د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

الاستدامة المؤسسية وربط الأداء بالتنمية المستمرة Institutional Sustainability and Linking Performance with Continuous Development

يُبرز هذا المقال كيف تتحول منظومة الأداء المؤسسي إلى نظامٍ مستدامٍ للتنمية والتحسين المستمر، يربط بين الكفاءة، والابتكار، والقيمة، لتصبح المؤسسة قادرةً على التعلم الدائم والنمو الذاتي

October 25, 2025 عدد المشاهدات : 104

حين تصل المؤسسة إلى مستوى من النضج يجعل الأداء فيها لا يعتمد على الأوامر ولا ينهار بتغيّر الأشخاص، تكون قد بلغت مرحلة “الاستدامة المؤسسية”. فالاستدامة ليست مجرد استمرارٍ في الزمن، بل قدرةٌ على التجدد الواعي والتعلم الذاتي والتطور المستمر. إنها نقطة التحول التي يتحول فيها الأداء من مجهودٍ ظرفيٍّ إلى ثقافةٍ مؤسسيةٍ راسخة، ومن نتائجٍ تُقاس في نهاية العام إلى قيمٍ تُمارس كل يوم.

إنّ إدارة الأداء، في مفهومها الحديث، لم تعد تقتصر على التقييم والقياس، بل أصبحت نظامًا حيًا للتنمية المستمرة، يربط بين الأهداف والنتائج، وبين الإنسان والنظام، وبين الخطط والاستراتيجيات. فهي الإطار الذي يُحوّل التحسين إلى عادةٍ تنظيميةٍ، ويجعل المؤسسة في حالة مراجعةٍ وتطويرٍ دائمين. ولذلك فإنّ ربط الأداء بالاستدامة يعني الانتقال من عقلية "نُنجز اليوم لننجو غدًا"، إلى عقلية "نتطور اليوم لنستمر غدًا"، وهي النقلة التي تُميز المؤسسات الرائدة عن تلك التي تكتفي بالنجاح المؤقت.

تشير الأدلة المرفقة في دليل إدارة الأداء المؤسسي إلى أن المؤسسات المستدامة هي تلك التي تُعيد بناء أنظمتها وفق مبادئ التحسين المستمر (Continuous Improvement)، وتعتبر الأداء ليس غايةً بل وسيلةً للتعلم والنمو. فكل عمليةٍ وكل نتيجةٍ وكل تقييمٍ هو فرصةٌ للتطوير، وكل إخفاقٍ هو درسٌ يُغذي منظومة النضج المؤسسي.

والاستدامة في الأداء لا تتحقق بالصدفة، بل تُبنى على ثلاث ركائز مترابطة: الوعي، والقدرة، والرغبة.
فالوعي يُوجّه المؤسسة لتفهم هدفها، والقدرة تُمكّنها من تحقيقه، والرغبة تُبقيها على طريق التطور مهما واجهت من التحديات. لذلك، تُصبح الاستدامة نتاجًا طبيعيًا لثقافةٍ مؤسسيةٍ تُقدّر التعلم المستمر، وتحفّز المبادرة، وتُكافئ التحسين.

وحين تتكامل هذه العناصر الثلاثة، يتحول الأداء إلى منظومةٍ ذكيةٍ تعيد اكتشاف نفسها في كل دورةٍ تشغيلية، وتتعلم من بيئتها بمرونةٍ عاليةٍ، وتطوّر قدراتها المؤسسية باستمرارٍ دون الحاجة إلى تدخلٍ خارجي. إنها المؤسسة التي تُدير الأداء بالمعرفة، وتُدير المعرفة بالأداء، فتُصبح قادرةً على البقاء والنمو في عالمٍ سريع التحول.

وهكذا، فإنّ الاستدامة المؤسسية ليست مرحلةً بعد الأداء، بل هي المرحلة العليا للأداء، حيث يُصبح التحسين جزءًا من هوية المؤسسة، لا مجرد مشروعٍ عابرٍ. وهي الغاية التي تسعى إليها جميع المنظمات التي تطمح إلى أن تبقى فاعلةً ومؤثرةً في بيئةٍ تنافسيةٍ تتغير ملامحها كل يوم.


📘 فهرس المقال

1️⃣ 🌍 مفهوم الاستدامة المؤسسية وتطورها في إدارة الأداء
2️⃣ 🔁 التحسين المستمر كأساسٍ للربط بين الأداء والتنمية
3️⃣ 🧭 الحوكمة ودورها في ترسيخ استدامة الأداء
4️⃣ 💡 التعلم المؤسسي كآليةٍ للتطوير الذاتي
5️⃣ ⚙️ بناء الأنظمة والسياسات الداعمة للاستدامة
6️⃣ 📊 مؤشرات الأداء والاستدامة: من القياس إلى النضج
7️⃣ 🤝 ثقافة التعاون والمسؤولية المشتركة في دعم الاستدامة
8️⃣ 🌱 المستقبل المؤسسي بين الأداء المستدام والتميز الشامل


1️⃣ 🌍 مفهوم الاستدامة المؤسسية وتطورها في إدارة الأداء

الاستدامة المؤسسية ليست فكرةً حديثةً وُلدت في عصر الخطط الاستراتيجية أو تقارير التنمية، بل هي امتدادٌ طبيعيٌّ لتطور الوعي الإنساني تجاه معنى “الدوام” و“البقاء ذي القيمة”. فمنذ أن بدأ الإنسان ينظم عمله في جماعاتٍ ومؤسساتٍ، ظهرت الحاجة إلى ضمان استمرارية النتائج، لا مجرد تحقيقها لحظةً مؤقتةً. غير أن المفهوم الحديث للاستدامة المؤسسية تجاوز فكرة البقاء في الزمن، إلى معنى أعمق هو القدرة على التجدد، والتكيف، والتحسين الذاتي المستمر.

في العقود الأخيرة، وخاصة مع بروز أدبيات إدارة الأداء المؤسسي والتميز المؤسسي، تطور مفهوم الاستدامة من مجرد “الحفاظ على الموارد” إلى “تطوير القدرات المؤسسية” التي تُمكّن المنظمة من مواجهة المتغيرات والتطور في أدائها باستمرار. فالمؤسسة المستدامة ليست تلك التي تصمد أمام التحديات، بل التي تنمو من خلالها. إنها لا تكتفي بأن تتكيّف، بل تتعلّم من التكيّف ذاته، وتحوّله إلى طاقةٍ دافعةٍ للابتكار.

يُشير دليل إدارة الأداء المؤسسي إلى أن الاستدامة في الأداء تتجلى عندما “تُحوّل المؤسسة نظامها إلى دائرةٍ مغلقةٍ من التعلم والتحسين”، بحيث لا تكون هناك نهايةٌ للدورة، لأن كل تحسينٍ يُولد تحسينًا آخر. وهذا يعني أن الأداء في المؤسسة المستدامة ليس حدثًا يُراجع في نهاية العام، بل عمليةٌ مستمرةٌ لا تتوقف عند الإنجاز، بل تتجاوزه إلى التطوير الدائم.

وفي ضوء هذه الرؤية، أصبح يُنظر إلى الاستدامة المؤسسية باعتبارها المرحلة العليا في سلم النضج المؤسسي، حيث تتحول المؤسسة من كيانٍ يعتمد على الأفراد إلى منظومةٍ تعتمد على المعرفة والنظام. فهي لم تعد رهينةً لمزاج القيادة أو قرارات الإدارة، بل أصبحت كائنًا حيًا يملك ذاكرةً تنظيميةً تُمكّنه من مواصلة الأداء بنفس الكفاءة حتى مع تغير الأشخاص والمواقع.

وتُظهر التجارب الدولية، ولا سيما في القطاعين الحكومي والخاص، أن المؤسسات التي تبنت إدارة الأداء كأساسٍ لبناء الاستدامة استطاعت أن تُحوّل هذا المفهوم من شعارٍ إلى ممارسة. فمثلًا، تؤكد أنظمة إدارة الأداء في الإمارات أن الاستدامة المؤسسية تُبنى على مبدأ “التعلم من النتائج” لا الاكتفاء بقياسها، حيث يتم تحليل الأداء بعمقٍ لاستكشاف الدروس المستفادة، وإعادة تصميم الإجراءات بما يُعزّز الكفاءة التنظيمية.

ومن الناحية النظرية، فإن مفهوم الاستدامة المؤسسية في إدارة الأداء يستند إلى مزيجٍ من النظريات:

  • النظرية النظمية (Systems Theory): التي ترى المؤسسة كمنظومةٍ متكاملةٍ من العناصر المتفاعلة التي تسعى إلى الاتزان الداخلي والتكيف الخارجي.

