د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

من تقييم الأداء إلى إدارة الأداء: التحول المفاهيمي والمنهجي From Performance Appraisal to Performance Management: The Conceptual and Methodological Transformation

يتناول هذا المقال التحول العميق الذي شهدته المنظمات في فهمها لمفهوم الأداء، من مجرد عملية تقييمٍ سنويةٍ إلى منظومةٍ مستمرةٍ لإدارة الإنجاز، تربط الأفراد بالأهداف وتحوّل الرقابة إلى تمكين، والتقويم إلى تطويرٍ مستدام.

October 24, 2025 عدد المشاهدات : 103

حين نتأمل تاريخ الإدارة الحديثة، ندرك أن مسيرة “تقييم الأداء” هي مرآة تطور الفكر الإنساني في فهمه للإنجاز.
ففي بدايات القرن العشرين، كان الأداء يُنظر إليه بوصفه حصيلة الجهد الفردي في تنفيذ الأوامر، وكان التقييم وسيلةً للرقابة والجزاء، غايته ضبط السلوك أكثر من تطويره.
كانت الإدارة في تلك الحقبة تركز على النتائج لا على الأسباب، وعلى الطاعة لا على المشاركة، وعلى الاتساق مع اللوائح أكثر من الارتقاء بالقدرات.
لكن مع تطور الفكر التنظيمي، وظهور مدارس العلاقات الإنسانية والسلوك التنظيمي، بدأ العالم يدرك أن الإنسان ليس آلة إنتاجٍ يمكن قياسها فقط، بل عقلٌ واعٍ يحتاج إلى الإلهام، وروحٌ مبدعةٌ تحتاج إلى التمكين.
ومن هنا بدأت رحلة التحول الكبرى من “تقييم الأداء” إلى “إدارة الأداء”،
من التركيز على الناتج إلى فهم العملية،
من الاهتمام بالرقم إلى العناية بالإنسان الذي يصنع الرقم،
ومن الحكم المتأخر على الماضي إلى التوجيه المبكر للمستقبل.

لقد مثل هذا التحول لحظة وعيٍ إداريٍّ عميقةٍ، لأن المؤسسات أدركت أن أداء الأفراد لا ينفصل عن أداء المنظمة، وأن الإنسان لا يُقاس بمعزلٍ عن البيئة التي يعمل فيها.
فالتقييم أصبح وسيلةً للتعلم لا للعقاب، والحوار حول الأداء أصبح ساحةً للثقة والتغذية الراجعة لا للمساءلة وحدها.
ومن هنا وُلد مفهوم “إدارة الأداء” كفلسفةٍ متكاملةٍ تربط بين الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة والطاقة الداخلية للإنسان، وتحوّل الرقابة إلى شراكةٍ واعيةٍ نحو التحسين المستمر.

في هذا التحول، تغيّر السؤال الإداري من:
«كيف نقيس أداء الموظف؟»
إلى:
«كيف نُساعده على أن يُحسن أداءه باستمرار؟»
وتغيّر محور الحوار من “النتائج الماضية” إلى “الفرص القادمة”، ومن “التقويم” إلى “التمكين”.
وهكذا أصبح الأداء ليس مجرد مؤشرٍ كميٍّ، بل رحلةً معرفيةً إنسانيةً تجمع بين الهدف والمعنى، بين القياس والنمو، بين الفرد والمؤسسة، في منظومةٍ واحدةٍ تُدار بالتفاهم والبيانات والقيم في آنٍ واحد.


📚 الفهرس


1️⃣ 🕰 الجذور التاريخية لتقييم الأداء
🌱 قراءةٌ تحليليةٌ لمسار نشأة مفهوم التقييم عبر المدارس الإدارية الكلاسيكية والعسكرية والصناعية، وصولًا إلى بدايات الفكر الإنساني في الإدارة الحديثة.

