُصدر الهيئة تقارير وطنية تُقارن الأداء الحاليّ بالسنوات السابقة، وتُظهر مؤشرات الكفاءة، والإنصاف، والتطوير، والجاهزية المستقبلية.
وهذا ما يجعل إدارة الأداء في الإمارات نظامًا متجدّدًا بالتغذية الراجعة المستمرة (Feedback Loop)، قادرًا على التعلّم الذاتيّ والتحسين التلقائيّ.
🔹 ثامنًا: الإمارات نموذجٌ عالميٌّ في نضج إدارة الأداء
لقد حقق النظام الإماراتيّ نضجًا مؤسسيًا متقدمًا جعله نموذجًا إقليميًا يحتذى به.
ففي عام 2022، حصلت دولة الإمارات على إشادةٍ دوليةٍ من منظماتٍ مثل الأمم المتحدة والبنك الدوليّ بوصفها من الدول القليلة التي حوّلت إدارة الأداء إلى نظامٍ قياديٍّ وتحفيزيٍّ متكاملٍ، يجمع بين الكفاءة التقنية والإنسانية.
كما أصبحت تجربتها تُدرّس في برامج التدريب الحكومية في دول الخليج والعالم العربيّ، بوصفها أنموذجًا فريدًا للحوكمة الذكية في الأداء.
إنّ نجاح هذه المنهجية لا يُقاس بعدد المؤشرات أو جمال النماذج، بل بالثقة التي وُلدت بين القائد والموظف، وبين الإنسان والمؤسسة، وبين الدولة والمجتمع.
فحين يشعر الموظف أن تقييمه عادلٌ، وأنّ تطويره مستمرٌّ، وأنّ صوته مسموعٌ، يصبح الأداء فعلَ ولاءٍ لا التزامٍ فقط، ويصبح التطوير سلوكًا لا تكليفًا، ويصبح النظام حيًّا نابضًا بالثقة والفعالية.
5️⃣📊 الجدارات القيادية والسلوكية: الإطار الوطنيّ للتميز الحكوميّ
حين نقترب من التجربة الإماراتية في إدارة الأداء الحكومي، لا يمكننا أن نفصل الحديث عن الأداء عن مفهوم الجدارات، لأن الإمارات لم تتعامل مع الأداء بوصفه مجرد "نتائج"، بل بوصفه سلوكًا مؤسسيًا نابعًا من منظومة قيمٍ وقدراتٍ ومهاراتٍ وخصائصٍ شخصيةٍ تُترجم إلى أداءٍ متميزٍ متكررٍ ومستدامٍ.
ومن هنا وُلد "الإطار الوطنيّ للجدارات القيادية والسلوكية في الحكومة الاتحادية"، ليكون بمثابة المرجع الفكريّ والعمليّ الذي يربط بين الأداء والكفاءة والسلوك والقيمة، في نظامٍ إداريٍّ متكاملٍ يُجسّد فلسفة الدولة في بناء الإنسان قبل أي شيءٍ آخر.
هذا الإطار ليس وثيقةً تنظيميةً فحسب، بل هو خارطة طريقٍ لبناء الشخصية الحكومية الإماراتية المتكاملة، التي تجمع بين الذكاء المهنيّ، والنضج السلوكيّ، والوعي الوطنيّ، والقدرة على قيادة الذات والآخرين.
إنه يعكس عمق رؤية القيادة الإماراتية التي قالت بوضوح: “الرهان الحقيقي ليس على الثروات، بل على الإنسان المتميز الذي يصنع الفارق.”
🔹 أولًا: مفهوم الجدارة في الفكر الإداريّ الإماراتيّ
تُعرّف الحكومة الاتحادية الجدارة بأنها:
“مزيجٌ من المعارف والمهارات والسلوكيات والاتجاهات التي تُسهم في أداء المهام بكفاءةٍ عاليةٍ، وتُعبّر عن قيم المؤسسة وثقافتها وتوجهاتها الاستراتيجية.”
بهذا التعريف، تُصبح الجدارة أكثر من كفاءةٍ مهنيةٍ، فهي منظومةٌ متكاملةٌ تربط بين المعرفة والسلوك والقيم، أي بين العقل والروح والفعل.
ولذلك، فإن القائد أو الموظف الذي يتمتع بالجدارة في الفكر الإماراتيّ هو ذلك الذي لا يكتفي بإتقان عمله، بل يجسّد قيم المؤسسة ويُلهم الآخرين ويُسهم في بناء البيئة الإيجابية التي تُنتج التميز المستدام.
وفي هذا السياق، لا يمكن فهم الجدارة بمعزلٍ عن رؤية الإمارات للتميز الحكوميّ التي تُعدّ أحد الأعمدة الرئيسة في بناء منظومة الأداء الوطنيّ.
فقد قامت الدولة بدمج مفهوم الجدارة داخل نموذج التميز الحكوميّ الإماراتيّ بحيث تُصبح الجدارات هي "الأداة التنفيذية" لترجمة قيم التميز إلى ممارساتٍ واقعيةٍ داخل المؤسسات.
ومن هنا أصبحت الجدارات اللغة المؤسسية المشتركة التي يتحدث بها جميع العاملين في الجهاز الحكوميّ، من القمة القيادية إلى المستويات التشغيلية.
🔹 ثانيًا: الإطار الوطنيّ للجدارات — البنية والهيكل
تمّ تطوير "الإطار الوطنيّ للجدارات القيادية والسلوكية" من قبل الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية (FAHR) بالتعاون مع عددٍ من الشركاء الاستراتيجيين والخبراء الدوليين، ليُصبح نموذجًا وطنيًا معتمدًا يُستخدم في: التعيين، التقييم، التدريب، التطوير، الترقيات، والتخطيط القياديّ للمستقبل.
يتكوّن الإطار من مستويين رئيسيين:
1️⃣ الجدارات القيادية (Leadership Competencies):
وهي القدرات والسمات التي تُمكّن القائد من التأثير في الآخرين وتحقيق نتائج استراتيجية تتسق مع رؤية الدولة، وتشمل:
- 
	
الرؤية المستقبلية: امتلاك البصيرة لاستشراف التحديات والفرص، وتحويل الرؤية الوطنية إلى أهدافٍ تنفيذيةٍ واقعيةٍ.
 - 
	
القيادة بالقدوة: تمثيل القيم المؤسسية في السلوك اليوميّ، ليكون القائد مصدر إلهامٍ للآخرين.
 - 
	
التحفيز والإلهام: بناء ثقافةٍ إيجابيةٍ تُشجّع المبادرة والابتكار وتحفّز الفرق على التميز.
 - 
	
الابتكار والاستشراف: القدرة على تبني حلولٍ جديدةٍ والتفكير بطرقٍ غير تقليديةٍ.
 - 
	
إدارة التغيير: التعامل الفعّال مع التحولات التنظيمية والسياساتية الكبرى.
 - 
	
التمكين والتأثير: تطوير القيادات المستقبلية ومنح الصلاحيات مع بناء الثقة والمسؤولية.
 - 
	
اتخاذ القرار المستند إلى البيانات: توظيف التحليل الذكيّ والبيانات الدقيقة في صياغة السياسات والإجراءات.
 - 
	
الالتزام الوطنيّ والمسؤولية المجتمعية: إدراك البعد الوطنيّ في كل قرارٍ إداريٍّ، والحرص على خدمة الوطن قبل الذات.
 
2️⃣ الجدارات السلوكية (Behavioral Competencies):
وهي الممارسات اليومية التي تُظهر القيم المؤسسية وتُعبّر عن الثقافة التنظيمية المتميزة، وتشمل:
- 
	
العمل بروح الفريق: القدرة على التعاون والمشاركة الفعّالة لتحقيق الأهداف المشتركة.
 - 
	
الابتكار المستمرّ: البحث الدائم عن فرصٍ للتحسين والإبداع في الأداء.
 - 
	
المرونة والتكيف: التعامل مع الضغوط والتغييرات بثباتٍ واحترافيةٍ.
 - 
	
خدمة المتعاملين: التركيز على جودة الخدمات والرضا المؤسسيّ.
 - 
	
التواصل الفعّال: إيصال الأفكار بوضوحٍ وإدارة الحوار البنّاء.
 - 
	
التطوير الذاتيّ: الالتزام بالتعلم المستمرّ وتنمية القدرات الشخصية.
 - 
	
الالتزام المؤسسيّ والانتماء الوطنيّ: الشعور بالمسؤولية تجاه المؤسسة والوطن.
 - 
	
النزاهة والشفافية: الالتزام بأعلى المعايير الأخلاقية في كل ممارسةٍ مهنيةٍ.
 