  • نظرية التعلم التنظيمي (Organizational Learning): التي تُركّز على تراكم المعرفة داخل المؤسسة وقدرتها على تحويل التجارب إلى سياساتٍ أكثر نضجًا.

  • نظرية التحسين المستمر (Kaizen): التي تُحوّل التطوير من مشروعٍ مرحليٍ إلى فلسفةٍ دائمةٍ للارتقاء التدريجي المتواصل.

  • نظرية رأس المال الفكري (Intellectual Capital): التي تعتبر المعرفة والمهارات والعلاقات والممارسات أهم أصول المؤسسة وأكثرها استدامةً.

هذه النظريات جميعًا تشكّل الإطار الفكري للاستدامة المؤسسية، لأنها تُفسّر كيف يمكن للأداء أن يكون متجددًا في ذاته، وكيف تُصبح المؤسسة كيانًا ناميًا يُعيد تشكيل نفسه باستمرار دون أن يفقد هويته أو قيمه الجوهرية.

ومن الناحية التطبيقية، تُقاس الاستدامة المؤسسية اليوم بمدى قدرة المؤسسة على تحقيق ثلاثة أبعادٍ متكاملةٍ من الأداء:
1️⃣ الاستدامة الاقتصادية: أي كفاءة استغلال الموارد لتحقيق القيمة المضافة وتحقيق التوازن المالي.
2️⃣ الاستدامة البيئية: أي التزام المؤسسة بمسؤوليتها تجاه البيئة والمجتمع في جميع أنشطتها وقراراتها.
3️⃣ الاستدامة التنظيمية: أي قدرة المؤسسة على المحافظة على أدائها وجودته من خلال الأنظمة والسياسات والمهارات المتراكمة.

هذه الأبعاد الثلاثة لا تعمل بمعزلٍ عن بعضها، بل تشكّل معًا ما يُعرف بـ المثلث الذهبي للاستدامة المؤسسية، حيث يُصبح الأداء وسيلةً لتحقيق التنمية، والتنمية وسيلةً لتعزيز الأداء، في دائرةٍ لا تنكسر من التحسين المتواصل.

ومن المهم الإشارة إلى أن الاستدامة في إدارة الأداء لا تعني الثبات، بل المرونة المنظمة. فالمؤسسة المستدامة لا تُحافظ على ما لديها لتمنع التغيير، بل لتستثمره. إنها تتعامل مع التغيير باعتباره مصدر قوةٍ، لا مصدر قلقٍ، لأنها طوّرت في داخلها قدرةً ذاتيةً على التكيف والاستفادة من التقلبات.

لذلك فإن الاستدامة المؤسسية ليست نهاية رحلة الأداء، بل هي شكلها الأكثر نضجًا ووعيًا. إنها “مرحلة النضج الاستراتيجي”، التي تُصبح فيها المؤسسة قادرةً على أن تتجدد دون أن تفقد توازنها، وأن تتوسع دون أن تفقد تركيزها، وأن تُبدع دون أن تفرّط في قيمها.


2️⃣ 🔁 التحسين المستمر كأساسٍ للربط بين الأداء والتنمية

التحسين المستمر ليس برنامجًا تدريبيًا يُنفَّذ مرةً في العام، ولا إجراءً إداريًا مؤقتًا يُتخذ عند ظهور المشكلات، بل هو فلسفةٌ شاملةٌ للحياة المؤسسية تجعل من كل نشاطٍ فرصةً للتطوير، ومن كل إنجازٍ نقطة انطلاقٍ نحو إنجازٍ أعظم. إنه القلب النابض للاستدامة المؤسسية، لأنه يحافظ على تدفق الحيوية داخل أنظمة الأداء، ويمنعها من التحجر أو الركود. فبدون التحسين المستمر، يتحول الأداء إلى روتينٍ، والنظام إلى عبءٍ، والقياس إلى تكرارٍ بلا معنى.

لقد برز مفهوم التحسين المستمر بوضوحٍ في التجارب اليابانية خلال النصف الثاني من القرن العشرين من خلال فلسفة الكايزن (Kaizen)، وهي كلمةٌ يابانيةٌ تعني “التغيير للأفضل بشكلٍ دائمٍ”. هذه الفلسفة لا تبحث عن القفزات المفاجئة، بل عن التقدم التدريجي المستمر الذي يُحدث تراكمًا نوعيًا في الأداء بمرور الوقت. وقد أثبتت التجربة أن التحسين الصغير المتواصل أكثر أثرًا من التغيير الكبير المؤقت، لأنه يُصبح جزءًا من السلوك التنظيمي، لا مجرّد مبادرةٍ معزولة.

وتشير الأدلة المستخلصة من دليل إدارة الأداء المؤسسي إلى أن التحسين المستمر هو الآلية التي تُحوّل الأداء من نظام قياسٍ إلى نظام تعلمٍ. فالمؤسسة التي تراجع أداءها بشكلٍ دوريٍّ لا بهدف العقاب أو التقييم فقط، بل بهدف الاكتشاف والتحسين، هي المؤسسة التي تُحوّل النتائج إلى معرفةٍ، والمعرفة إلى ممارسةٍ، والممارسة إلى ثقافةٍ. فهنا يصبح كل انحرافٍ فرصةً للتحليل، وكل ضعفٍ مادةً للتطوير، وكل نجاحٍ نموذجًا يُبنى عليه.

أما نظام إدارة الأداء الإماراتي فيربط بين التحسين المستمر والاستدامة من خلال مبدأ “التحسين بوصفه مسؤولية الجميع”، حيث لا يُترك التطوير لإدارة الجودة أو فريق التخطيط فحسب، بل يُصبح التزامًا جماعيًا يمارسه كل موظفٍ في موقعه. فالمؤسسة المستدامة لا تملك “قسمًا للتحسين”، لأنها جعلت من التحسين قسمًا داخل كل عقلٍ من عقول موظفيها.

وما يميز التحسين المستمر عن غيره من مفاهيم التطوير أنه يربط بين الأداء اليومي والتنمية الاستراتيجية. فهو لا ينظر إلى التحسين كمرحلةٍ لاحقةٍ للأداء، بل كجزءٍ متداخلٍ معه. فكل أداءٍ يجب أن يُنتج تعلمًا، وكل تعلمٍ يجب أن يُنتج أداءً أعلى. هذه العلاقة الدائرية بين الأداء والتنمية هي ما يجعل المؤسسة في حالة نموٍ دائمٍ، لأن كل دورة أداءٍ تُضيف طبقةً جديدةً من النضج إلى بنائها الداخلي.

وقد حددت الأدبيات الحديثة للتحسين المستمر مجموعةً من المبادئ التي تضمن فعاليته في سياق إدارة الأداء المؤسسي:

1️⃣ التبسيط قبل التحسين:
فلا يمكن تحسين ما لم يُفهم، ولا يُفهم ما لم يُبسّط. لذا يبدأ التحسين من إزالة التعقيدات غير الضرورية في العمليات، لأن البساطة تولّد الفاعلية.

2️⃣ التحليل القائم على البيانات:
فالقائد التحويلي في بيئة التحسين المستمر لا يعتمد على الانطباعات، بل على الأدلة والتحليلات الكمية والنوعية التي تُظهر أين تكمن الفجوات الحقيقية في الأداء.

3️⃣ التحسين من الأسفل إلى الأعلى:
لأن الذين يعيشون تفاصيل العمليات اليومية هم الأقدر على اقتراح التحسينات الواقعية. فالمؤسسة المستدامة تُشرك موظفيها في صنع التغيير، بدلًا من فرضه عليهم.

4️⃣ التحسين التدريجي المستمر لا القفزات المفاجئة:
فالتحسين لا يتحقق عبر القرارات السريعة فقط، بل عبر سلسلةٍ من الخطوات الصغيرة المستمرة التي تُراكم نتائجها عبر الزمن.

5️⃣ التغذية الراجعة المنظمة:
حيث تُصبح المراجعة الدورية للأداء جزءًا من دورة الحياة المؤسسية، تُغذّي القرارات بالمعلومات، وتُغذّي الأفراد بالدروس والتجارب.

إنّ التحسين المستمر هو الرابط الحيوي بين الأداء والتنمية، لأنه يُحوّل البيانات إلى معرفةٍ، والمعرفة إلى وعيٍ، والوعي إلى سلوكٍ. ومن هنا تنبع قوته: فهو لا يُضيف عبئًا جديدًا على المؤسسة، بل يُعيد تنظيم طاقتها الكامنة لتعمل بذكاءٍ أكبر.