2️⃣ 🧩 التحول من القياس إلى الإدارة
🔄 تتبعٌ للتحول المنهجي من القياس الوصفي للأداء إلى الإدارة التفاعلية التي تصنع الإنجاز من خلال الفهم والتحليل والتغذية الراجعة.

3️⃣ 🎯 تغيّر الغاية: من المحاسبة إلى التطوير
💡 استكشاف التحول القيمي في فلسفة الإدارة من العقاب إلى التعلم، ومن المساءلة إلى التحفيز، ومن مراقبة النتائج إلى بناء القدرات.

4️⃣ ⚖️ العدالة التنظيمية والثقة المؤسسية كمرتكز للتحول
🤝 تحليل كيف قادت قيم العدالة والشفافية والثقة المتبادلة إلى إعادة تشكيل العلاقة بين القائد والموظف، وتحويل التقييم إلى حوارٍ تشاركيٍّ بنّاء.

5️⃣ 🧠 التحول المنهجي: من النماذج الخطية إلى الأنظمة التفاعلية
⚙️ توضيح التغير في الأدوات والمنهجيات من النماذج التقليدية إلى النظم التفاعلية القائمة على البيانات، والتغذية الراجعة، والتحليل الذكي للأداء.

6️⃣ 🌍 الأطر الدولية في إدارة الأداء: من المدرسة الأمريكية إلى النموذج الأوروبي
🏛 عرض مقارن لأبرز المدارس العالمية (الأمريكية، الأوروبية، والآسيوية) في إدارة الأداء وأثرها في بناء النماذج الوطنية.

7️⃣ 🇸🇦🇦🇪 نضج إدارة الأداء في المؤسسات العربية
📈 تحليل مستوى التحول في البيئات العربية والخليجية، واستعراض نماذج التكامل بين الفكر العالمي والهوية المؤسسية العربية.

8️⃣ 🚀 إدارة الأداء كمنهجٍ للتحول المؤسسي المستدام
🌿 استشراف مستقبل إدارة الأداء في ظل الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، ودورها في بناء المؤسسات المتعلمة والمرنة والمبتكرة.


🕰 المحور الأول: الجذور التاريخية لتقييم الأداء

The Historical Roots of Performance Appraisal


حين نحاول أن نُحدد الجذور الأولى لفكرة تقييم الأداء، نجد أنفسنا أمام تاريخٍ طويلٍ من المحاولات البشرية لفهم العلاقة بين الجهد والنتيجة، وبين العمل والقيمة، وبين السلطة والإنجاز. ففكرة قياس أداء الإنسان ليست وليدة المؤسسات الحديثة، بل تمتد إلى أعمق طبقات التاريخ حين بدأ الإنسان يُدرك أن الإنتاج لا يتساوى بين الأفراد، وأن العدالة في المكافأة تستلزم معرفة الفروق في الأداء. ومنذ تلك اللحظة، بدأت أولى محاولات "التقييم" كمفهومٍ بدائيٍّ يتخذ شكل الحكم الشخصي، لا القياس العلمي، وكان الهدف منه غالبًا ضبط السلوك أكثر من تطويره.

في الحضارات القديمة، نجد آثارًا لهذه الممارسة في مصر الفرعونية، حيث كانت الكفاءة تُقاس بالقدرة على إنجاز المهام المرتبطة بالهرم الاجتماعي والديني. أما في الصين القديمة، فقد وضع “كونفوشيوس” أسسًا فكريةً لتقييم المسؤولين على أساس الفضيلة والانضباط الأخلاقي، لا على أساس الكمية أو السرعة. ومع الوقت، تحوّلت هذه المبادئ إلى نظامٍ رسميٍّ في عهد أسرة “هان” الإمبراطورية (حوالي 200 قبل الميلاد)، حيث وُضعت معايير أخلاقية وسلوكية لاختيار وتقييم القادة والموظفين، وهو ما يُعدّ أول نظامٍ إداريٍّ رسميٍّ في التاريخ يقوم على تقييم الأداء الحكومي.