🔹 ثالثًا: الجدارات كجسرٍ بين الأداء الفرديّ والتميز المؤسسيّ
لم تُصمَّم الجدارات في الإمارات لتكون أدوات تقييمٍ جامدة، بل جسورًا معرفيةً وسلوكيةً تربط بين ما يفعله الفرد وبين ما تطمح المؤسسة إلى تحقيقه.
ففي دورة إدارة الأداء، تُحدّد لكل موظفٍ مجموعةٌ من الجدارات التي تُعكس في تقييمه السنويّ وتُسهم في تحديد مساره المهنيّ وخطط تطويره.
وما يميّز هذه المنهجية هو أنها تربط بين ما أنجزه الفرد (المخرجات) وكيف أنجزه (الجدارة والسلوك).
فلا يكفي أن يُحقّق الموظف أهدافه إن لم يُظهر السلوك المؤسسيّ المطلوب، لأنّ الأداء في الفكر الإماراتيّ يُقاس بالنتائج والسلوك معًا.
وبالمقابل، فإن الموظف الذي يُجسّد القيم المؤسسية حتى لو لم يحقق الأهداف بشكلٍ كاملٍ، يُعامل كحالةٍ تطويريةٍ لا عقابيةٍ، لأنّ النظام يؤمن بأن السلوك الصحيح أساس النجاح المستقبليّ.
بهذا، تتحوّل الجدارات إلى منظومةٍ مزدوجةٍ تجمع بين الكفاءة التقنية والذكاء السلوكيّ، أي بين “القدرة على الإنجاز” و“القدرة على الإلهام”.
وهذا ما يجعل الأداء في الإمارات ليس مجرد تقييمٍ للنتائج، بل تقييمًا للرحلة التي أُنجزت خلالها تلك النتائج.
🔹 رابعًا: الجدارات في بناء القيادات الحكومية
تُعدّ الجدارات أحد الأعمدة الرئيسة في برامج بناء القيادات الحكومية في دولة الإمارات، مثل "برنامج قيادات حكومة الإمارات" و"برنامج القادة المؤثرين"، وغيرها من المبادرات التي تُشرف عليها وزارة شؤون مجلس الوزراء والموارد البشرية.
فكل برنامجٍ من هذه البرامج يعتمد على "خريطة الجدارات القيادية"، حيث يُقيَّم المرشحون وفق سلوكياتٍ ومهاراتٍ محددةٍ، وتُبنى خطط التطوير الشخصية بناءً على نتائج هذا التقييم.
وتُستخدم أدوات علمية دقيقة مثل مراكز التقييم (Assessment Centers) التي تُحاكي مواقف العمل الواقعية لقياس قدرة القائد على التفكير الاستراتيجيّ، واتخاذ القرار، وإدارة الأزمات، وتحفيز الفريق.
وتُعتبر هذه المراكز من أبرز تطبيقات الجدارة في العالم العربيّ، لأنها تُحوّل المفهوم النظريّ إلى تجربةٍ عمليةٍ تُبرز الكفاءة الحقيقية لا المظهرية.
كما تُعدّ "الجدارات" أساس عملية "التخطيط التعاقبيّ" (Succession Planning) في الحكومة الاتحادية، بحيث يُحدّد القادة المحتملون بناءً على جداراتهم القيادية وسلوكهم المؤسسيّ، وليس فقط على الأقدمية أو المؤهلات الأكاديمية.
وبذلك، يتحقق مبدأ "القيادة بالاستحقاق" الذي يجعل النظام أكثر عدالةً واستدامةً.
🔹 خامسًا: الجدارات كأداةٍ للحوكمة المؤسسية والعدالة التنظيمية
من خلال دمج الجدارات في منظومة إدارة الأداء، تحقّق الإمارات هدفين جوهريين في الحوكمة المؤسسية:
الأول هو العدالة التنظيمية، لأنّ التقييم لم يعُد قائمًا على الانطباعات أو العلاقات الشخصية، بل على معايير سلوكيةٍ محددةٍ وواضحةٍ ومعلنةٍ لجميع الموظفين.
والثاني هو التوحيد المؤسسيّ، لأنّ الجدارات تُشكّل لغةً موحّدةً في جميع الجهات الحكومية، مما يُعزز الاتساق ويُقلل التباين بين الإدارات.
كما ساهمت الجدارات في تطوير عملية اتخاذ القرار الإداريّ من خلال ربطها بالبيانات الكمية والنوعية.
فمثلاً، حين تُظهر تقارير الأداء ضعفًا في "جدارة التواصل الفعّال"، يُترجم ذلك إلى خطة تطويرٍ مؤسسيةٍ تُعزّز برامج التدريب على مهارات الاتصال الداخليّ.
وهكذا تُصبح الجدارات نظامًا حيًّا للتغذية الراجعة المؤسسية، يُعيد تشكيل الاستراتيجيات وفق السلوك الفعليّ داخل الميدان، لا وفق التوقعات النظرية.
🔹 سادسًا: الجدارات في إطار التحول الرقميّ والتحليل الذكيّ
أدخلت الإمارات بعدًا رقميًا متقدمًا في تطبيقات الجدارات من خلال أنظمة الأداء الذكية التي تُحلّل السلوك المهنيّ للموظف في ضوء البيانات المسجّلة في النظام الإلكترونيّ.
فعلى سبيل المثال، يمكن للنظام تتبّع مدى التزام الموظف بخطط التطوير الخاصة به، أو تفاعله في جلسات الأداء الدورية، أو مشاركته في المبادرات التطويرية.
وتُترجم هذه البيانات إلى “مؤشرات نضجٍ سلوكيٍّ” (Behavioral Maturity Indicators) تُستخدم في تحليل الاتجاهات التنظيمية وصياغة السياسات المستقبلية للموارد البشرية.
وبهذا، تصبح الجدارات جزءًا من منظومة الذكاء المؤسسيّ الوطنيّ الذي لا يكتفي بقياس الأداء بل يتعلّم منه باستمرارٍ، ويحوّل السلوك الفرديّ إلى معرفةٍ تنظيميةٍ تُغذّي صانع القرار.
🔹 سابعًا: الجدارات والهوية المؤسسية الإماراتية
إنّ أعمق أثرٍ للجدارات في التجربة الإماراتية هو دورها في بناء هويةٍ مؤسسيةٍ وطنيةٍ متميزةٍ.
فحين نتأمل القيم التي تتكرر في جميع الجدارات – مثل الإيجابية، والابتكار، والمسؤولية، والاحترام – ندرك أنّها ليست مفاهيم مهنية فقط، بل قيمٌ مجتمعيةٌ إماراتيةٌ أصيلةٌ انعكست في الأداء الحكوميّ.
وهكذا أصبح الموظف الحكوميّ في الإمارات نموذجًا للهوية الوطنية في العمل: منضبطًا، مبدعًا، متعاونًا، ومخلصًا، يعيش رسالته لا يؤدي وظيفةً فقط.
ومن هنا، فإنّ “الجدارة” في الفكر الإماراتيّ ليست غايةً مهنيةً بل وسيلةٌ لغرس الانتماء الوطنيّ في السلوك المهنيّ اليوميّ.
فكل قرارٍ إداريٍّ، وكل مهمةٍ وظيفيةٍ، وكل تفاعلٍ داخل المؤسسة هو فرصةٌ لتجسيد القيم الوطنية وترسيخ الهوية المؤسسية.
🔹 ثامنًا: الجدارات كمعيارٍ إقليميٍّ لبناء النموذج العربيّ
لم تتوقف الإمارات عند تطبيق الجدارات داخل حدودها، بل بدأت بتصدير هذا النموذج إلى المنطقة العربية عبر التعاون الخليجيّ والدورات التدريبية والندوات المتخصصة.
وقد تبنت العديد من الدول العربية مبادئ الإطار الإماراتيّ للجدارات كأساسٍ لتطوير أنظمتها الوطنية في الموارد البشرية وإدارة الأداء، مما جعل الإمارات مرجعًا إقليميًا في هندسة الجدارات.
وهذا يؤكد أن التجربة الإماراتية لم تكتفِ بأن تكون رائدةً في الداخل، بل أصبحت صاحبة أثرٍ فكريٍّ ومؤسسيٍّ في العالم العربيّ، حيث تمكّنت من الجمع بين الأصالة القيمية والحداثة المنهجية، بين السلوك العربيّ الأصيل والفكر الإداريّ العالميّ.
بهذا نكون قد استوعبنا البنية الفكرية والتنظيمية والتطبيقية للإطار الوطنيّ للجدارات في الحكومة الاتحادية، وفهمنا كيف أصبح العمود الفقريّ للتميز المؤسسيّ في دولة الإمارات، لأنه جعل الأداء انعكاسًا للقيم، والقيادة انعكاسًا للجدارة، والسلوك انعكاسًا للهوية.
إنّ الجدارة ليست أن تمتلك المهارة، بل أن تُمارسها بروح القيم، وأن تُلهم الآخرين لتعلّمها، فتتحول الكفاءة إلى ثقافة، والثقافة إلى تميزٍ مستدامٍ.
6️⃣🏛️ التكامل بين الأداء المؤسسيّ والتميز الحكوميّ في رؤية القيادة الإماراتية
حين نُمعن النظر في التجربة الإماراتية في بناء منظومة الأداء الحكوميّ، نجد أننا أمام نموذجٍ إداريٍّ فريدٍ استطاع أن يُحقق التكامل الكامل بين مفهومي الأداء والتميّز، بحيث لم يعد التميز مجرّد طموحٍ أخلاقيٍّ أو شعارٍ تنظيميٍّ، ولم يعد الأداء مجرّد مؤشراتٍ رقميةٍ جامدةٍ، بل أصبح الاثنان وجهين لعملةٍ واحدةٍ تمثّل فلسفة القيادة في إدارة الدولة الحديثة.
لقد أدركت الإمارات منذ وقتٍ مبكرٍ أن الأداء المؤسسيّ لا يمكن أن يُنتج نتائج متميزةً إذا لم يكن قائماً على قيم التميز، وأنّ التميز نفسه لا يُمكن أن يُقاس إلا من خلال أداءٍ فعّالٍ مستدامٍ يُترجم الرؤية الوطنية إلى واقعٍ ملموسٍ.