كما أن التحسين المستمر يُسهم في تحقيق العدالة التنظيمية، لأنه يُعطي الجميع فرصةً للتطوير دون تمييزٍ، ويحوّل التقويم من أداةٍ للفرز إلى أداةٍ للتمكين. فالموظف الذي يرى نتائج جهده في التحسين يشعر بالانتماء، والإدارة التي ترى أثر التطوير في أدائها تشعر بالثقة، والمؤسسة التي تجمع بين الاثنين تُصبح بيئةً مستدامةً بطبيعتها.

ومن المدهش أن فلسفة التحسين المستمر تنسجم تمامًا مع مبادئ إدارة الجودة الشاملة (TQM) ومعايير التميز المؤسسي (EFQM)، لأنها تجعل من الجودة هدفًا متحركًا لا ثابتًا. فالمؤسسة المستدامة لا تسأل: “هل نحن جيدون؟”، بل تسأل: “كيف نصبح أفضل كل يوم؟”.

وهكذا، فإن التحسين المستمر هو العمود الفقري للاستدامة المؤسسية، لأنه يُحوّل الأداء إلى رحلةٍ من النمو الواعي، لا إلى سباقٍ موسميٍ نحو النتائج. فحين تتبنى المؤسسة فلسفة التحسين المستمر، لا تعود تخاف من التغيير، بل تتقنه، ولا تهاب من المستقبل، بل تصنعه.


3️⃣ 🧭 الحوكمة ودورها في ترسيخ استدامة الأداء

الاستدامة المؤسسية لا يمكن أن تُبنى على النوايا الحسنة أو الجهود الفردية وحدها، بل تحتاج إلى نظامٍ يضبط العلاقة بين الصلاحيات والمسؤوليات، ويُحوّل القيم إلى إجراءاتٍ، والرؤية إلى التزامٍ يوميٍّ، وذلك هو جوهر الحوكمة المؤسسية (Corporate Governance). فالاستدامة لا تزدهر في الفوضى، كما أن الحوكمة لا تزدهر في الجمود؛ كلاهما يحتاج إلى الآخر: فالحوكمة تمنح الأداء إطارًا منضبطًا، والاستدامة تمنحه روحًا متجددة.

التحليل العملي لتجارب المؤسسات العالمية يبيّن أن أكثر المنظمات استدامةً هي تلك التي جمعت بين الصرامة في النظام والمرونة في التطبيق، أي بين الحوكمة الواعية التي تضبط، والثقافة التنظيمية التي تُلهم. فالحوكمة ليست مجموعة قوانين تُفرض، بل هي ثقافةٌ تنظيميةٌ تُترجم العدالة إلى سلوك، والمساءلة إلى وعيٍ جماعيٍّ بالمسؤولية.

وتُشير الأدلة في نظام إدارة الأداء الإماراتي إلى أن الحوكمة تُعتبر أحد الأعمدة الأربعة الرئيسة لضمان استدامة الأداء، إذ تؤكد على وضوح الأدوار، وشفافية القرارات، واتساق الإجراءات، وتكامل المسؤوليات. فالمؤسسة التي تُمارس الحوكمة بوعيٍ لا تحتاج إلى أن تُراقَب من الخارج، لأن وعيها الذاتي يُنتج الرقابة من الداخل.

أما دليل إدارة الأداء المؤسسي فيُبرز أن الحوكمة ليست نهاية الرحلة الإدارية، بل هي نقطة الانطلاق نحو بناء نظامٍ متوازنٍ بين الرقابة والتحفيز. فالمؤسسة التي تُبالغ في الضبط تفقد روح الابتكار، وتلك التي تُهمل الانضباط تفقد العدالة، أما التي تمزج بين الانضباط والثقة فتنعم بالاستقرار والنمو في آنٍ واحد.

الحوكمة، في جوهرها، هي التي تضمن أن تبقى الاستدامة أكثر من مجرد شعارٍ تنظيمي. فهي التي تضع قواعد اللعبة الأخلاقية، وتضمن أن تتحرك المؤسسة ضمن نطاق القيم العليا التي اختارتها لنفسها. فبدون الحوكمة، تُصبح الاستدامة عشوائيةً؛ وبدون الاستدامة، تتحول الحوكمة إلى بيروقراطيةٍ خانقةٍ.

وتكمن عظمة الحوكمة في قدرتها على تحويل المبادئ إلى منظومات. فهي تُحوّل مفاهيم العدالة والشفافية والمساءلة إلى سياساتٍ مكتوبةٍ، وإجراءاتٍ عمليةٍ، وآلياتٍ قياسٍ تضمن الالتزام والتطوير المستمر. وبذلك، تُصبح الحوكمة الترجمة المؤسسية للأخلاق الإدارية.

ومن زاويةٍ أخرى، تُسهم الحوكمة في ترسيخ الاستدامة من خلال ثلاثة محاور رئيسة:

1️⃣ الوضوح التنظيمي:
فالوضوح في الصلاحيات والمسؤوليات يمنع التداخل والازدواجية، ويُحدّد المسار الوظيفي لكل موظفٍ بموضوعيةٍ. وهذا الوضوح يُعزّز الكفاءة ويُقلّل من الهدر في الموارد والقرارات، فيُصبح الأداء أكثر استدامةً.

2️⃣ المساءلة الشفافة:
الشفافية ليست مجرد نشر المعلومات، بل هي خلق ثقافةٍ مؤسسيةٍ قائمةٍ على الوضوح والمصارحة والتعلّم من الأخطاء. فحين تُمارَس المساءلة بعدلٍ، تُصبح أداةً للتحسين، لا للعقاب.

3️⃣ الاستقلالية المسؤولة:
وهي الموازنة بين منح الصلاحيات وضمان الالتزام بالقيم المؤسسية، بحيث يُمارس كل مديرٍ سلطته بوعيٍ أخلاقيٍّ يحمي المؤسسة من الانحراف، ويُعزّز قدرتها على التطور المستدام دون انحرافٍ أو تضاربٍ في المصالح.

كما تُظهر الأدلة في نظام تقويم الأداء أن العدالة والإنصاف في التقييم تمثلان التطبيق العملي للحوكمة داخل نظام الأداء. فحين تُربط المكافآت والترقيات بمعايير موضوعيةٍ، يُصبح الأداء وسيلةً لتحقيق العدالة، لا أداةً للتمييز.

إن الحوكمة تخلق بيئةً أخلاقيةً مستقرةً تُنتج أداءً مستدامًا بطبيعتها، لأنها تُعيد تعريف العلاقة بين “القوة” و“المسؤولية”. فالقائد في بيئة الحوكمة لا يُمارس سلطته ليُبرز ذاته، بل ليحمي النظام من الانحراف، ويضمن أن تُدار المؤسسة وفق قيمٍ تُحقق الصالح العام.

وهكذا، تُصبح الحوكمة هي “المحرّك الأخلاقي” للاستدامة المؤسسية، لأنها تُحوّل الالتزام من خوفٍ من العقوبة إلى قناعةٍ بالواجب. والمؤسسة التي تُمارس الحوكمة بهذه الروح لا تحتاج إلى أن تفرض الانضباط، لأنها ربّت في موظفيها ضميرًا إداريًا يجعلهم يُراقبون أنفسهم.

وفي نهاية المطاف، فإن الحوكمة ليست غايةً في ذاتها، بل وسيلةٌ لبناء الثقة، والشفافية، والاستقرار، وهي القاعدة التي يقف عليها الأداء المستدام. فالمؤسسة التي تُحسن إدارة السلطة هي المؤسسة التي تضمن بقاء القيمة، والتي تزرع العدالة في قراراتها تزرع الديمومة في وجودها. وبذلك تُصبح الحوكمة ليست فقط ركيزةً للاستدامة، بل درعها الواقي وبوصلتها الأخلاقية في رحلة النمو والتطور عبر الزمن.


4️⃣ 💡 التعلم المؤسسي كآليةٍ للتطوير الذاتي

لا يمكن الحديث عن استدامةٍ مؤسسيةٍ دون الحديث عن التعلم. فالمؤسسة التي تتوقف عن التعلم، تتوقف عن التطور، وتبدأ في التآكل البطيء حتى وإن بدت مستقرةً في ظاهرها. إنّ التعلم المؤسسي (Organizational Learning) هو القلب النابض للاستدامة، لأنه يُحوّل الخبرة إلى معرفةٍ، والمعرفة إلى وعيٍ، والوعي إلى أداءٍ متجددٍ يتطور تلقائيًا مع الزمن. فالتعلم هو الجسر الذي يربط بين الماضي والخبرة، وبين الحاضر والإنجاز، وبين المستقبل والابتكار.