ثم جاءت الإمبراطوريات الرومانية واليونانية لتُقدّم مفاهيم أكثر تنظيمًا. فقد بدأ الرومان باستخدام تقاريرٍ مكتوبةٍ لتوثيق أداء القادة العسكريين، ومكافأة الشجعان أو معاقبة المتخاذلين، وهو ما يمكن اعتباره النواة الأولى لفكرة “التقارير السنوية”. وفي العصور الإسلامية اللاحقة، تطورت فكرة التقييم إلى إطارٍ أخلاقيٍّ مؤسسيٍّ متكاملٍ، فقد أولى الخلفاء والولاة في الدولة الإسلامية أهميةً بالغةً لمحاسبة الولاة والعمال على أساس الأداء في الرعية والالتزام بالقيم والعدالة. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُرسل من يتفقد أعمال الولاة ويسأل الناس عنهم، لا لمعاقبتهم بل لتصحيح المسار، في ممارسةٍ تُجسد جوهر “إدارة الأداء” الحديث قبل قرونٍ طويلةٍ من ظهوره كمصطلحٍ غربيٍّ. وقد جاءت هذه الممارسات منطلقةً من رؤيةٍ قيميةٍ تعتبر المسؤولية تكليفًا لا تشريفًا، وتربط الأداء بالأمانة قبل المهارة.

ومع الثورة الصناعية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، تحوّل التقييم من ممارسةٍ أخلاقيةٍ إلى أداةٍ اقتصاديةٍ. فقد بدأت المصانع والمؤسسات الكبيرة بحاجةٍ إلى قياس الإنتاجية بدقةٍ لتحديد الأجور والمكافآت، فظهر ما يُعرف بـ “التقييم الكمي للأداء”، الذي أسسه “فريدريك تايلور” من خلال مدرسة الإدارة العلمية. وقد رأى تايلور أن تحسين الأداء لا يتم إلا من خلال القياس الدقيق للزمن والحركة والإنتاج، وأن الإدارة ينبغي أن تكون علمًا دقيقًا يقوم على الملاحظة والبيانات. وهكذا وُلدت فكرة الأداء كـ "ناتجٍ قابلٍ للقياس"، وأصبح العامل يُعامل كجزءٍ من منظومةٍ ميكانيكيةٍ هدفها تحقيق الكفاءة القصوى.

غير أنّ هذا الاتجاه العلمي الصارم سرعان ما أفرز نتائج سلبية؛ فقد جعل العلاقة بين المدير والعامل علاقة ميكانيكية خالية من البعد الإنساني، مما أدى إلى انخفاض الرضا الوظيفي وظهور التوتر الصناعي. وهنا برزت مدرسة “العلاقات الإنسانية” بقيادة “إلتون مايو”، التي أعادت الاعتبار للجانب الإنساني في الأداء، مؤكدةً أن العوامل النفسية والاجتماعية تؤثر في الإنتاجية أكثر من الأجور وحدها. وبذلك بدأ مفهوم “الأداء” يتسع ليشمل الدافعية، والولاء، والرضا، والعلاقات الإنسانية، لا مجرد الأرقام والنتائج.

ثم شهد منتصف القرن العشرين تحولًا نوعيًا حين بدأت المؤسسات الكبرى والحكومات تعتمد “التقييم الدوري” كأداةٍ لتخطيط المسار الوظيفي، وليس فقط لتقرير المكافأة أو العقوبة. وأصبح التقييم جزءًا من دورة حياة الموظف داخل المؤسسة، يُستخدم لتحديد الاحتياجات التدريبية، وترشيحات الترقي، وتوزيع المسؤوليات. ومع ظهور نظريات التحفيز الذاتي (Self-Motivation) مثل نظرية “ماسلو” للحاجات الإنسانية، ونظرية “هيرزبرغ” في الدافعية، بدأ يُنظر إلى الأداء كنتاجٍ للتفاعل بين البيئة الخارجية والدوافع الداخلية، لا كمحصلةٍ لقراراتٍ إداريةٍ فقط.

وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين، بدأت المؤسسات تتساءل: هل يكفي أن نُقيّم ما حدث في الماضي؟ أم ينبغي أن نُدير ما يحدث في الحاضر ونستشرف المستقبل؟ وهنا ظهرت مدرسة “إدارة الأداء” لتُقدّم رؤيةً جديدةً: أن الأداء ليس حدثًا يُقاس، بل منظومةٌ تُدار. لم تعد الفكرة هي إصدار حكمٍ على الموظف، بل مساعدته على النمو، ولم يعد الهدف هو تسجيل النتيجة، بل تحسينها في الزمن الحقيقي. وهكذا تغيّر المفهوم من "Performance Appraisal" إلى "Performance Management"، أي من التقييم إلى الإدارة، من القياس إلى التعلم، من الرقابة إلى التمكين.

ويُمكن القول إنّ الجذور التاريخية لتقييم الأداء كانت أشبه بمدرسةٍ في فهم الإنسان ذاته، فقد بدأت بالرقابة، وتطورت إلى المحاسبة، ثم إلى التحسين، وأخيرًا إلى التمكين. إنها رحلة الإدراك البشري بأنّ الإنسان ليس مجرد أداة إنتاجٍ، بل هو المحرك الرئيس للتطوير والابتكار. وحين انتقلت هذه الفكرة إلى العالم العربي في العقود الأخيرة، دخلت مرحلة جديدة من التأصيل القيمي، حيث بدأت الحكومات العربية — كالسعودية والإمارات — تبني أنظمةً متكاملةً تُوازن بين المعايير العالمية والخصوصية الثقافية. فصارت إدارة الأداء في هذه السياقات ليست مجرد استيراد نموذجٍ غربيٍّ، بل تطوير رؤيةٍ عربيةٍ تربط الكفاءة بالمواطنة، والمساءلة بالقيم، والقياس بالتنمية الوطنية الشاملة.


🧩 التحول من القياس إلى الإدارة

From Measurement to Management


عندما بدأ الفكر الإداري في النصف الثاني من القرن العشرين يُعيد النظر في جدوى أنظمة تقييم الأداء التقليدية، كان العالم يعيش تحوّلًا جذريًا في نظريته عن العمل ذاته. فقد اكتشفت المؤسسات أن الأرقام وحدها لا تصنع التقدم، وأن القياس مهما بلغ دقته، إذا لم يتحوّل إلى إدارةٍ واعيةٍ، فإنه يُنتج معرفةً بلا أثر. وهكذا بدأ الوعي الجديد يتشكل: أن التقييم يقيس الماضي، أما الإدارة فتُشكّل المستقبل. فالأول يخبرك بما حدث، والثاني يُمكّنك من تغيير ما سيحدث. وهذا التحول من “القياس” إلى “الإدارة” هو من أعمق التحولات الفلسفية في تاريخ الفكر المؤسسي الحديث.

لقد كانت أنظمة القياس التقليدية تركز على النتائج النهائية فقط — كمّ الإنتاج، سرعة الإنجاز، دقة التنفيذ — دون النظر إلى البيئة التي أنتجت هذه النتائج. فكانت تُعاقب أو تُكافئ بناءً على المخرجات، لا بناءً على العمليات والسلوكيات التي أدت إليها. لكن مع الزمن، أدركت المؤسسات أن هذا الأسلوب يُنتج “ردود فعل” أكثر مما يُنتج “تعلّمًا”، وأنه يُعزز الخوف أكثر مما يُعزز الإبداع، لأنه يجعل الموظف يعيش في ظل حكمٍ مؤجلٍ يصدر في نهاية العام، فيتوقف عن التجريب والمبادرة خوفًا من الخطأ. وهنا بدأ الفكر الإداري الحديث يطرح سؤالًا جديدًا: كيف نجعل الأداء عمليةً مستمرةً تُدار بالتغذية الراجعة لا بالأحكام المتأخرة؟