هذا الوعي العميق جعل دولة الإمارات تحوّل مفهوم إدارة الأداء من وظيفةٍ إداريةٍ إلى مشروعٍ وطنيٍّ شاملٍ، يُجسّد روح الرؤية القيادية التي تؤمن بأنّ جودة النتائج تبدأ من جودة النظام، وأنّ النظام الفعّال لا يُبنى بالأوامر، بل بالثقافة المؤسسية التي تُمكّن كل موظفٍ من أن يكون قائدًا في موقعه، ومسؤولًا عن أثره، وسفيرًا لرسالته.
🔹 أولًا: فلسفة القيادة الإماراتية — من الأداء إلى التميز
في الفكر القياديّ الإماراتيّ، الأداء هو الوسيلة، والتميّز هو الغاية.
لكنّ العلاقة بينهما ليست خطيةً، بل حلزونيةٌ متداخلةٌ، تتطور مع الزمن عبر دوراتٍ متكررةٍ من التعلم والتحسين والابتكار.
ففي كل دورة أداءٍ حكوميةٍ، لا تُقاس النتائج فقط بمدى تحقيق الأهداف، بل أيضًا بمدى اقتراب المؤسسة من معايير التميز الوطنيّ.
ويُترجم هذا الفهم في نموذج "التميز الحكوميّ الإماراتيّ" الذي يُعدّ أول نموذجٍ وطنيٍّ في العالم يُوحّد بين معايير الأداء والإبداع والاستدامة في منظومةٍ واحدةٍ متكاملةٍ.
لقد تبنّت القيادة الإماراتية رؤيةً مؤسسيةً عميقةً مفادها أن "التميز هو الأداء في أقصى درجات النضج"، أي أن الأداء حين يبلغ ذروة كفاءته واستدامته وذكائه يصبح تميزًا.
ومن هنا، فإنّ رحلة الأداء في المؤسسات الاتحادية هي في جوهرها رحلة نحو التميز المؤسسيّ، لأنّ التميز ليس نتيجةً مفاجئةً، بل نتاج تراكمٍ واعٍ ومستمرٍّ لأداءٍ منضبطٍ وقيمٍ راسخةٍ وثقافةٍ فعّالةٍ.
🔹 ثانيًا: التكامل الهيكليّ بين منظومتي الأداء والتميّز
لم تترك الإمارات العلاقة بين الأداء والتميّز للصدفة أو للاجتهاد، بل نظّمتها تنظيماً منهجيًا عبر هيكلٍ وطنيٍّ متكاملٍ تشرف عليه وزارة شؤون مجلس الوزراء والهيئة الاتحادية للموارد البشرية، إلى جانب برنامج الشيخ محمد بن راشد للتميّز الحكوميّ.
هذا الهيكل يُجسّد ما يمكن تسميته بـ “الحوكمة المزدوجة للأداء والتميّز”، حيث تعمل المنظومتان بتكاملٍ تامٍّ من خلال أربعة مستوياتٍ رئيسيةٍ:
1️⃣ المستوى الوطنيّ:
يربط بين رؤية الإمارات 2031 ومؤشرات الأداء الوطنية، بحيث يتم تقييم أداء الوزارات والهيئات وفق مدى مساهمتها في تحقيق الأجندة الوطنية.
ويُستخدم نظام الأداء هنا كأداةٍ لقياس الأثر الوطنيّ الشامل، لا مجرد كفاءةٍ تشغيليةٍ.
2️⃣ المستوى الاستراتيجيّ:
يربط بين الأهداف المؤسسية ومعايير نموذج التميز الحكوميّ الإماراتيّ، بحيث تتكامل مؤشرات الأداء مع أبعاد التميز الثلاثة: الرؤية، الابتكار، الاستدامة.
3️⃣ المستوى التنفيذيّ:
يُترجم التكامل من خلال ربط نظام الأداء الإلكترونيّ "بياناتي" بمعايير التميز المؤسسيّ، فيُصبح التقييم الآليّ للأداء متصلًا بتحليل الجدارة المؤسسية وفق النموذج الوطنيّ.
4️⃣ المستوى البشريّ:
يُركّز على الجدارات والسلوكيات التي تُعبّر عن ثقافة التميز، بحيث يتحول كل موظفٍ إلى مُساهمٍ مباشرٍ في تحقيق معايير الجودة والابتكار وخدمة المتعاملين.
وهذا التكامل الرباعيّ جعل الأداء الحكوميّ في الإمارات ليس عمليةً تقنيةً فحسب، بل ممارسةً قياديةً وثقافيةً شاملةً تسري في كل مفصلٍ من مفاصل الدولة.
🔹 ثالثًا: نموذج التميز الحكوميّ الإماراتيّ — الإطار المرجعيّ للأداء
يُعدّ نموذج التميز الحكوميّ الإماراتيّ أحد أكثر النماذج شمولًا وتطورًا في العالم، إذ يجمع بين مبادئ EFQM الأوروبية، ومفاهيم ISO 9001، وخصائص البيئة الخليجية والعربية.
وقد بُني هذا النموذج على ثلاثة محاورٍ استراتيجيةٍ رئيسيةٍ تشكل أساس التكامل مع منظومة الأداء:
1️⃣ الرؤية المستقبلية للدولة (Vision):
التي تُحدّد الاتجاه الوطنيّ وتُترجم إلى سياساتٍ وبرامجٍ قابلةٍ للقياس عبر نظام الأداء.
2️⃣ الابتكار والاستباقية (Innovation):
الذي يُعدّ مبدأً أساسيًا في تقييم الأداء المؤسسيّ، بحيث لا يُكافأ فقط من يُنفّذ، بل من يُجدّد ويبتكر.
3️⃣ الاستدامة والمرونة (Sustainability):
التي تضمن أن تكون نتائج الأداء متكررةً وقابلةً للاستمرار، وليست نجاحاتٍ مؤقتةً.
ومن خلال هذه المحاور، أصبح نظام الأداء المؤسسيّ أداةً تنفيذيةً لنموذج التميز، إذ يُوفّر له البيانات والتحليل والمقاييس، بينما يُقدّم النموذج بدوره الإطار الفكريّ والقيميّ الذي يُوجّه الأداء نحو التميز المستدام.
🔹 رابعًا: التحليل المقارن بين الأداء والتميّز
للتوضيح المنهجيّ، يمكن النظر إلى العلاقة بين الأداء والتميّز في الإمارات كما يلي:
| المقارنة | إدارة الأداء | التميز الحكوميّ | 
|---|---|---|
| الغاية | تحقيق الأهداف التشغيلية والتنظيمية. | تحقيق الريادة والتفوق المستدام. | 
| المدخل | مؤشرات كمية وسلوكية لقياس النتائج. | نموذج متكامل لتقييم النضج المؤسسيّ. | 
| المنهجية | تخطيط – تنفيذ – تقييم – تطوير. | ابتكار – تعلم – تحسين – استدامة. | 
| التركيز | الأفراد والفرق والوحدات. | المؤسسة ككل والنظام الوطنيّ. | 
| المخرجات | نتائج الأداء الفرديّ والمؤسسيّ. | نتائج التميز المؤسسيّ والتنافسية العالمية. | 
| الأدوات | أنظمة رقمية وتحليل بيانات. | جوائز ومعايير وتقييمات شاملة. | 
ويظهر من الجدول أنّ الأداء هو الجانب التنفيذيّ للتميّز، بينما التميّز هو الجانب الفكريّ والقيميّ للأداء.
وحين يلتقيان في نقطةٍ واحدةٍ — كما هو الحال في الإمارات — يتحولان إلى منظومةٍ ناضجةٍ للقيادة والحوكمة والإبداع المؤسسيّ.
🔹 خامسًا: الثقافة المؤسسية كحلقة وصلٍ بين الأداء والتميّز
لم يكن بالإمكان تحقيق هذا التكامل لولا بناء ثقافةٍ مؤسسيةٍ داعمةٍ تُحفّز الموظفين على تبنّي قيم الأداء والتميّز معًا.
فقد عملت القيادة الإماراتية على ترسيخ ثقافةٍ حكوميةٍ جديدةٍ تُسمّى ثقافة التميّز بالأداء، شعارها: “كل أداءٍ فرصةٌ للتميز، وكل تميزٍ ناتجٌ عن أداءٍ متقنٍ.”
وتقوم هذه الثقافة على خمسة مبادئ جوهريةٍ:
1️⃣ المسؤولية الذاتية: كل موظفٍ مسؤولٌ عن جودة أدائه.
2️⃣ التعلّم من التجربة: لا يُعدّ الخطأ فشلًا بل مصدرًا للتحسين.
3️⃣ التركيز على المتعامل: نجاح المؤسسة يُقاس برضا المستفيد.
4️⃣ الابتكار اليوميّ: التميّز ليس حدثًا سنويًا بل ممارسةً يوميةً.
5️⃣ القيادة بالقدوة: القائد يُلهم فريقه من خلال سلوكه لا أوامره.
ومن خلال هذه الثقافة، أصبح الأداء في المؤسسات الاتحادية سلوكًا جماعيًا لا مهمةً فرديةً، وتحولت بيئة العمل إلى مختبرٍ دائمٍ للتطوير والتجريب، مما خلق ما يمكن تسميته بـ “البيئة المنتجة للتميز”.
🔹 سادسًا: دور القيادة في توجيه التكامل
القائد في المنظومة الإماراتية لا يُعتبر مُقيّمًا للأداء فقط، بل مُهندسًا للتميز المؤسسيّ.
فهو الذي يُحوّل الأهداف إلى قيمٍ، والسياسات إلى ممارساتٍ، والمؤشرات إلى إلهامٍ.
وقد تم تدريب القيادات الحكومية على ممارسة ما يُعرف بـ Leadership for Excellence أي "القيادة من أجل التميز"، وهي فلسفة تجعل القائد مسؤولًا عن تحفيز الأداء وتحسين الجودة وتحقيق الابتكار في وقتٍ واحدٍ.
ولهذا أُدرجت الجدارات القيادية مثل "القدوة، والابتكار، والتأثير" في صلب نموذج الأداء الاتحاديّ، لتتحول القيادة نفسها إلى عنصرٍ من عناصر الأداء لا مجرد سياقٍ إداريٍّ له.