يُعرّف التعلم المؤسسي بأنه “العملية التي تُمكّن المؤسسة من اكتساب المعرفة من تجربتها ومن بيئتها، ثم توظيفها لتحسين أدائها وتطوير قراراتها”. وبذلك، فهو ليس نشاطًا تدريبيًا محدودًا بزمانٍ ومكان، بل منهج حياةٍ مؤسسيةٍ يُمارَس في كل اجتماعٍ، وكل تقريرٍ، وكل مراجعةٍ للأداء. فالمؤسسة المتعلمة لا تكتفي بجمع البيانات، بل تُحوّلها إلى استبصاراتٍ تخلق منها قراراتٍ أفضل في المرات القادمة.

وتُشير الأدلة المستخلصة من دليل إدارة الأداء المؤسسي إلى أن المؤسسات التي تبني آليةً داخليةً للتعلم من نتائج الأداء هي الأكثر قدرةً على الاستدامة. فكل تجربةٍ، ناجحةً كانت أو فاشلة، تُصبح موردًا معرفيًا جديدًا، وكل مشروعٍ يُختتم بتقريرٍ تعلّميٍّ يُغني الذاكرة المؤسسية، فلا تُعاد الأخطاء ذاتها، ولا تُكرّر الجهود بلا داعٍ.

وقد شدّد نظام إدارة الأداء الإماراتي على أهمية ربط نظام الأداء بمنظومة التعلم المؤسسي من خلال ما يُعرف بـ “التغذية الراجعة المؤسسية” (Institutional Feedback)، التي تجعل نتائج الأداء مدخلًا مباشرًا لتحسين الخطط والسياسات والإجراءات. فالمؤسسة المتعلمة تُراجع ما أنجزته لتعرف لماذا نجحت، كما تُراجع ما أخفقت فيه لتفهم كيف تتجاوز العقبات. وبهذه الطريقة تتحول إدارة الأداء إلى مدرسةٍ يوميةٍ للتعلم الجماعي.

ويُعدّ التعلم المؤسسي ركيزةً أساسيةً في بناء ما يُسمّى بـ “المؤسسة المتعلمة” (Learning Organization)، وهو المفهوم الذي قدّمه العالم بيتر سينج (Peter Senge) في كتابه الشهير “الانضباط الخامس” (The Fifth Discipline)، والذي يرى أن المؤسسات العظيمة لا تتفوق لأنها تُدرّب أفرادها فقط، بل لأنها تتعلم كمنظومةٍ واحدةٍ. فهي تخلق بيئةً تشجع التساؤل، وتحتضن الخطأ كفرصةٍ للاكتشاف، وتُكافئ التفكير لا التكرار.

ويتطلب تحقيق التعلم المؤسسي المستدام توافر أربعة مكوناتٍ رئيسةٍ مترابطةٍ:

1️⃣ الذاكرة المؤسسية (Institutional Memory):
وهي الأداة التي تحفظ التجارب السابقة وتُتيح استرجاعها عند الحاجة، سواء من خلال قواعد البيانات أو تقارير الأداء أو وثائق التعلم. فالمؤسسة التي لا تحفظ تجربتها، تُعيد دفع ثمنها كل مرةٍ من جديد.

2️⃣ المعرفة التنظيمية (Organizational Knowledge):
وهي نتاج تراكم الخبرات والمعارف الفردية وتحويلها إلى معرفةٍ جماعيةٍ موثقةٍ ومشتركةٍ. فالمعرفة التي تبقى في ذهن الفرد تذوب برحيله، أما التي تُوثّق في النظام فتُصبح رصيدًا مستدامًا للمؤسسة.

3️⃣ المجتمعات التعلمية (Learning Communities):
وهي الشبكات الداخلية للتشارك والتفكير الجماعي، حيث يُتبادل الخبراء المعرفة، ويستخلص الموظفون الدروس من تجارب بعضهم البعض. فهي تحوّل المؤسسة من مجموعة أفرادٍ إلى مجتمعٍ حيٍّ من المتعلمين.

4️⃣ التغذية الراجعة الذكية (Smart Feedback):
وهي الآلية التي تضمن تحويل نتائج الأداء إلى فرصٍ للتطوير من خلال التحليل العلمي للبيانات، واستخلاص الاتجاهات، وإصدار التوصيات الفاعلة التي تُغذي دورة التحسين المستمر.

ومن خلال هذه المكونات، يتحول التعلم من نشاطٍ إلى نظام، ومن نظامٍ إلى ثقافةٍ، ومن ثقافةٍ إلى هويةٍ. فالمؤسسة المتعلمة لا تحتاج إلى انتظار البرامج التدريبية لتتطور، لأنها تتعلم من تجربتها كل يومٍ، ومن كل حدثٍ، ومن كل رقمٍ في لوحة قياس الأداء.

وللتعلم المؤسسي أيضًا بعدٌ إنسانيٌّ عميق، لأنه يُعيد تعريف العلاقة بين القائد والفريق. فالقائد في المؤسسة المتعلمة لا يقدّم الإجابات دائمًا، بل يطرح الأسئلة التي تُحرّك التفكير، ولا يفرض الحلول، بل يخلق بيئةً تحفّز الآخرين على اكتشافها بأنفسهم. إنه يُعلّمهم كيف يتعلمون، ويزرع فيهم الفضول المهني، والرغبة الصادقة في التحسين الذاتي.

وفي هذا السياق، يتكامل التعلم المؤسسي مع الحوكمة ليُشكّلا معًا نظام التوازن المؤسسي بين الرقابة والتطوير. فالرقابة تمنع الانحراف، والتعلم يمنع التكرار. الحوكمة تُبقي النظام منضبطًا، والتعلم يُبقيه متجددًا. ومن تزاوج الاثنين تولد الاستدامة المؤسسية بمعناها الأصيل: استقرارٌ في القيم، وتطورٌ في الممارسات، ومرونةٌ في التكيف.

وهكذا، فإن التعلم المؤسسي ليس مجرد وسيلةٍ لتحسين الأداء، بل هو الآلية الرئيسة للتطوير الذاتي للمؤسسة، لأنه يجعل التغيير ينبع من داخلها لا يُفرض عليها من خارجها. فالمؤسسة التي تتعلم هي التي تضمن بقاءها، والمجتمع الذي يتعلم هو الذي يصنع مستقبله. لذلك، فإن استدامة الأداء تبدأ من حيث يبدأ التعلم، وتنتهي حيث يتوقف.


5️⃣ ⚙️ بناء الأنظمة والسياسات الداعمة للاستدامة

الاستدامة المؤسسية لا تقوم على النوايا أو الخطط المجردة، بل على أنظمةٍ وسياساتٍ تُحوّل الأفكار إلى ممارساتٍ، والممارسات إلى ثقافةٍ، والثقافة إلى أداءٍ مستمرٍ ومنتجٍ. فالنظام المؤسسي هو الذاكرة التنظيمية التي تحفظ التراكم المعرفي، والسياسات هي القواعد التي تضمن أن يسير الجميع على نهجٍ واحدٍ يوازن بين المرونة والانضباط. لذلك، فإن بناء الأنظمة والسياسات الداعمة للاستدامة هو الأساس العملي الذي يُمكّن المؤسسات من الانتقال من “النية” إلى “القدرة”، ومن “الرؤية” إلى “النتيجة”.

إنّ المؤسسات التي تغيب عنها الأنظمة الراسخة تُصبح هشّةً أمام التغيير، لأنها تُدار بالأشخاص لا بالمنهج، وبالخبرة الفردية لا بالممارسة المؤسسية. أما حين تُبنى السياسات وفق منهجٍ واضحٍ، تُصبح المؤسسة كيانًا مستقرًا، يُبدع القادة فيه ضمن ضوابط تحمي القيم وتُوجّه القرارات. فالسياسة ليست تقييدًا، بل إطارٌ للحرية المنضبطة، وهي التي تضمن استمرار الجودة عبر الزمن مهما تغيّرت الإدارات أو تعاقبت القيادات.

تشير الأدلة في دليل إدارة الأداء المؤسسي إلى أن وجود السياسات الموثقة والمحدثة هو من أهم شروط استدامة الأداء، لأنها تُوفّر مرجعًا موحدًا يضبط القرارات، ويمنع الارتجال، ويُعزّز العدالة التنظيمية. فالأنظمة والسياسات تُحوّل المؤسسة من كيانٍ يعتمد على “الذاكرة البشرية” إلى كيانٍ يعتمد على “الذاكرة المؤسسية”، وهذا التحول هو ما يضمن استقرار الأداء واستمراره حتى مع تغير الأفراد.