من هذا السؤال وُلد مفهوم “إدارة الأداء” كمنهجٍ إداريٍّ يقوم على أن الأداء لا يُقاس فقط، بل يُوجَّه ويُنمّى ويُصاغ سلوكيًا. فالإدارة الحقيقية لا تكتفي بمراقبة النتائج، بل تتدخل في تصميم الظروف التي تُنتج الأداء المتميز. ومن هنا جاء التحول المنهجي من ثقافة "التقويم بعد الفعل" إلى ثقافة "الإدارة أثناء الفعل". وبدلًا من أن يُعقد اللقاء بين الرئيس والمرؤوس في نهاية العام لمناقشة تقييمٍ عدديٍّ جامد، أصبح الحوار مستمرًا طوال العام لمراجعة الأهداف، وتحليل التحديات، وتقديم الدعم اللازم للتحسين. هذه النقلة ليست إجرائيةً فقط، بل فكريةً عميقة؛ لأنها حوّلت علاقة الإدارة بالموظف من علاقة “مراقبة” إلى علاقة “شراكة”.

وفي جوهر هذا التحول، تغيّر دور القائد الإداري نفسه؛ لم يعد القائد “مُقيّمًا”، بل أصبح “مديرًا للأداء”، أي شريكًا في النمو والتطوير. إنه لم يعد يحكم، بل يُوجّه، ولم يعد يكتفي بقياس النتائج، بل يُساعد على بنائها. وهنا تتجلى النقلة من Appraiser إلى Performance Coach، ومن “نظامٍ رقابيٍّ” إلى “نظامٍ تنمويٍّ”. هذا التحول يُعيد توزيع الأدوار داخل المؤسسة، فيجعل الأداء مسؤوليةً جماعيةً وليست مسؤولية الرئيس وحده، ويجعل كل موظفٍ مسؤولًا عن أدائه الذاتي بقدر ما هو مسؤولٌ عن أداء الفريق والمؤسسة.

إنّ إدارة الأداء الحديثة لا تلغي القياس، لكنها تُعيد تعريفه. فبدلًا من أن يكون غايةً بحد ذاته، أصبح وسيلةً للتعلّم والتحسين. فكل مؤشرٍ يُقاس يجب أن يُفَسَّر، وكل نتيجةٍ تُحلَّل لتُترجم إلى قرارٍ تطويريٍّ عمليٍّ. وهكذا يُصبح القياس جزءًا من دورةٍ تعلميةٍ مستمرةٍ تتكوّن من أربع مراحلٍ متكاملة: التخطيط → التنفيذ → المراجعة → التحسين. هذه الدورة هي قلب إدارة الأداء الحديث، لأنها تُحوّل النظام من عمليةٍ جامدةٍ إلى منظومةٍ حيةٍ تتنفس التطوير وتتعلم من ذاتها باستمرار.

وقد برز هذا التحول في التجارب الدولية والعربية المعاصرة على السواء. ففي المملكة العربية السعودية، تمكّن النظام الجديد للأداء الوظيفي من تحويل عملية التقييم إلى إدارةٍ شاملةٍ للأداء عبر اللقاءات الدورية، وخطط التطوير الفردية، وربط النتائج بخطط التدريب والترقي. ولم يعد الهدف هو “الدرجة السنوية”، بل بناء علاقةٍ متبادلةٍ من التعلّم والثقة بين القائد والموظف. أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد تجسّد هذا التحول في نظام إدارة الأداء الحكومي الاتحادي (EPMS) الذي يقوم على إدارة الأداء عبر مراحلٍ ثلاث: التخطيط، المراجعة، التقييم، مع اعتماد الحوار المستمر كركيزةٍ رئيسةٍ للنجاح. وهكذا انتقل الأداء من دائرة القياس إلى دائرة التطوير، ومن ورقة التقييم إلى منصة التمكين.