فالقائد في الإمارات يُقاس بنجاح مؤسسته لا بمنصبه، وبقدرته على تطوير موظفيه لا بعدد قراراته، وبما يتركه من أثرٍ ثقافيٍّ في الأداء العام لا بما يُنجزه في التقارير.
🔹 سابعًا: الحوكمة والتكامل في إدارة البيانات
إنّ التكامل بين الأداء والتميّز لم يكن ليحدث دون حوكمةٍ ذكيةٍ للبيانات المؤسسية.
فقد أنشأت الإمارات منظومةً متكاملةً لتجميع وتحليل البيانات تحت مظلة “التحول الرقميّ للأداء”، حيث تُربط نتائج الأداء الفرديّ بالمؤشرات المؤسسية ومعايير التميز.
ويُستخدم الذكاء الاصطناعيّ لتحليل هذه البيانات واكتشاف الأنماط والعلاقات التي تُظهر نقاط القوة والفرص للتحسين.
وتُستخدم هذه النتائج في تقارير “لوحات القيادة الوطنية” التي تُقدَّم إلى مجلس الوزراء، ليُبنى القرار التنفيذيّ على معطياتٍ علميةٍ دقيقةٍ تربط بين الأداء والتميّز في الزمن الحقيقيّ.
وهذه الممارسة جعلت دولة الإمارات من أوائل الدول التي تُدير الأداء الحكوميّ كمنظومة بياناتٍ استراتيجيةٍ لا كملفاتٍ ورقيةٍ أو تقييماتٍ موسميةٍ.
🔹 ثامنًا: أثر التكامل على التنمية الوطنية
النتيجة الطبيعية لهذا التكامل كانت أن تحوّل الأداء الحكوميّ إلى محركٍ للتنمية الوطنية.
فلم يعد الهدف من إدارة الأداء تحسين الكفاءة التشغيلية فقط، بل تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
وقد أسهم هذا النظام في رفع تصنيف الإمارات في مؤشرات التنافسية العالمية مثل مؤشر جودة الحكومة، ومؤشر الكفاءة الحكومية، ومؤشر السعادة العالميّ.
كما أصبحت نتائج الأداء تُستخدم لتوجيه سياسات التعليم والصحة والخدمات العامة، بحيث يُعاد توزيع الموارد وفق الأداء الفعليّ لا التقديرات النظرية.
وبذلك، أصبح نظام الأداء أداةً استراتيجيةً لتوجيه التنمية، وأصبح التميز المؤسسيّ مقياسًا لمدى نضج المجتمع في ممارساته الإدارية والتنموية.
إنّ التكامل بين الأداء المؤسسيّ والتميّز الحكوميّ في الإمارات ليس إنجازًا تنظيميًا فقط، بل هو تحوّلٌ ثقافيٌّ وفكريٌّ عميقٌ، نقل الإدارة العامة من منطق “التنفيذ” إلى منطق “الإبداع”، ومن ثقافة “المتابعة” إلى ثقافة “التحسين المستمرّ”، ومن “الرقابة على الأداء” إلى “التمكين من التميز”.
لقد أوجدت الإمارات نموذجًا متفردًا يمكن وصفه بأنه “الحكومة المتعلّمة المُلهمة”، التي تبني المستقبل بالمعرفة، وتُقيس التقدم بالقيم، وتُمارس الأداء كفنٍّ للقيادة والإلهام لا كروتينٍ إداريٍّ جامد.
إن الأداء بلا تميزٍ حركةٌ بلا روح، والتميّز بلا أداءٍ حلمٌ بلا جسد، ولكن حين يلتقيان في نظامٍ واحدٍ، يولد الإبداع المؤسسيّ الذي يُغيّر الواقع ويصنع المستقبل.
7️⃣🌍 الاستدامة والمرونة المؤسسية في إدارة الأداء الإماراتيّ
في عالمٍ يتّسارع فيه التغيير بوتيرةٍ غير مسبوقة، لم يعُد النجاح الإداريّ يُقاس فقط بقدرة المؤسسات على تحقيق أهدافها في اللحظة الراهنة، بل بقدرتها على الاستمرار في تحقيق الأداء المتميّز عبر الزمن، رغم التحوّلات والضغوط والتحديات.
وفي هذا الإطار، برزت التجربة الإماراتية كنموذجٍ عالميٍّ في الجمع بين الاستدامة والمرونة في إدارة الأداء، إذ استطاعت أن تبني نظامًا إداريًا ديناميكيًا يُحافظ على ثبات الرؤية مع مرونة الوسائل، ويُوازن بين الانضباط المؤسسيّ والقدرة على التكيّف.
فالاستدامة في الفكر الإماراتيّ ليست مجرد استمرارٍ زمنيٍّ، بل هي قدرة المؤسسة على التجدّد الذاتيّ والتطوّر التراكميّ دون أن تفقد هويتها أو رسالتها.
أما المرونة، فهي ليست انفعالًا مع الأحداث أو ردّ فعلٍ للتغيّرات، بل قدرةٌ استراتيجيةٌ واعيةٌ على التكيّف الموجّه الذي يحافظ على الكفاءة ويُعيد توجيه الموارد نحو الأولويات الجديدة.
وحين تتكامل الاستدامة مع المرونة، تُولد منظومة أداءٍ قادرةٍ على التعلم المستمرّ، وتُصبح المؤسسة كالكائن الحيّ الذي يتنفس من بيئته، ويتغذى من تجاربه، ويتطور مع الزمن دون أن يشيخ.
🔹 أولًا: فلسفة الاستدامة في إدارة الأداء الإماراتيّ
تنطلق فلسفة الاستدامة في الأداء الإماراتيّ من قاعدةٍ فكريةٍ أساسيةٍ مفادها أن الأداء ليس هدفًا لحظيًا، بل سلوكٌ مستدامٌ يتكرر ويترسخ حتى يُصبح ثقافةً مؤسسيةً متوارثة.
ولهذا ربطت الحكومة الاتحادية مفهوم الأداء بفكر “التحسين المستمرّ” و“التعلّم المؤسسيّ”، بحيث تُصبح كل دورة أداءٍ نقطة انطلاقٍ جديدةٍ نحو مستوى أعلى من النضج والكفاءة.
وقد تجسّد هذا المفهوم عمليًا في ثلاث آلياتٍ مركزيةٍ ضمن النظام الإماراتيّ:
1️⃣ الدورات السنوية المتعاقبة للأداء (Performance Cycles):
حيث تُعيد الحكومة في كل عامٍ تصميم الأهداف، وتحديث المؤشرات، وتقييم النتائج السابقة، لتُحول إدارة الأداء إلى عملية تعلمٍ تراكميٍّ دائمٍ لا إلى إجراءٍ متكررٍ.
2️⃣ الربط بين الأداء والتطوير (Performance-Development Link):
فكل نتيجةٍ تقييميةٍ تتحول إلى خطة تطويرٍ شخصيةٍ ومؤسسيةٍ، بحيث لا تُغلق دورة الأداء إلا وقد بدأت دورة التعلم.
3️⃣ تغذية البيانات المستمرة (Continuous Feedback Loops):
من خلال المنصات الإلكترونية الذكية التي تُمكّن المديرين من تقديم الملاحظات الفورية والتوصيات التطويرية في الوقت الحقيقيّ، مما يجعل النظام ذاتيّ التحفيز والتصحيح.
بهذا المعنى، لم تعُد الاستدامة في الأداء الإماراتيّ تعني فقط “استمرارية النظام”، بل “استمرارية التحسين”.
فالنظام لا يعيش لأنه قائمٌ، بل لأنه يتجدّد في كل لحظةٍ عبر دورة التعلم المؤسسيّ التي تُغذيه بالمراجعة، والتفكير، والتطوير، والتغذية الراجعة، والتحليل التنبؤيّ.
🔹 ثانيًا: المرونة كخاصيةٍ هيكليةٍ في منظومة الأداء
المرونة في النظام الإماراتيّ ليست عنصرًا طارئًا، بل مبدأٌ تصميميٌّ أصيلٌ تم إدراجه في بنية النظام منذ تأسيسه.
فقد تم تصميم إدارة الأداء الحكومية بحيث تكون قادرةً على التكيف مع التحولات البيئية، والسياساتية، والتكنولوجية دون تعطّل أو ارتباك.
ويظهر ذلك بوضوحٍ في خمس سماتٍ رئيسيةٍ تشكّل جوهر المرونة المؤسسية الإماراتية:
1️⃣ المرونة التشريعية:
حيث صُمّمت اللوائح والأنظمة بحيث تسمح بالتعديل الدوريّ وفق المستجدات، مع الحفاظ على الإطار العامّ للحوكمة.
فالنظام لا يُعامل النصوص كقوالبٍ جامدةٍ، بل كأدواتٍ قابلةٍ للتحديث بما يخدم الكفاءة والواقعية.
2️⃣ المرونة الرقمية:
تُمكّن المنصات الذكية مثل “بياناتي” و“أداء” من تحديث الأهداف والمؤشرات آنيًا بناءً على التغيرات الاستراتيجية أو الطارئة.
ففي الأزمات مثل جائحة كورونا، استطاعت الحكومة الإماراتية أن تعيد ضبط أهداف الأداء الوطنية خلال أسابيعٍ قليلةٍ دون تعطيلٍ للنظام، بفضل مرونته التقنية.
3️⃣ المرونة الهيكلية:
تم تصميم الهياكل التنظيمية بحيث تُتيح التحول بين الفرق والمشروعات بسهولةٍ، دون أن يتأثر الأداء العامّ.
وقد ساعد ذلك في تعزيز مفهوم “الفرق الافتراضية” والعمل المرن الذي أثبت فعاليته في السنوات الأخيرة.
4️⃣ المرونة القيادية:
القائد الإماراتيّ يتعامل مع المرونة كجدارةٍ قياديةٍ أساسيةٍ، تُظهر قدرته على اتخاذ القرار في بيئةٍ متغيرةٍ، دون ترددٍ أو إفراطٍ في المركزية.
وهذا ما جعل القيادة في الإمارات قادرةً على استباق التحديات بدلًا من انتظارها.
5️⃣ المرونة الثقافية:
تُعدّ الثقافة المؤسسية التي تشجع على الابتكار والتجريب من أقوى مصادر المرونة، لأنها تُحفّز الموظفين على اقتراح الحلول والتفاعل مع المتغيرات بوعيٍ ومسؤوليةٍ.