كما يُبرز نظام إدارة الأداء الإماراتي أن الاستدامة لا تتحقق إلا عندما تُدمج السياسات التشغيلية مع السياسات الاستراتيجية في منظومةٍ واحدةٍ متسقةٍ، بحيث تنبثق القرارات اليومية من الرؤية العليا للمؤسسة، ويُصبح كل إجراءٍ جزءًا من الهدف الكلي. فالاتساق بين المستويات الإدارية والسياسية هو ما يجعل المؤسسة تعمل كجسدٍ واحدٍ لا كمجموعة وحداتٍ متنافرة.

ومن الناحية العملية، فإن بناء الأنظمة والسياسات الداعمة للاستدامة يجب أن يستند إلى خمسة مبادئ أساسيةٍ تشكل الإطار الحاكم للنجاح المؤسسي:

1️⃣ الترابط (Integration):
يجب أن تكون الأنظمة والسياسات مترابطةً في ما بينها، فلا تعمل إدارة الجودة بمعزلٍ عن إدارة الأداء، ولا تعمل إدارة الموارد البشرية دون ارتباطٍ بالتخطيط الاستراتيجي. فالترابط يمنع التكرار، ويُعزّز الكفاءة، ويُحقق الانسجام بين أجزاء المنظمة.

2️⃣ المرونة (Flexibility):
فالسياسات الجامدة تُقيد الإبداع، في حين أن السياسات المرنة تُواكب التغيير دون أن تفقد الهدف. والمؤسسة المستدامة هي التي توازن بين الثبات في المبادئ والتكيّف في التطبيق، فتُحدّث أنظمتها بشكلٍ دوريٍّ بما يتوافق مع المستجدات التقنية والتنظيمية.

3️⃣ العدالة (Equity):
لا استدامة بلا عدالة. فحين يشعر الموظف بأن السياسات تُطبّق عليه بعدلٍ وشفافيةٍ، يزداد التزامه بها. لذلك، فإن وضوح السياسات وعدالتها هما حجر الأساس لبناء الثقة التنظيمية، التي تُعتبر بدورها جوهر الاستدامة.

4️⃣ التحسين المستمر (Continuous Improvement):
فالأنظمة والسياسات ليست نصوصًا مقدسةً، بل وثائق حيةٌ تُراجع وتُحدّث باستمرارٍ. فكل عمليةٍ تُخضع للمراجعة، وكل ملاحظةٍ تُحوّل إلى توصيةٍ تطويريةٍ، مما يجعل النظام ذاته يتعلم ويتطور مثل الأفراد.

5️⃣ المواءمة الاستراتيجية (Strategic Alignment):
وهي ضمان ارتباط السياسات بجميع المستويات الإدارية والاستراتيجية في المؤسسة، بحيث تُترجم الأهداف الكبرى إلى إجراءاتٍ تشغيليةٍ واضحةٍ، ويُصبح الأداء اليومي انعكاسًا مباشرًا للرؤية المستقبلية.

هذه المبادئ الخمسة تُحوّل النظام الإداري من “إطارٍ تنظيميٍ صامت” إلى “محركٍ ديناميكيٍ للأداء”، لأن الأنظمة والسياسات حين تُصمَّم بطريقةٍ ذكيةٍ، لا تفرض القيود، بل تُحرّر المؤسسة من العشوائية.

كما تُسهم الأنظمة والسياسات في دعم الاستدامة من خلال تعزيز الذاكرة المؤسسية. فحين تُوثّق القرارات والإجراءات، تُصبح المؤسسة قادرةً على التعلم من ماضيها بدقةٍ، وتُجنّب نفسها تكرار الأخطاء. فالذاكرة المؤسسية ليست أرشيفًا للملفات، بل نظامًا للوعي المؤسسي الذي يُمكّن المنظمة من التطور الواعي والمستدام.

وفي ضوء الحوكمة الحديثة، تُعتبر الأنظمة والسياسات ركيزةً في بناء الشفافية والمساءلة. فهي التي تحدد من يملك القرار، ومن يُراجع الأداء، ومن يتحمل المسؤولية. وهذا التحديد يمنع التضارب، ويُعزز الكفاءة، ويُوجّه الموارد إلى ما يُحقق القيمة المؤسسية الأعلى.

ولأن البيئة المؤسسية المعاصرة تتغير بسرعةٍ بفعل التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، فإن الأنظمة والسياسات يجب أن تُبنى على الرقمنة والاستباقية. فالمؤسسة المستدامة لا تنتظر أن تقع الأخطاء لتُعدّل سياساتها، بل تستخدم التحليلات التنبؤية لتتوقع التحديات وتُهيّئ الإجراءات مسبقًا. وهكذا يتحول النظام إلى عقلٍ استشرافيٍّ قادرٍ على التكيف الدائم.

إنّ بناء الأنظمة والسياسات الداعمة للاستدامة هو ترجمةٌ عمليةٌ لفلسفة إدارة الأداء الحديثة التي ترى أن التطوير ليس مهمة إدارةٍ واحدةٍ، بل مسؤولية المؤسسة بأكملها. فحين تُصبح الأنظمة مرجعًا ثابتًا والناس مصدرًا متجددًا للإبداع، تُولد المعادلة المثالية بين الاستقرار والتطور.

وهكذا، يُمكن القول إنّ الأنظمة والسياسات هي الهيكل العظمي للاستدامة المؤسسية، بينما يشكل الإنسان قلبها النابض، والثقافة روحها، والتعلم شريانها الحيوي. فحين تتكامل هذه العناصر الأربعة، تُصبح المؤسسة كائنًا متوازنًا قادرًا على النمو الذاتي والتجدد الدائم، مهما تغيّر الزمن أو تبدّلت التحديات.


6️⃣ 📊 مؤشرات الأداء والاستدامة: من القياس إلى النضج

في بدايات تطبيق أنظمة إدارة الأداء، كان التركيز الأكبر ينصبّ على القياس، إذ كانت المؤسسات تسعى إلى معرفة أين تقف، وكيف تُقاس إنجازاتها بالأرقام والنسب والمؤشرات. لكن مع تطور الفكر الإداري وظهور مفاهيم الاستدامة، تغيّر السؤال من “كيف نقيس الأداء؟” إلى “كيف نجعل القياس وسيلةً للتطور والنضج المستمر؟”. وهنا وُلد مفهوم النضج المؤسسي في الأداء (Performance Maturity)، الذي يُمثّل الانتقال من ثقافة القياس إلى ثقافة التحسين.

إنّ مؤشرات الأداء (Key Performance Indicators - KPIs) لم تُصمّم لتكون أدواتٍ للمساءلة فقط، بل لتكون أدواتٍ للتعلّم واتخاذ القرار وتحفيز التطوير. فالمؤسسة التي تستخدم مؤشرات الأداء بشكلٍ ذكيٍّ لا تكتفي بتتبّع النتائج، بل تدرس الأسباب، وتُحلّل الاتجاهات، وتُحوّل البيانات إلى معرفةٍ تُوجّه سلوكها التنظيمي. فالقياس الحقيقي ليس مجرد أرقامٍ تُعرض في التقارير، بل وعيٌ بالمعاني الكامنة خلف الأرقام، وإدراكٌ لما تعنيه تلك القيم في سياق الأهداف الكبرى.

تشير الأدلة في دليل إدارة الأداء المؤسسي إلى أن فعالية المؤشرات لا تُقاس بدقتها فقط، بل بقدرتها على دعم القرار وتوجيه التحسين. فالمؤشر الذي لا يُحرّك الفعل لا قيمة له، والمعلومة التي لا تُستخدم في التطوير تتحول إلى عبءٍ إداريٍّ. ومن هنا، فإنّ نضج المؤسسة يُقاس بمدى قدرتها على تحويل بيانات الأداء إلى إجراءاتٍ تطويريةٍ ملموسةٍ، تُغذي دورة الاستدامة بشكلٍ مستمر.

أما نظام إدارة الأداء الإماراتي، فقد ربط بين المؤشرات والاستدامة من خلال مبدأ “المؤشرات الحية” التي تتجدد دوريًا وفق السياق الاستراتيجي للمؤسسة. فالمؤسسة التي تُعيد مراجعة مؤشراتها كل عامٍ تُثبت أنها ما زالت تتعلم، بينما المؤسسة التي تُكرّر مؤشراتٍ ثابتةٍ دون تحديثٍ تكون قد دخلت مرحلة الجمود.