وفي الفكر الإداري العالمي، مثّل هذا التحول نقطة التقاءٍ بين علم النفس التنظيمي ونظرية الأنظمة المعقدة (Complex Systems Theory). فالأداء لم يعد يُفهم كمجموعة مؤشراتٍ منفصلةٍ، بل كنظامٍ مترابطٍ يتأثر بعوامل القيادة، والثقافة، والتواصل، والبيئة. وهذا ما أكده “بيتر سنج” في نظريته حول المنظمة المتعلمة (The Learning Organization)، حين أوضح أن الأداء الحقيقي لا يُدار من خلال الرقابة، بل من خلال بناء القدرات الجماعية على التعلّم والتحسين. ومن هنا، فإنّ إدارة الأداء في جوهرها ليست أداة تقييم، بل أداة تعلمٍ مؤسسيٍّ ديناميكيٍّ يقود إلى النضج التنظيمي المستدام.

إنّ هذا التحول من القياس إلى الإدارة لا يغيّر فقط أدوات العمل، بل يغيّر فلسفة الإدارة ذاتها. فهو يُحوّل المدير من مراقبٍ إلى موجه، والموظف من منفذٍ إلى شريكٍ في الإنجاز، والمؤسسة من بيروقراطيةٍ إلى كيانٍ متعلمٍ متطورٍ يتغذى من ذاته. إنه التحول من عقلية “التقييم للجزاء” إلى عقلية “الإدارة للتنمية”، من رد الفعل إلى الفعل الواعي، ومن التبعية إلى التمكين. ومع هذا التحول، تُصبح إدارة الأداء ليست مجرد وسيلةٍ لتحسين الكفاءة، بل إطارًا لبناء الثقة، وتحرير الطاقات، وتعميق المعنى في بيئة العمل، لتتحول المؤسسة من آلةٍ تُنتج إلى مجتمعٍ يُبدع ويزدهر.


🎯 تغيّر الغاية: من المحاسبة إلى التطوير

Changing the Purpose – From Accountability to Development


حين نمعن النظر في فلسفة إدارة الأداء، ندرك أن التحول الحقيقي فيها لم يكن في الأدوات أو النماذج أو مؤشرات القياس، بل في الغاية التي تحرك النظام بأكمله. فقد كانت الغاية في الماضي هي “المحاسبة”، أي التحقق من مدى التزام الفرد بالمعايير المحددة، ومعاقبته أو مكافأته وفق النتيجة. أما اليوم، فقد أصبحت الغاية هي “التطوير”، أي تمكين الفرد من النمو والتحسن المستمر، وتحويل التقييم من نهايةٍ إلى بداية، ومن حكمٍ إلى رحلة تعلمٍ متجددة. وبين هاتين الغايتين، يكمن الفرق بين الإدارة التي تُخيف والقيادة التي تُلهم، بين المؤسسة التي تُراقب والأخرى التي تُنمّي.

لقد كانت فلسفة المحاسبة تقوم على فكرة أن الإنسان لا يعمل إلا تحت التهديد أو المكافأة، وأن الأداء الجيد يُنتزع بالتحفيز الخارجي لا بالوعي الداخلي. ولهذا كان النظام يُبنى على منطق “الثواب والعقاب”، فيُقيّم الموظف بناءً على مدى التزامه بالتعليمات، لا على قدرته على الإبداع والتطور. وكان التقييم في جوهره عملية رقابةٍ تُمارس من الأعلى إلى الأدنى، تُسجّل الأخطاء أكثر مما تُضيء النجاحات، وتُركز على النتيجة النهائية أكثر مما تُعنى بالرحلة التي أوصلت إليها. وهكذا تحوّل النظام إلى أداةٍ للسيطرة، تُقاس فيها الطاعة قبل الكفاءة، والخضوع قبل الإتقان.