وهكذا أصبحت المرونة سلوكًا إداريًا لا مجرد خاصيةٍ تنظيميةٍ، تُمارس في القرار، والسياسة، والتواصل، والتعلم، حتى باتت المؤسسات الحكومية الإماراتية نموذجًا في الرشاقة المؤسسية (Organizational Agility).
🔹 ثالثًا: التكامل بين الاستدامة والمرونة
رغم أنّ الاستدامة والمرونة يُبدوان ظاهريًا مفهومين متعارضين — فالأولى تبحث عن الثبات والثانية عن التغيير — فإنّ الإمارات استطاعت أن تدمجهما في معادلةٍ واحدةٍ قائمةٍ على التحكم الذكيّ في التغيير.
فالاستدامة تُعطي النظام عمقه الزمنيّ وهويته المؤسسية، بينما تمنحه المرونة قدرته على التكيّف والتجديد.
ومن خلال الدمج بينهما، تحقق الإمارات نظامًا متوازنًا بين الانضباط والديناميكية.
على سبيل المثال، في دورة الأداء السنوية، هناك عناصر ثابتةٌ لا تتغير — مثل الجدارات السلوكية، وأسس العدالة التنظيمية، ومبادئ الكفاءة — وهذه تمثل جانب الاستدامة.
وفي المقابل، هناك عناصر متغيرةٌ تُراجع باستمرارٍ — مثل الأهداف، ومؤشرات الأداء، وآليات التحفيز — وهذه تمثل جانب المرونة.
وبين الثابت والمتغير تنشأ الحيوية المؤسسية التي تُبقي النظام متيقظًا ومتجددًا دون أن يفقد استقراره.
كما أن هذا التكامل يتجلى في الربط بين الخطط الاستراتيجية طويلة المدى (رؤية الإمارات 2031) والخطط التشغيلية قصيرة المدى، بحيث يُدار الزمن الإداريّ في مستويين متوازيين:
زمن التحول الوطنيّ الذي يمتد لعقدٍ أو أكثر، وزمن الإنجاز الإداريّ الذي يُقاس بالأشهر والأسابيع.
وهذا ما يجعل الأداء في الإمارات نظامًا متدرجًا عبر الزمن، قادرًا على التحرك بسرعةٍ نحو المستقبل دون أن يفقد ارتباطه بالجذور.
🔹 رابعًا: أدوات تحقيق الاستدامة والمرونة في الأداء
لم تترك الإمارات هذين المفهومين كشعاراتٍ نظريةٍ، بل ترجمتهما إلى أدواتٍ عمليةٍ يمكن قياس أثرها.
ومن أبرز هذه الأدوات:
1️⃣ المؤشرات المركّبة للأداء (Composite KPIs):
التي تجمع بين مؤشراتٍ كميةٍ ونوعيةٍ وسلوكيةٍ لتقديم صورةٍ شاملةٍ عن الأداء المؤسسيّ.
فهذه المؤشرات لا تكتفي بقياس النتائج، بل تُحلّل الكفاءة، والفاعلية، والتطور المستقبليّ.
2️⃣ التحليل التنبؤيّ للأداء (Predictive Analytics):
باستخدام الذكاء الاصطناعيّ لتحليل البيانات التاريخية واستشراف الاتجاهات القادمة، مما يسمح بالتدخل الاستباقيّ قبل ظهور المشكلات.
3️⃣ المراجعة المؤسسية الدورية (Institutional Reviews):
حيث تُجري الجهات الحكومية مراجعاتٍ شاملةً كل عامين لتقييم مدى نضج النظام، وكفاءة المؤشرات، ومستوى المرونة التنظيمية.
4️⃣ نظام اقتراحات الموظفين (Innovation Gateways):
الذي يُتيح للعاملين تقديم أفكارٍ لتحسين الأداء، وتُقيّم هذه المقترحات وفق جودتها وجدواها، مما يُبقي النظام في حالة تحديثٍ ذاتيٍّ دائمٍ.
5️⃣ المجالس القيادية التحسينية (Performance Councils):
التي تجتمع بشكلٍ دوريٍّ لمراجعة الأداء المؤسسيّ ومناقشة الدروس المستفادة وتحديث السياسات وفقًا للتحديات الراهنة.
هذه الأدوات مجتمعةً جعلت من منظومة الأداء الإماراتية نظامًا يُحسّن نفسه بنفسه، ويُعالج الانحرافات دون انتظار التوجيهات الخارجية، ليُصبح كيانًا إداريًا متعلمًا بالمعنى الكامل للكلمة.
🔹 خامسًا: استدامة الأداء عبر تمكين الإنسان
جوهر الاستدامة الحقيقيّ في التجربة الإماراتية هو الإنسان.
فلا يمكن لأي نظامٍ أن يستمرّ ما لم يكن القائمون عليه مؤمنين به ومقتنعين برسالته.
ومن هنا، ربطت الإمارات بين استدامة الأداء وتمكين الموارد البشرية من خلال ثلاث استراتيجياتٍ رئيسيةٍ:
1️⃣ بناء الجدارات المستقبلية:
من خلال برامج التدريب المستمرّ، وإعادة تأهيل الكفاءات الوطنية في مجالات الذكاء الاصطناعيّ، والتحول الرقميّ، والابتكار.
2️⃣ توطين الكفاءات وتمكين القيادات النسائية:
إذ أدركت القيادة أن التنوع في رأس المال البشريّ يُعزز القدرة على التكيّف والاستدامة.
3️⃣ ترسيخ ثقافة التعلّم مدى الحياة:
بحيث لا يُنظر إلى التعلم كمرحلةٍ، بل كأسلوب حياةٍ وظيفيةٍ يُمارسه الموظف بشكلٍ دائمٍ.
بهذا المنهج، لم تعد الاستدامة مجرد بقاء النظام، بل استدامة الإنسان القادر على تطوير النظام.
فالمؤسسة التي تُطوّر عقول موظفيها تضمن بقاءها حتى إن تغيّرت التكنولوجيا أو السياسات.
🔹 سادسًا: الاستدامة والمرونة في مواجهة الأزمات
لقد أثبتت جائحة كورونا (COVID-19) أنّ النظام الإماراتيّ يتمتع بدرجةٍ عاليةٍ من المرونة المؤسسية والاستدامة التشغيلية.
ففي حين توقفت العديد من الأنظمة الإدارية في العالم، استمرت الحكومة الإماراتية في إدارة الأداء إلكترونيًا دون انقطاعٍ، بل تحوّلت الأزمة إلى فرصةٍ للتعلم والتحسين.
تمّ تعديل مؤشرات الأداء خلال أسابيعٍ لتناسب العمل عن بُعد، وتمّ إطلاق مبادراتٍ جديدةٍ لقياس الإنتاجية الرقمية والرفاه الوظيفيّ للموظفين.
وقد كشفت التجربة أن المرونة ليست فقط في التكنولوجيا، بل في العقلية القيادية والثقافة المؤسسية التي استطاعت أن تتعامل مع المجهول بوعيٍ وهدوءٍ واستباقيةٍ.
ومنذ تلك المرحلة، أصبح “الجاهزية المؤسسية للأزمات” أحد مؤشرات الأداء الأساسية في جميع الجهات الاتحادية.
🔹 سابعًا: النضج المؤسسيّ كذروة الاستدامة
تُقاس استدامة الأداء في النهاية بدرجة نضج المؤسسة.
وقد طوّرت الإمارات “نموذج النضج المؤسسيّ في الأداء الحكوميّ” الذي يُقيّم المؤسسات وفق خمس مراحلٍ تبدأ من الأداء الوظيفيّ البسيط وتنتهي بالأداء الذكيّ المتكامل.
وفي المرحلة الأخيرة، تُصبح المؤسسة قادرةً على اتخاذ القرارات ذاتيًا بناءً على التحليل الآليّ، ويُصبح التعلم المؤسسيّ جزءًا من بنيتها الجوهرية.
هذا النضج هو ما جعل المؤسسات الإماراتية لا تعتمد على الأفراد فقط، بل على نظامٍ متكاملٍ قادرٍ على البقاء حتى مع تغيّر الأشخاص، لأنّ المعرفة والإجراءات والبيانات كلها موثّقة ومترابطة ومُؤسّسة على الحوكمة الذكية.
🔹 ثامنًا: الاستدامة كرسالة وطنية
الاستدامة في الأداء الحكوميّ الإماراتيّ ليست هدفًا إداريًا فحسب، بل رسالة وطنية مرتبطة برؤية الدولة للمستقبل.
فقد نصّت رؤية الإمارات 2031 على أن تكون الإمارات “الدولة الأكثر استدامةً في الأداء الحكوميّ والخدمات العامة في المنطقة”، وهو ما يعكس عمق الارتباط بين الأداء المؤسسيّ والتنمية الشاملة.
وهكذا أصبح الأداء المستدام جزءًا من هوية الدولة الحضارية التي تسعى إلى التميز لا في الخدمات فحسب، بل في القيم، والإدارة، والإنجاز.
لقد أثبتت التجربة الإماراتية أن الاستدامة لا تتحقق بالمحافظة، والمرونة لا تعني الفوضى، بل يتحقق الاثنان حين يكون النظام مؤسَّسًا على العلم، والقيم، والتعلم الذاتيّ، والذكاء المؤسسيّ.
فالإمارات لم تبنِ نظامًا ينجح اليوم فقط، بل نظامًا قادرًا على النجاح غدًا وبعد غدٍ، مهما تغيّرت الظروف، لأنّه نظامٌ يتعلّم، ويتكيّف، ويُعيد اختراع نفسه باستمرارٍ.
الاستدامة في الأداء ليست أن تبقى، بل أن تتجدّد؛ والمرونة ليست أن تتنازل، بل أن تتكيّف بذكاءٍ؛ وعندما يجتمع الاثنان، تُولد الإدارة التي تصنع المستقبل.
8️⃣🤖 التحول الرقميّ والذكاء الاصطناعيّ في إدارة الأداء الحكوميّ الإماراتيّ