ولكي تُسهم مؤشرات الأداء في تعزيز الاستدامة، يجب أن تتحقق فيها مجموعة من الخصائص الجوهرية التي تُحوّلها من أدواتٍ رقميةٍ إلى أدواتٍ قياديةٍ:

1️⃣ الاتساق (Alignment):
أي أن تكون المؤشرات متسقةً مع الرؤية والرسالة والأهداف الاستراتيجية للمؤسسة. فالمؤشر المنفصل عن الغاية لا يُضيف قيمة، بل يُشتت الجهود. الاتساق هو الذي يجعل كل وحدةٍ وكل موظفٍ جزءًا من منظومةٍ تسير في الاتجاه نفسه.

2️⃣ الشمول (Comprehensiveness):
أن تشمل المؤشرات مختلف أبعاد الأداء — المالية، والتشغيلية، والمعرفية، والبشرية، والاجتماعية — لأن الاستدامة لا تتحقق إلا عبر النظرة الكلية التي ترى الصورة بأكملها.

3️⃣ الترابط الزمني (Temporal Linkage):
فالقياس لا يجب أن يكون لحظةً زمنيةً، بل سلسلةً متصلةً تُظهر الاتجاهات على المدى الطويل. فالاستدامة تُبنى على تراكم الأداء، لا على لحظة نجاحٍ عابرة.

4️⃣ التحفيز (Motivation):
يجب أن تكون المؤشرات مصدر إلهامٍ للفريق، لا مصدر خوفٍ. فحين تُستخدم المؤشرات للوم، تُصبح عبئًا، وحين تُستخدم للتطوير، تتحول إلى طاقةٍ إيجابيةٍ تدفع الجميع نحو الأفضل.

5️⃣ التعلم والتحسين (Learning and Improvement):
وهو الهدف النهائي من كل قياسٍ، إذ ينبغي أن تُترجم نتائج المؤشرات إلى فرصٍ للتطوير، لا إلى تقاريرٍ تُغلق في نهاية العام.

ومن زاويةٍ أخرى، تُساعد مؤشرات الأداء على بناء النضج المؤسسي من خلال تمكين المؤسسة من مراقبة تطورها عبر مستوياتٍ متقدمةٍ من الوعي:

  • في المرحلة الأولى، تُقاس الأنشطة (Activity-Based Stage).

  • في المرحلة الثانية، تُقاس النتائج (Results-Based Stage).

  • في المرحلة الثالثة، يُحلّل الأثر (Impact-Based Stage).

  • وفي المرحلة الرابعة، تُقاس الاستدامة (Sustainability-Based Stage)، وهي مرحلة النضج التي يتحول فيها القياس إلى تفكيرٍ استراتيجيٍ وتطويرٍ ذاتيٍ مستمرٍ.

إنّ المؤسسات الناضجة في إدارة الأداء لا تكتفي بقياس ما حدث، بل تسأل: لماذا حدث؟ وما الذي يمكن أن يحدث بعد ذلك؟ فهي تُحوّل مؤشرات الأداء إلى أدواتٍ للتنبؤ والاستشراف، لا مجرد المراقبة. ومن هنا، تندمج مؤشرات الأداء مع أنظمة التحليل الذكي والذكاء الاصطناعي (AI Analytics) لتُصبح منصةً معرفيةً تُساعد القيادة على اتخاذ القرارات الاستباقية، لا ردود الأفعال المتأخرة.

ومن منظور الحوكمة، تُعزّز المؤشرات المستدامة مبدأ الشفافية والمساءلة، لأنها تُقدّم صورةً دقيقةً عن الأداء تُتيح للجميع — من الموظف إلى صانع القرار — رؤية التقدّم بوضوحٍ، مما يُعمّق الثقة ويُرسّخ الانتماء المؤسسي.

وبهذا المعنى، فإنّ مؤشرات الأداء ليست غايةً بحد ذاتها، بل أداةٌ للوعي المؤسسي، تُمكّن المؤسسة من أن ترى ذاتها بوضوحٍ، وتُراجع مسارها بموضوعيةٍ، وتُصحّح انحرافاتها بمرونةٍ. فهي العين التي تُبصر، والعقل الذي يُحلّل، والقلب الذي يُلهم التغيير.

إنّ الانتقال من القياس إلى النضج هو ما يصنع الفرق بين مؤسسةٍ تملأ التقارير بالأرقام، ومؤسسةٍ تملأ الواقع بالأثر. فالأولى تُنجز أداءً ظاهريًا، والثانية تُنتج وعيًا مؤسسيًا مستدامًا. وهكذا، تتحول مؤشرات الأداء إلى مرآةٍ حقيقيةٍ للاستدامة، تعكس وعي المؤسسة بذاتها، وقدرتها على النمو الواعي، وإيمانها بأن التطور لا يُقاس فقط بما تحقق، بل بما يمكن أن يتحقق باستمرار.


7️⃣ 🤝 ثقافة التعاون والمسؤولية المشتركة في دعم الاستدامة

الأنظمة مهما بلغت من الإتقان، والاستراتيجيات مهما كانت متقنة الصياغة، تظل بلا روحٍ إن لم تتجذر في ثقافةٍ مؤسسيةٍ قائمةٍ على التعاون والمسؤولية المشتركة. فالثقافة هي التربة التي تنمو فيها الاستدامة، والتعاون هو الماء الذي يُبقيها حيّةً متجددةً. وفي المقابل، فإن غياب التعاون يُحوّل المؤسسة إلى جزُرٍ متباعدةٍ، يفقد كل قسمٍ فيها صلته بالآخر، وتبدأ الاستدامة في التآكل البطيء.

إنّ التعاون المؤسسي لا يُقاس بعدد الاجتماعات أو بتبادل الرسائل الرسمية، بل بمدى الوعي الجمعي بأن النجاح المؤسسي لا يتحقق إلا بتكامل الجهود. فحين يُدرك كل موظفٍ أن عمله ليس معزولًا، بل جزءٌ من منظومةٍ أكبر، تنشأ روح الانتماء الحقيقي التي تُحرّك الاستدامة. وهذه الروح لا تُفرض بالقرارات، بل تُبنى بالثقة والاحترام والتقدير المتبادل بين الأفراد والإدارات.

تشير الأدلة في دليل إدارة الأداء المؤسسي إلى أن المؤسسات الأكثر استدامةً هي تلك التي تُعزّز مفهوم “المسؤولية الجماعية للأداء”، حيث يُصبح الجميع شركاء في النتائج. فبدل أن يتحول الأداء إلى سباقٍ داخليٍ بين الأقسام، يتحول إلى جهدٍ تكامليٍ يقوده وعيٌ مشتركٌ بالغاية العليا. وهكذا، يُصبح التعاون سلوكًا يوميًا، لا مجاملةً إدارية، والمسؤولية التزامًا داخليًا، لا تكليفًا خارجيًا.

أما نظام إدارة الأداء الإماراتي، فيؤكد أن بناء ثقافة التعاون يتطلب بيئةً تنظيميةً عادلةً تُكافئ الأداء الجماعي مثلما تُكافئ الأداء الفردي، لأن العدالة في توزيع التقدير تُعزز الانسجام وتحد من المنافسة السلبية. فالتحفيز لا يجب أن يُوجّه فقط نحو الإنجاز الفردي، بل نحو الإنجاز المشترك الذي يُنتج قيمةً مضافةً للمؤسسة بأكملها.

ويُعدّ مفهوم المسؤولية المشتركة (Shared Accountability) من المفاهيم الجوهرية في استدامة الأداء، إذ يُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمؤسسة. فبدل أن يُنظر إلى الأداء بوصفه مسؤولية الرئيس أو المدير فقط، يصبح مسؤولية الجميع. فكل موظفٍ مسؤولٌ عن جودة عمله، وعن دعم زملائه، وعن نجاح فريقه، لأن الأداء في المؤسسة المستدامة يُدار بالضمير الجمعي، لا بالمراقبة الفردية.

إنّ ثقافة التعاون والمسؤولية المشتركة تُعدّ تجسيدًا عمليًا لفلسفة التمكين، لأنها تمنح الجميع الإحساس بالملكية والانتماء. فالموظف الذي يشعر أنه شريكٌ في النجاح لا يحتاج إلى أوامر، والمجموعة التي تتقاسم المسؤولية لا تحتاج إلى رقابةٍ مشددةٍ. وهكذا يتحول الأداء إلى طاقةٍ جماعيةٍ تتجدد تلقائيًا، وتصبح الاستدامة نتيجةً طبيعيةً للانسجام الداخلي بين الإنسان والنظام.