حين نتحدث عن إدارة الأداء في دولة الإمارات، فإننا لا نتحدث عن نظامٍ إداريٍّ تقليديٍّ يعتمد على النماذج الورقية أو المؤشرات الجامدة، بل عن منظومةٍ ذكيةٍ متكاملةٍ تقودها البيانات وتغذّيها الخوارزميات وتُشرف عليها العقول البشرية المستنيرة التي جعلت من التحول الرقميّ فلسفةً وطنيةً لا خيارًا مؤقتًا.
لقد أدركت القيادة الإماراتية أنَّ المستقبل لن يكون لمن يملك المال أو الموارد فحسب، بل لمن يُتقن إدارة المعرفة ويُحسن تحويلها إلى أداءٍ ذكيٍّ يقود التنمية والتميز والاستدامة.
ومن هنا انطلقت رحلة التحول الرقميّ في منظومة الأداء الحكوميّ بوصفها مرحلةً متقدمةً من النضج الإداريّ والتقنيّ، تهدف إلى تحويل البيانات من مجرد أرقامٍ خامٍ إلى معرفةٍ قابلةٍ للتحليل والتنبؤ وصنع القرار، وإلى تحويل الأداء من عمليةٍ بشريةٍ مُجهِدةٍ إلى نظامٍ ذكيٍّ قادرٍ على التعلم الذاتيّ والتصحيح المستمرّ.
ولأن الإمارات تنطلق من رؤيةٍ شاملةٍ للحوكمة الذكية، فقد أصبح التحول الرقميّ في إدارة الأداء ليس مشروعًا تقنيًا بل مشروعًا وطنيًا يُجسّد فكر القيادة في بناء الحكومة المستقبلية القائمة على الابتكار والذكاء الاصطناعيّ والبيانات المفتوحة.
🔹 أولًا: فلسفة التحول الرقميّ في الفكر الإماراتيّ
لا يمكن فهم التحول الرقميّ في إدارة الأداء الإماراتيّ بمعزلٍ عن الرؤية الوطنية الشاملة للتحول الذكيّ التي تبنتها الحكومة منذ أكثر من عقدين.
فقد وضعت الإمارات التحول الرقميّ في قلب استراتيجيتها الوطنية بوصفه العمود الفقريّ للحكومة الذكية التي تتعلّم من بياناتها وتُطوّر نفسها باستمرارٍ.
ولذلك، فإنَّ التحول الرقميّ لم يُقدَّم كخطةٍ تقنيةٍ بل كتحولٍ ثقافيٍّ وإداريٍّ شاملٍ يُغيّر طريقة التفكير والإدارة والقياس.
وقد ارتكزت هذه الفلسفة على ثلاثة مبادئٍ مركزيةٍ:
1️⃣ الرقمنة كأداةٍ للتمكين لا للإحلال:
فلم يكن الهدف من الرقمنة إلغاء العنصر البشريّ، بل تمكينه من التركيز على التحليل والإبداع بدلًا من الأعمال الروتينية.
2️⃣ الذكاء الاصطناعيّ كعقلٍ مساعدٍ لا بديلٍ:
إذ يُنظر إلى الذكاء الاصطناعيّ على أنه "العقل الموازي" للمدير وصانع القرار، يُقدّم له التحليل والرؤية التنبؤية دون أن يسلبه الحكم أو الخبرة.
3️⃣ البيانات كأصلٍ وطنيٍّ استراتيجيٍّ:
فهي تُعامل بوصفها رأس مالٍ جديدٍ يوازي النفط في قيمته المستقبلية، تُدار وفق سياسات حوكمةٍ دقيقةٍ تحفظ الخصوصية وتضمن الشفافية وتُولّد القيمة.
بهذا الفهم الشامل، لم تعد الرقمنة مرحلةً انتقاليةً نحو الحداثة، بل أسلوب تفكيرٍ إداريٍّ دائمٍ، جعل من الأداء الحكوميّ في الإمارات أكثر ذكاءً واستباقيةً وتأثيرًا.
🔹 ثانيًا: مراحل التحول الرقميّ في إدارة الأداء الإماراتيّ
مرّت رحلة التحول الرقميّ في منظومة الأداء بعدة مراحلٍ مترابطةٍ، كل منها شكّلت قاعدةً للمرحلة التي تليها:
1️⃣ المرحلة الأولى (2008–2013): التحول من الورق إلى النظام الإلكترونيّ
بدأت هذه المرحلة بإطلاق نظام إدارة الأداء لموظفي الحكومة الاتحادية على شكل منصةٍ إلكترونيةٍ داخليةٍ تُمكّن المديرين من إدخال الأهداف ومتابعة الأداء وتوثيق الملاحظات.
كان الهدف آنذاك هو تحقيق الكفاءة التشغيلية وتوحيد النماذج وإلغاء المعاملات الورقية، فتمّ إنشاء قاعدة بياناتٍ مركزيةٍ تحتوي على مؤشرات الأداء لجميع الجهات الاتحادية.
2️⃣ المرحلة الثانية (2014–2017): التكامل مع نظام الموارد البشرية (بياناتي)
خلال هذه المرحلة، تمّ دمج نظام الأداء مع نظام الموارد البشرية الذكيّ “بياناتي”، بحيث تُصبح البيانات متكاملةً بين الأداء، والتدريب، والترقيات، والإجازات، والمكافآت.
وبذلك انتقل النظام من كونه أداة تقييمٍ إلى نظامٍ متكاملٍ لإدارة دورة حياة الموظف (Employee Life Cycle).
وقد مكنت هذه الخطوة من تحقيق الشفافية والعدالة لأنّ جميع القرارات الإدارية أصبحت قائمةً على بياناتٍ موضوعيةٍ موثّقةٍ في النظام نفسه.
3️⃣ المرحلة الثالثة (2018–2021): التحليل الذكيّ والتغذية التنبؤية
مع تطور قدرات الذكاء الاصطناعيّ والتحليلات المتقدمة (Advanced Analytics)، انتقل النظام إلى مرحلةٍ أكثر نضجًا، حيث أصبحت البيانات تُحلّل تلقائيًا لتُصدر مؤشراتٍ حول الاتجاهات السلوكية والإنتاجية للموظفين والجهات.
تمّ إدخال تقنيات Machine Learning لتوقّع المخاطر التنظيمية، مثل احتمالية انخفاض الأداء أو ارتفاع معدل الاستقالات في وحدةٍ معينة، مما مكّن صُنّاع القرار من التدخل الوقائيّ قبل تفاقم المشكلات.
4️⃣ المرحلة الرابعة (2022–الآن): منظومة الأداء الذكيّ المتكاملة (Smart Performance Ecosystem)
تُعدّ هذه المرحلة قمة التحول، حيث أطلقت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية نظامًا متكاملًا يُعرف باسم “المنظومة الذكية لإدارة الأداء”، يعتمد على التكامل بين التحليل التنبؤيّ، والذكاء الاصطناعيّ، وإنترنت الأشياء (IoT)، والبلوك تشين (Blockchain) لضمان موثوقية البيانات.
فالموظف والمدير والقيادة العليا باتوا يعملون ضمن منصةٍ واحدةٍ شفافةٍ تتفاعل لحظيًا وتُصدر تقاريرًا تنبؤيةً وإحصاءاتٍ تكامليةً تربط الأداء المؤسسيّ بالوطنيّ.
🔹 ثالثًا: الذكاء الاصطناعيّ كعقلٍ تحليليٍّ لمنظومة الأداء
الذكاء الاصطناعيّ في التجربة الإماراتية لم يُستخدم كأداةٍ مساعدةٍ فقط، بل كعقلٍ تحليليٍّ يُعيد تعريف عملية التقييم نفسها.
فبدلًا من الاعتماد على الملاحظات البشرية وحدها، أصبح النظام يستخدم الخوارزميات لاستخراج الأنماط السلوكية وتحليل البيانات التاريخية لاقتراح قراراتٍ تطويريةٍ موضوعيةٍ.
وتشمل تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ في إدارة الأداء:
1️⃣ تحليل الاتجاهات السلوكية (Behavioral Analytics):
حيث تُراقب الخوارزميات البيانات المتعلقة بالحضور، والمبادرات، والتفاعل الرقميّ، لتحديد مستوى الالتزام والتحفيز.
2️⃣ التحليل التنبؤيّ للأداء المستقبليّ (Predictive Performance):
الذي يُستخدم لتقدير احتمالات تحسن أو تراجع أداء الموظف أو الجهة بناءً على العوامل الحالية.
3️⃣ التوصية بالتطوير الشخصيّ (Personalized Development):
من خلال أنظمة التوصية (Recommendation Systems) التي تقترح برامج تدريبٍ محددةٍ لكل موظفٍ وفق فجوات أدائه.
4️⃣ قياس الرضا والاتجاهات (Sentiment Analysis):
باستخدام تحليل النصوص والمراسلات والتغذية الراجعة لقياس الرضا النفسيّ والمعنويّ للموظفين.
5️⃣ الأتمتة في اتخاذ القرار (Automated Decision Support):
إذ تُصدر المنظومة تقاريرَ تقييمٍ أوليةً تقترحها الخوارزميات على المديرين، لتُصبح عملية التقييم أكثر موضوعيةً وأقلّ تأثرًا بالعوامل الشخصية.
هذه القدرات جعلت النظام الإماراتيّ نظامًا ذكيًا ذاتيّ التحليل والتعلم (Self-Learning Performance System)، قادرًا على تطوير نفسه باستمرارٍ دون الحاجة لتدخّلٍ خارجيٍّ مكثفٍ.
🔹 رابعًا: حوكمة البيانات والشفافية الرقمية
إحدى أهم ركائز التحول الرقميّ في الإمارات هي حوكمة البيانات.
فقد أدركت القيادة أنّ البيانات – رغم قوتها – قد تتحول إلى خطرٍ إن لم تُدار وفق ضوابطٍ دقيقةٍ تحفظ النزاهة والخصوصية.
لذلك وُضعت سياسات وطنيةٌ صارمةٌ لحوكمة البيانات تشمل:
- 
	
توحيد مصادر البيانات الحكومية: بحيث تُجمع كل مؤشرات الأداء في مستودعٍ وطنيٍّ واحدٍ تحت إشراف الهيئة الاتحادية للموارد البشرية.
 - 
	
ضمان الشفافية والمساءلة: حيث يمكن للجهات الرقابية الاطلاع على البيانات في الزمن الحقيقيّ للتحقق من دقة النتائج.
 - 
	
الامتثال لمعايير ISO 30414 وEFQM: لضمان مواءمة النظام مع أفضل الممارسات الدولية في إدارة رأس المال البشريّ.
 - 
	
التشفير والأمان السيبرانيّ: باستخدام تقنيات البلوك تشين لتوثيق كل خطوةٍ في عملية التقييم منعًا لأي تلاعبٍ أو تحيّزٍ.
 
وهكذا أصبحت البيانات العمود الفقريّ للثقة المؤسسية، وأصبح النظام الرقميّ بيئةً محصّنةً تضمن النزاهة والشفافية والعدالة في إدارة الأداء.
🔹 خامسًا: التكامل مع الأنظمة الوطنية للذكاء الحكوميّ
لم تتعامل الإمارات مع إدارة الأداء كمنظومةٍ منعزلةٍ، بل ربطتها بجميع أنظمة الحوكمة الذكية في الدولة.
فهي اليوم جزءٌ من المنظومة الوطنية للذكاء الحكوميّ (National Smart Governance Ecosystem) التي تضم أنظمة: إدارة الموارد البشرية، التميز الحكوميّ، الخدمات الذكية، والبيانات الوطنية المفتوحة.
ويُتيح هذا التكامل مراقبة الأداء الوطنيّ في الزمن الحقيقيّ، وتقديم لوحة قيادةٍ موحدةٍ لرئيس مجلس الوزراء تُظهر الأداء المؤسسيّ لكل جهةٍ حكوميةٍ وفق مؤشراتٍ استراتيجيةٍ واضحةٍ.
وبذلك، تحوّلت إدارة الأداء من عمليةٍ داخليةٍ إلى نظامٍ وطنيٍّ استراتيجيٍّ لصنع القرار والتخطيط الاستشرافيّ، تُبنى عليه السياسات العامة وتُراجع به الخطط التنفيذية.
🔹 سادسًا: الذكاء الاصطناعيّ كأداةٍ للتنمية البشرية لا للرقابة
من أجمل ملامح التجربة الإماراتية أن الذكاء الاصطناعيّ لم يُستخدم أبدًا كوسيلةٍ للرقابة أو العقاب، بل كوسيلةٍ لتمكين الإنسان وتطويره.
فبدل أن تُستخدم الخوارزميات لملاحقة الأخطاء، تُستخدم لاكتشاف الإمكانات، وبدل أن تُستعمل البيانات للحكم، تُستعمل للفهم.
وهذا يعكس الرؤية الإماراتية التي تضع الإنسان في قلب التكنولوجيا، لا تحتها.
وهكذا أصبح النظام الذكيّ شريكًا في التطوير المهنيّ، يُقوّم السلوك، ويُوجّه التدريب، ويُحفّز النموّ، دون أن يُفقد العملية روحها الإنسانية أو بعدها القيميّ.
🔹 سابعًا: التحديات والفرص المستقبلية
رغم الإنجازات الهائلة، فإن التحول الرقميّ في إدارة الأداء يواجه تحدياتٍ تتطلب معالجةً مستمرةً، مثل:
- 
	
الحاجة إلى رفع الوعي الرقميّ لدى جميع الموظفين لضمان الاستخدام الفعّال للنظام.
 - 
	
حماية الخصوصية في ظل تضخّم البيانات.
 - 
	
تحقيق التوازن بين الذكاء الاصطناعيّ والذكاء الإنسانيّ في اتخاذ القرار.
 
لكن في المقابل، فإن الفرص التي يفتحها هذا التحول غير مسبوقةٍ، إذ يُمكّن الدولة من:
- 
	
بناء نظامٍ وطنيٍّ للتعلم المؤسسيّ الذاتيّ.
 - 
	
تطوير أدوات تقييمٍ أكثر دقةً وعدالةً.
 - 
	
تحويل كل مؤسسةٍ إلى كيانٍ معرفيٍّ ذكيٍّ يُحلّل ويتعلم ويُبدع.
 
🔹 ثامنًا: نحو إدارة أداءٍ مدفوعةٍ بالذكاء المؤسسيّ
اليوم، تقف الإمارات في طليعة الدول التي تمكّنت من دمج الذكاء الاصطناعيّ في الحوكمة والأداء بطريقةٍ إنسانيةٍ متزنةٍ.
فلم تعد البيانات مجرد تقارير، بل أصبحت لغة القيادة والإدارة، ولم يعد الذكاء الاصطناعيّ أداةً للتقنية فحسب، بل محرّكًا للتميز والاستدامة والإبداع.
إنّ ما حققته الإمارات في هذا المجال يُعيد تعريف مفهوم الأداء الإداريّ عالميًا، لأنّه جمع بين ثلاثة أبعادٍ جوهريةٍ:
- 
	
البعد الإنسانيّ: الذي يُكرّس القيم والجدارات والسلوكيات.
 - 
	
البعد التقنيّ: الذي يُوظّف الذكاء الاصطناعيّ والتحليل المتقدم.
 - 
	
البعد الاستراتيجيّ: الذي يربط الأداء بالسياسات الوطنية والتنمية المستدامة.
 