ومن الناحية السلوكية، يقوم التعاون على ثلاثة مرتكزاتٍ أساسيةٍ:

1️⃣ الثقة المتبادلة:
فالثقة هي الأكسجين الذي تتنفس به الفرق عالية الأداء. بدونها، لا ينفع أي نظامٍ ولا تصمد أي سياسةٍ. والثقة لا تُبنى بالوعود، بل بالمصداقية في الأفعال، والشفافية في التواصل، والعدالة في التقدير.

2️⃣ التكامل الوظيفي:
فكل إدارةٍ أو قسمٍ في المؤسسة المستدامة يُدرك أنه جزءٌ من منظومةٍ أكبر. فالتسويق لا ينجح دون الإنتاج، والإنتاج لا يكتمل دون الجودة، والجودة لا تُضمن دون الموارد البشرية. هذا التكامل يُحوّل المؤسسة إلى كائنٍ حيٍّ واحدٍ، تتكامل أعضاؤه بدل أن تتنافس.

3️⃣ التواصل الفعّال:
فالتعاون لا يتحقق في بيئةٍ يسودها الصمت الإداري أو التباعد المعرفي. فالمؤسسة التي تفتح قنوات التواصل الداخلي، وتُشرك موظفيها في النقاش والحوار، تُحوّل الأفكار الفردية إلى حلولٍ جماعيةٍ، وتُنتج وعيًا مؤسسيًا مشتركًا يُعزز الاستدامة.

ويُبرز نظام تقويم الأداء أن تعزيز التعاون والمسؤولية المشتركة يبدأ من نموذج التقييم نفسه، إذ يجب أن يُدرج “العمل الجماعي” كأحد محاور القياس الرئيسة للأداء، لأن الأفراد لا يُقاسون فقط بإنجازاتهم الشخصية، بل بقدرتهم على دعم الآخرين وتحقيق النتائج من خلال الفريق.

وفي التجارب المؤسسية المتقدمة، يُعتبر التعاون الثقافي من مقاييس النضج الإداري. فكلما ارتفعت درجة التعاون بين الوحدات، زادت قدرة المؤسسة على الصمود أمام الأزمات، وسرّعت من قدرتها على اتخاذ القرار الجماعي في أوقات التغيير. فالتعاون ليس سلوكًا تنظيميًا فقط، بل رأسمال اجتماعي (Social Capital) يُثري منظومة الأداء، ويُضاعف فاعلية المعرفة، ويُحول العلاقة بين العاملين إلى شبكةٍ من الدعم المتبادل والوعي المشترك.

إنّ ثقافة التعاون والمسؤولية المشتركة تُحوّل المؤسسة من مكانٍ يُدار بالقرارات إلى كيانٍ يُدار بالثقة، ومن منظومةٍ من الأوامر إلى منظومةٍ من العلاقات. فهي تُعيد الإنسان إلى مركز الأداء، وتُعيد الأخلاق إلى قلب العمل المؤسسي. وحين تتجذر هذه الثقافة، تُصبح الاستدامة ليست خطةً مكتوبةً، بل حالةً حيةً من الانسجام بين الناس والنظام والغاية.

وهكذا، فإنّ المؤسسات التي تبني ثقافة التعاون هي التي تضمن أن تبقى فاعلةً حتى في غياب قيادتها، لأنها زرعت في نفوس موظفيها حسًّا بالانتماء والالتزام يفوق التوصيفات الوظيفية. إنها المؤسسة التي لا تنتظر المديح لتعمل، ولا تخاف اللوم لتتحرك، لأنها تؤمن أن النجاح مسؤولية الجميع، وأن الأداء المستدام هو ثمرة الجهد الجماعي المستمر.


8️⃣ 🌱 المستقبل المؤسسي بين الأداء المستدام والتميز الشامل

حين تصل المؤسسة إلى مرحلةٍ يصبح فيها الأداء عادةً راسخةً، والتحسين سلوكًا يوميًا، والتعلّم ثقافةً جماعيةً، تكون قد دخلت إلى فضاء التميز الشامل (Total Excellence)، وهو المستوى الأعلى من النضج المؤسسي الذي تتكامل فيه الاستدامة مع الابتكار، وتتّحد فيه النتائج بالقيم، ليغدو الأداء ليس مجرد وسيلةٍ للبقاء، بل فلسفةً للريادة المستمرة.

إنّ المستقبل المؤسسي للمؤسسات الرائدة لن يُبنى على الأسبقية في الموارد أو الأدوات فحسب، بل على القدرة على الاستدامة الواعية — أي أن تُحافظ المؤسسة على تفوقها دون أن تفقد مرونتها، وأن تتطور باستمرار دون أن تُفرّط في هويتها. فالتميّز الشامل لا يعني الوصول إلى القمة فحسب، بل البقاء عليها من خلال التوازن بين الأداء، والجودة، والابتكار، والمسؤولية الاجتماعية.

تشير الأدلة في دليل إدارة الأداء المؤسسي إلى أن الاستدامة لا تتحقق إلا حين يتحول الأداء إلى منظومةٍ متكاملةٍ تجمع بين النتائج والعمليات والقيم. فالمؤسسة التي تُركّز على النتائج وحدها تُحقّق نجاحًا مؤقتًا، أما التي تُوازن بين الكفاءة والقيمة والمعنى، فهي التي تضمن البقاء والتأثير عبر الزمن.

ويؤكد نظام إدارة الأداء الإماراتي أن التميز المؤسسي هو الوجه العملي للاستدامة، لأنه يُحوّل الأفكار إلى ممارساتٍ ممنهجةٍ، ويُدمج التحسين المستمر مع ثقافة الأداء العالي. فالمؤسسة المتفوقة هي التي لا تكتفي بقياس مؤشرات الأداء، بل تقيس نضجها القيمي ومدى تأثيرها على المجتمع والبيئة والاقتصاد.

إنّ الربط بين الأداء المستدام والتميز الشامل يمر عبر ثلاث مراحلٍ جوهريةٍ تشكل مسار التطور المؤسسي نحو المستقبل:

1️⃣ المرحلة الأولى – الاتساق الداخلي:
وفيها تسعى المؤسسة إلى مواءمة أنظمتها الداخلية مع استراتيجياتها وأهدافها وقيمها. فالاتساق هو الشرط الأول للاستقرار، إذ لا يمكن لمؤسسةٍ أن تتقدم وهي تعاني من التناقض بين ما تُعلن وما تُمارس.

2️⃣ المرحلة الثانية – التفاعل الخارجي:
وهنا تنفتح المؤسسة على بيئتها وشركائها ومجتمعها، وتُمارس أداءها من منطلق المسؤولية المشتركة، لا المصلحة الفردية. فالأداء المستدام لا ينفصل عن التنمية الوطنية والاجتماعية، والمؤسسة التي تُسهم في بناء المجتمع تُعزّز قدرتها على البقاء.

3️⃣ المرحلة الثالثة – التميّز الشامل:
وهي مرحلة التكامل بين الإنسان، والنظام، والقيم، والتقنية. فالمؤسسة المتميزة هي التي تُحقق التوازن بين الأداء والابتكار، وبين الرقابة والإلهام، وبين النظام والحرية. وهنا تتجلّى القيادة التحويلية كضامنٍ لهذا الاتزان الاستراتيجي الذي يُنتج استدامةً واعيةً ومستمرةً.

وفي هذه المرحلة، تُصبح المؤسسة أشبه بمنظومةٍ بيئيةٍ ذكيةٍ، قادرةٍ على التجدد الذاتي من خلال أنظمتها الداخلية، وتفاعلها مع العالم الخارجي. فالمؤسسة المتميزة لا تنتظر التغيير لتستجيب له، بل تُصبح هي من يُحدثه، لأن ثقافتها الداخلية قائمةٌ على التعلّم، والتحسين، والتجريب المستمر.

ويُبرز نظام تقويم الأداء أن المؤسسات التي بلغت مستوى التميز الشامل تُمارس التقييم بوصفه حوارًا معرفيًا متبادلًا، لا كعمليةٍ رقابيةٍ جامدةٍ. فالمؤسسة الناضجة في أدائها تُراجع نتائجها بوعيٍ، وتتعامل مع التقييم كمرآةٍ للنمو، لا كأداةٍ للحكم أو العقاب.