وبذلك أصبحت الإمارات الحكومة التي تتعلم وتُبدع وتُحسّن ذاتها بلا توقفٍ، لأنّ الأداء فيها ليس مهمةً تُؤدى، بل نظامًا يُفكّر، ويتنبّأ، ويقود.
التحول الرقميّ لا يعني نهاية الإنسان، بل بدايته الجديدة كعقلٍ مفكّرٍ في منظومةٍ ذكيةٍ؛ والذكاء الاصطناعيّ ليس بديلًا عننا، بل شريكًا لنا في صنع مستقبلٍ تُديره القيم وتُوجهه البيانات.
🪞 الخاتمة التحليلية: من الأداء إلى الريادة — التجربة الإماراتية في بناء نظامٍ قياديٍّ ذكيٍّ ومستدام
حين نصل إلى نهاية هذا المقال، لا نكون أمام خاتمةٍ تُغلق الأفكار، بل أمام تتويجٍ فكريٍّ وتحليليٍّ لمسارٍ طويلٍ من التحولات التي خاضتها دولة الإمارات في بناء منظومة إدارة الأداء الحكوميّ.
فهذا النظام، الذي بدأ كأداةٍ تنظيميةٍ لتقييم الموظفين، تحوّل عبر الزمن إلى مشروعٍ وطنيٍّ لبناء الإنسان والقيادة والمؤسسة والمستقبل، حتى أصبح يُجسّد فلسفة الدولة في الإدارة والتنمية معًا.
لقد أثبتت التجربة الإماراتية أنّ إدارة الأداء ليست عمليةً إداريةً تقتصر على قياس الإنجاز، بل هي عقل الدولة المفكّر الذي يُحلّل ويُوجّه ويُطوّر ويُعلّم.
فالأداء في الإمارات لم يعُد هدفًا تشغيليًا محدودًا، بل منظومةً فكريةً متكاملةً تجمع بين التخطيط، والقياس، والتحفيز، والتميز، والتعلم المستمرّ، في حركةٍ دائريةٍ لا تنتهي، تعيد إنتاج ذاتها عبر كل دورةٍ إداريةٍ جديدةٍ.
حين نُراجع المحاور الثمانية التي استعرضناها، نكتشف أننا أمام منظومةٍ متفردةٍ تجمع بين المنهج العلميّ الدقيق والفكر القياديّ الإنسانيّ المتجدد.
لقد بدأت التجربة بمفهوم تحليل الأداء وفهم البيانات، لتتحول تدريجيًا إلى بناء الجدارات، ثم إلى ثقافةٍ مؤسسيةٍ للتميز، ثم إلى حوكمةٍ رقميةٍ ذكيةٍ تعتمد على الذكاء الاصطناعيّ، حتى بلغت اليوم مستوى النضج المؤسسيّ المتكامل الذي يجعل الأداء جزءًا من الهوية الوطنية ذاتها.
🔹 أولًا: من القياس إلى الوعي
في البداية، كانت إدارة الأداء تُمارس كما تُمارس في بقية الدول: جمع بياناتٍ، وتحليل نتائجٍ، وتقييمٍ دوريٍّ للموظفين.
لكن القيادة الإماراتية لم تكتفِ بهذا النمط، بل طرحت سؤالًا جوهريًا غيّر مسار الإدارة العامة:
“ما جدوى القياس إن لم يُنتج وعيًا؟ وما قيمة الأرقام إن لم تُصبح معرفةً تقود القرار؟”
ومن هنا بدأ التحول من القياس إلى الوعي.
تحوّلت البيانات إلى معرفة، والمعرفة إلى سياسات، والسياسات إلى أفعالٍ متكاملةٍ تُعيد تشكيل ثقافة الأداء ذاتها.
فما يُميّز التجربة الإماراتية ليس النظام أو المنصات، بل الوعي الذي يقف خلفها: الوعي بأن الأداء ليس رقابةً، بل حوارٌ بين الإنسان والمؤسسة حول القيمة والمعنى والأثر.
🔹 ثانيًا: من الأداة إلى المنظومة
لم تكن إدارة الأداء مشروعًا منفصلًا في الإمارات، بل جزءًا من منظومة الحوكمة الشاملة التي تربط بين التخطيط الاستراتيجيّ، وتطوير الموارد البشرية، والتميز المؤسسيّ، والاستدامة الوطنية.
ففي حين تتعامل بعض الدول مع الأداء بوصفه وظيفةً إداريةً، تعاملت معه الإمارات كـ نظامٍ وطنيٍّ للقيادة والتحفيز والإبداع.
ولهذا نرى أن إدارة الأداء هنا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنموذج التميز الحكوميّ، وبرامج القيادة الوطنية، ومبادرات الذكاء الاصطناعيّ، بل وبالهوية المؤسسية ذاتها.
لقد أصبح الأداء الإماراتيّ نموذجًا في “الإدارة بالنظام”، حيث تُدار الدولة كمنظومةٍ مترابطةٍ من البيانات والجدارات والقيم، لا كجهاتٍ متفرقةٍ تُنفّذ تعليماتٍ.
وكل ذلك لم يكن ليحدث لولا وجود عقلٍ مؤسسيٍّ استراتيجيٍّ واعٍ يرى الصورة الكاملة، لا الجزئيات فقط.
🔹 ثالثًا: من الموظف إلى الإنسان
من أعظم ما حققته التجربة الإماراتية أنها أعادت الإنسانية إلى مركز النظام الإداريّ.
ففي الوقت الذي تحوّلت فيه أنظمة الأداء حول العالم إلى أدواتٍ للمساءلة والعقاب، جعلتها الإمارات وسيلةً للتمكين والتحفيز والنموّ.
لم يعد الموظف يُعامل كعنصرٍ إنتاجيٍّ جامدٍ، بل كإنسانٍ كاملٍ له طموحاته وقيمه وقدراته، وكل ذلك يُشكّل مدخلًا لتقييمه وتطويره.
وهكذا أصبح الأداء رحلةً شخصيةً لكل موظفٍ نحو اكتشاف ذاته وتحقيق إمكاناته، لا اختبارًا قاسيًا لقياس إخفاقاته.
ولذلك نجحت الإمارات في جعل نظام الأداء مقبولًا ومحبوبًا داخل مؤسساتها، لأنه يخاطب الإنسان قبل أن يُخاطب الوظيفة.
🔹 رابعًا: من التقييم إلى التمكين
النظام الإماراتيّ لم يتوقف عند التقييم، بل تجاوزه إلى التمكين المستمرّ.
فنتائج التقييم تُترجم مباشرةً إلى خطط تطويرٍ فرديةٍ، وإلى برامج تدريبٍ وقيادةٍ مخصصةٍ لكل مستوى وظيفيٍّ.
وبهذا لم يعُد الأداء غايةً بل وسيلةً لبناء القدرات.
كل تقييمٍ في الإمارات هو بدايةٌ جديدةٌ للتعلم.
كل فجوةٍ في الأداء هي فرصةٌ للتحسين.
كل إنجازٍ هو دعوةٌ لمزيدٍ من الإتقان.
ومن هذا التوجه وُلد ما يُعرف في الفكر الإداريّ الإماراتيّ بـ “نظام الأداء التعليميّ (Learning Performance System)” الذي يجعل المؤسسة تتعلم من تجربتها كما يتعلم الإنسان من حياته.
🔹 خامسًا: من النظام إلى الثقافة
التحول الحقيقيّ في الإمارات لم يكن في الأنظمة التقنية، بل في بناء ثقافة الأداء المؤسسيّ التي تجعل كل موظفٍ شريكًا في النجاح، وكل قائدٍ قدوةً في الالتزام، وكل فريقٍ بيئةً للتعلّم والتحسين.
هذه الثقافة تُعبّر عنها قيم الجدارات الوطنية: التعاون، الإبداع، النزاهة، المسؤولية، والإيجابية.
ولذلك أصبح الأداء في الإمارات سلوكًا جماعيًا لا مهمةً إداريةً.
وما أنشأته الدولة عبر عقودٍ من السياسات والبرامج لم يكن فقط نظامًا متقنًا، بل عقليةً وطنيةً جديدةً تؤمن بأن الأداء ثقافةُ حياةٍ قبل أن يكون أداءً وظيفيًا.
🔹 سادسًا: من الكفاءة إلى الذكاء
مع التحول الرقميّ والذكاء الاصطناعيّ، تجاوزت الإمارات مفهوم الكفاءة التقليديّ إلى الذكاء المؤسسيّ، أي القدرة على فهم الذات التنظيمية واتخاذ القرار بناءً على تحليل البيانات والتعلّم الذاتيّ.
فالنظام الذكيّ لا يكتفي بقياس ما حدث، بل يُنبئ بما سيحدث، ويقترح ما يجب أن يحدث.
وهذا هو جوهر التحول الإماراتيّ: إدارة الأداء أصبحت علْمًا للقيادة بالذكاء لا بالمؤشرات.
لقد انتقلت الإمارات من “قياس النتائج” إلى “صناعة النتائج”، ومن “التحليل بعد الفعل” إلى “التنبؤ قبل الحدث”، لتُصبح من أوائل الدول التي تمارس القيادة المعززة بالذكاء الاصطناعيّ (AI-Enhanced Leadership) في إدارة الأداء الحكوميّ.
🔹 سابعًا: من الدولة إلى النموذج
ما فعلته الإمارات لم يكن تطوير نظامٍ داخل حدودها فقط، بل تقديم نموذجٍ إداريٍّ للعالم العربيّ والعالم أجمع.
فقد أصبحت التجربة الإماراتية مرجعًا يُدرّس في المؤسسات الحكومية في المنطقة، ومصدرًا للممارسات المثلى في التميز المؤسسيّ وإدارة الأداء.
بل يمكن القول إنها أطلقت ما يمكن تسميته بـ “المدرسة الإماراتية في إدارة الأداء”، التي تقوم على خمسة مرتكزاتٍ فكريةٍ كبرى:
1️⃣ الأداء قيمةٌ قبل أن يكون قياسًا.
2️⃣ التميز نتيجةٌ للتكامل بين السلوك والنظام.
3️⃣ الجدارات الجسر بين الإنسان والمؤسسة.
4️⃣ البيانات لغةُ القرار الذكيّ.
5️⃣ القيادة ثقافةُ تمكينٍ قبل أن تكون سلطة.
هذه المرتكزات تُشكّل الأساس الفكريّ الذي يجعل النظام الإماراتيّ قادرًا على الاستمرار في التطور دون أن يفقد هويته أو أصالته.
🔹 ثامنًا: من الحاضر إلى المستقبل
حين ننظر إلى مستقبل إدارة الأداء في الإمارات، نراه مستقبلًا يعتمد على الذكاء التفاعليّ والتحليل التنبؤيّ والتكامل الوطنيّ الكامل.
فالنظام في طريقه إلى أن يُصبح منظومةً ذاتيةً للتعلّم والتحسين عبر ما يُعرف بـ “الحكومة المعرفية” التي تُدير نفسها بالبيانات وتتعلم من مواطنيها وموظفيها في الوقت نفسه.
وفي هذا المستقبل، لن يكون الأداء مجرد وسيلةٍ للقياس، بل آليةً لقيادة التطور الوطنيّ بأكمله.
ستتطور خوارزميات الأداء لتُحلّل السلوك المهنيّ والنفسيّ والاجتماعيّ للموظفين، وستُصبح الخطط التدريبية متكيفةً تلقائيًا مع الاحتياجات الفعلية لكل موظفٍ.
كما ستندمج أنظمة الأداء مع أنظمة الكفاءات الوطنية لتُشكّل ما يمكن تسميته بـ “الذكاء الجماعيّ للأداء الحكوميّ”، الذي يجعل كل مؤسسةٍ تتحدث بلغةٍ واحدةٍ وتتحرك نحو هدفٍ واحدٍ هو التميز الوطنيّ الشامل.
🔹 تاسعًا: من الإنجاز إلى الرسالة
في النهاية، لم يكن الهدف من نظام إدارة الأداء في الإمارات أن يُحقق الإنجازات فقط، بل أن ينشر رسالةً فكريةً للعالم العربيّ مفادها أن الإدارة ليست أداةَ سلطةٍ، بل وسيلةُ حضارةٍ.
فحين تُدار الدولة بالمعرفة، ويُقاس الأداء بالعدالة، وتُمارس القيادة بالقدوة، يصبح كل إنجازٍ خطوةً نحو مستقبلٍ أوسع.
ولذلك فإن النظام الإماراتيّ يُعتبر اليوم منظومة قيادةٍ أخلاقيةٍ وتقنيةٍ معًا، تمزج بين التكنولوجيا والقيم، بين الجدارات والروح، بين الذكاء الاصطناعيّ والعقل الإنسانيّ الواعي.
إن إدارة الأداء في الإمارات ليست قصة نجاحٍ إداريٍّ فحسب، بل هي ملحمةُ وعيٍ وقيادةٍ وتنميةٍ، تثبت أن بناء الدولة يبدأ من بناء الإنسان، وأن التميز ليس نهاية الطريق، بل بدايته.
بهذا تُغلق هذه الخاتمة دائرة الفهم بين الأداء والتميز والجدارات والذكاء المؤسسيّ، لتُعلن أننا أمام نموذجٍ عربيٍّ عالميٍّ متفرّدٍ يُعيد تعريف الإدارة لا كوسيلةٍ للتنظيم، بل كفنٍّ للحياة المؤسسية المتوازنة بين العقل والقيمة، بين التقنية والإنسان.
✍🏻 التوثيق
📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات، ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.
✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد:
د. محمد العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية، بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.
📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية،
ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z
🌐 تصفّح المزيد من المقالات عبر الموقع:
👉 www.mohammedaameri.com
🏷️ #إدارة_الأداء_الوظيفي #نظام_الأداء_الإماراتي #الإمارات #الإمارات_العربية_المتحدة #دبي #أبوظبي #العين #الشارقة #عجمان #أم_القوين #التميز_الحكومي #الذكاء_الاصطناعي #التحول_الرقمي #الجدارات_السلوكية #القيادة_بالجدارات #التحسين_المستمر #المرونة_المؤسسية #الاستدامة_الإدارية #حوكمة_الأداء #التحليل_التنبؤي #التعلم_المؤسسي #الذكاء_المؤسسي #د_محمد_العامري #مهارات_النجاح #EFQM #ISO30414 #CIPD #SHRM #Continuous_Improvement #Human_Capital_Development #Leadership_Excellence #Smart_Governance #AI_in_Government #Future_of_Work #Digital_Transformation #UAE_Government_Model #Institutional_Performance #Organizational_Excellence #United_Arab_Emirates #Dubai #AbuDhabi #AlAin #Sharjah #Ajman #UmmAlQuwain