كما أن معايير التميز المؤسسي (EFQM) وإدارة الجودة الشاملة (TQM) تضع الاستدامة في قلب فلسفتها، إذ ترى أن الأداء الحقيقي لا يُقاس فقط بما يُحقّق من إنجازاتٍ حاليةٍ، بل بقدرة المؤسسة على الاستمرار في تحقيقها وتحسينها عبر الأجيال والظروف المختلفة. فالتنمية المؤسسية التي لا تُورّث معرفتها، ولا تُنظّم خبرتها، محكومٌ عليها بالتلاشي مع تغيّر القادة أو الظروف.

إنّ المستقبل المؤسسي في عصر الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي يتطلب من المؤسسات أن تُعيد تعريف مفهوم الأداء ذاته، ليصبح أكثر شمولًا وإنسانيةً. فالتميز القادم لن يكون فقط في الأرقام، بل في الوعي التنظيمي، والقدرة على الإبداع المتجدد، والمرونة في مواجهة المجهول. فالمؤسسة التي تربط بين الأداء والاستدامة تُصبح مدرسةً في التعلّم المستمر، ومختبرًا للإبداع، ونموذجًا في المسؤولية المؤسسية.

وهكذا، يمكن القول إنّ العلاقة بين الأداء المستدام والتميز الشامل ليست علاقة نهايةٍ وبدايةٍ، بل علاقةُ تكاملٍ ودوامٍ. فالأداء المستدام يُنتج التميز، والتميز يُغذّي الاستدامة، في دورةٍ واعيةٍ لا تنقطع. فالمؤسسة المتميزة هي التي تُدير الأداء بعقلٍ استراتيجيٍ، وتغذّيه بقلبٍ إنسانيٍ، وتُوجهه ببصيرةٍ قيميةٍ، فتُصبح نموذجًا للقيادة المتوازنة التي تُلهم وتُبدع وتستمر.

إنّ المستقبل المؤسسي، في جوهره، ليس سباقًا نحو التقدم فقط، بل رحلةٌ نحو النضج، حيث تُصبح الاستدامة فلسفةً للقيادة، والتميز منهجًا للحياة المؤسسية. فحين تُحقّق المؤسسة هذا الاتساق العميق بين الأداء والقيم، تُصبح قادرةً على أن تُخلّد أثرها، وتُسهم في صناعة غدٍ أكثر وعيًا، وعدلًا، وإبداعًا، واستدامةً.


🔻 الخاتمة التحليلية

إنّ الاستدامة المؤسسية ليست مجرد غايةٍ تنظيميةٍ تسعى إليها المؤسسات بعد أن تُنهي مشاريعها وتُحقّق نتائجها، بل هي حالةُ وعيٍ متقدمةٌ تُعبّر عن نضج المؤسسة في فهمها لنفسها ولدورها في المجتمع. إنها النقطة التي يلتقي عندها الأداء بالمعنى، والنظام بالروح، والنتائج بالقيم، لتُصبح المؤسسة قادرةً على الاستمرار والتجدد والتأثير في آنٍ واحدٍ.

لقد كشفت التجارب العالمية والعربية أن المؤسسات التي تبنّت فلسفة إدارة الأداء المستدام، وربطت بين خططها التشغيلية ورؤيتها الاستراتيجية، واستثمرت في بناء ثقافتها الداخلية قبل أن تُجمّل تقاريرها الخارجية، هي التي استطاعت أن تبقى فاعلةً ومؤثرةً رغم تغير القيادات أو الأزمات. فالاستدامة ليست بقاءَ المؤسسة، بل بقاءَ رسالتها، وليست طولَ عمرِها، بل عمقَ أثرِها.

وما يجعل إدارة الأداء المؤسسي أداةً حقيقيةً لتحقيق الاستدامة هو قدرتها على تحويل كل عنصرٍ في المنظمة إلى لبنةٍ في بناءٍ متكاملٍ. فهي لا تُفرّق بين النظام والإنسان، بل تُنسّق بينهما في دورةٍ واعيةٍ من التحسين المستمر. وحين تُصبح هذه الدورة جزءًا من الثقافة اليومية، تتحوّل المؤسسة من متلقٍّ للتغيير إلى صانعٍ له، ومن منفّذٍ للاستراتيجيات إلى مُبدعٍ لها.

إنّ العلاقة بين الأداء والتنمية ليست علاقةَ نتيجةٍ وسبب، بل علاقةُ تفاعلٍ متبادلٍ. فكل أداءٍ يولّد معرفةً، وكل معرفةٍ تُنتج أداءً أعلى، وكل تحسينٍ يُمهّد لتحسينٍ آخر، في حلقةٍ من النمو الذاتي المستدام الذي يُعيد تشكيل المؤسسة باستمرارٍ دون أن يُفقدها توازنها.

وفي ظلّ هذا الوعي الجديد، لم تعد الاستدامة رفاهيةً فكريةً، بل ضرورةً استراتيجيةً في عالمٍ يتغير بسرعةٍ غير مسبوقةٍ. فالمؤسسات التي تُدير أداءها بعقلٍ آنيٍ قصير النظر، سرعان ما تذوب في فوضى التغيير؛ أما التي تُدير أداءها برؤيةٍ مستدامةٍ طويلة الأمد، فهي التي تُوجِد لنفسها موقعًا ثابتًا في عالمٍ متحوّلٍ.

إنّ الاستدامة المؤسسية ليست في إطالة عمر المؤسسة، بل في إدامة قيمها ومنهجها في كل جيلٍ جديدٍ من العاملين والقادة. فهي حالةُ نضجٍ تجعل المؤسسة تتطور دون أن تفقد هويتها، وتتغير دون أن تنكر جذورها، وتتوسع دون أن تُفرّط في جوهرها.

وهكذا، فإنّ ربط الأداء بالتنمية المستمرة لا يعني تحسين العمليات فقط، بل بناء إنسانٍ جديدٍ داخل المؤسسة يؤمن أن التغيير لا يُفرض من الخارج، بل يُصنع من الداخل. فالموظف الواعي بقيمة دوره هو الذي يصنع المؤسسة الواعية بدورها، وحين تتوحّد هذه الرؤية على مستوى الأفراد والجماعات، تتحول المؤسسة إلى منظومةٍ حيةٍ متكاملةٍ تُنتج أداءً واعيًا واستدامةً فاعلةً وتميّزًا متجددًا.

إنّ مستقبل المؤسسات في القرن الحادي والعشرين لن يكون لمن يملك الأدوات الأحدث، بل لمن يملك الوعي الأعمق. فالأدوات يمكن أن تُشترى، والأنظمة يمكن أن تُستورد، لكن الثقافة والوعي لا يُمنحان، بل يُبنيان عبر سنواتٍ من التعلم والتجريب والإصرار على التحسين المستمر.

وحين تُدرك المؤسسات أن الاستدامة ليست مرحلةً في نهاية الطريق، بل طريقةُ تفكيرٍ في كل خطوةٍ من الطريق، فإنها تكون قد عبرت من عالم الإدارة التقليدية إلى عالم القيادة الواعية، حيث الأداء ليس غايةً بل وسيلةٌ لتحقيق رسالةٍ أكبر، والنتائج ليست أرقامًا بل شواهدُ على نضجٍ إنسانيٍّ وتنظيميٍّ راقٍ.

فالمؤسسة المستدامة ليست تلك التي تُنافس غيرها، بل تلك التي تُنافس نفسها، لتُصبح في كل عامٍ أفضل من العام الذي سبقه، وفي كل جيلٍ أقدر على خدمة مجتمعها وتحقيق أثرها. وهنا يُولد التميّز الحقيقي، لا في المكاتب والتقارير، بل في الوعي الذي يسكن عقول العاملين وقلوبهم.


✍🏻 التوثيق للمحتوى

📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات،
ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.

✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد:
د. محمد العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية، بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.

📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية،
ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z

🌐 تصفّح المزيد من المقالات عبر الموقع:
👉 www.mohammedaameri.com


🔖 #إدارة_الأداء_المؤسسي #الاستدامة_المؤسسية #التحسين_المستمر #التميز_المؤسسي #الحوكمة #التعلم_المؤسسي #مؤشرات_الأداء #الوعي_التنظيمي #المسؤولية_المجتمعية #الابتكار_المؤسسي #القيادة_التحويلية #د_محمد_العامري #مهارات_النجاح #رؤية_السعودية_2030 #التنمية_المستدامة #التحول_المؤسسي #التحول_الرقمي #التمكين_القيادي #الجودة_الشاملة #التميز_والتحسين #الريادة_التنظيمية #حوكمة_الأداء #المؤسسة_المتعلمة

تحميل محتوى الصفحة رجوع