غير أن هذا المنطق بدأ يتهاوى حين أدركت المؤسسات أن الخوف لا يصنع الإتقان، وأن الإنسان لا يُبدع إلا في بيئةٍ يشعر فيها بالأمان والثقة. فالخوف قد يُنتج التزامًا مؤقتًا، لكنه لا يُنتج ولاءً أو انتماءً، وقد يُحرّك الجسد، لكنه يُطفئ الروح. ومن هنا جاءت النقلة المفاهيمية الكبرى: أن إدارة الأداء يجب أن تُبنى على فلسفة التطوير لا المحاسبة، وعلى مبدأ “التغذية الراجعة للتعلّم” لا “التغذية الراجعة للحكم”. فالغاية لم تعد محاسبة الفرد على ما لم يفعله، بل مساعدته على تحقيق ما يمكن أن يفعله.

هذا التحول في الغاية انعكس على كل تفصيلةٍ في النظام المؤسسي. فبدلًا من أن تكون جلسة التقييم نهاية العام “جلسة حسابٍ” مليئة بالتوتر، أصبحت “جلسة تطويرٍ” تُدار بالحوار والتأمل المشترك في الفرص المستقبلية. وبدلًا من أن يُكتب التقرير ليرفع إلى الموارد البشرية فقط، أصبح يُستخدم كخطة نموٍّ فرديةٍ تُوجّه الموظف وتساعده على بناء مسارٍ مهنيٍّ طويل الأمد. بل إن بعض المؤسسات الرائدة باتت تُطلق على هذه الجلسات اسم “لقاءات التقدّم” (Progress Meetings)، في إشارةٍ إلى أن التقييم لم يعد حدثًا سنويًا، بل رحلة تطورٍ مستمرةٍ ترافق الموظف طوال العام.

ولأن الغاية تحكم الوسيلة، فقد تغيرت أدوات التقييم نفسها. ففي النظم الحديثة — مثل النظام الإماراتي لإدارة الأداء (EPMS) والنظام السعودي للائحة الأداء الوظيفي — أصبحت اللقاءات الدورية وخطط التطوير الفردية جزءًا جوهريًا من العملية. فالقائد لا يُقوّم فقط، بل يُعلّم ويوجه، ويُصبح شريكًا في النمو لا حكمًا على الجهد. وهذا التحول يجعل عملية التقييم أكثر إنسانيةً وفاعليةً؛ لأنها تنظر إلى الموظف كـ “مشروعٍ متطورٍ” لا كـ “ملفٍ منتهٍ”، وتتعامل مع الأخطاء كمصادر تعلمٍ لا كمبرراتٍ للعقوبة.

ومن أهم مظاهر هذا التحول كذلك أن معيار النجاح لم يعد هو “تفادي الخطأ”، بل “تحقيق النموّ”. فالموظف الذي يخطئ ويتعلم ويتحسن أصبح يُقدّر أكثر من الموظف الذي لا يُخطئ لأنه لا يُجرّب. فالثقافة الجديدة ترى في الخطأ فرصةً للابتكار، وفي الملاحظة مجالًا للتطوير، وفي الحوار مسارًا للنضج. ولذلك فإنّ المؤسسات الحديثة تُشجع الموظفين على التعلّم من الفشل بقدر ما تُكافئهم على النجاح، لأنها تدرك أن الفشل الذي يُنتج معرفةً هو فشلٌ منتجٌ يُسهم في النضج الجماعي للمؤسسة.

ولأن التطوير غايةٌ ساميةٌ لا تتحقق بالصدفة، فقد أصبحت المؤسسات تُصمّم أنظمة إدارة الأداء بحيث تُغذّي جميع عمليات التطوير الأخرى. فنتائج الأداء تُستخدم لتخطيط برامج التدريب، وتحديد الاحتياجات المهارية، واختيار القيادات المستقبلية، وتوزيع المهام. وهكذا يُصبح الأداء مركز المعرفة الذي تُبنى عليه كل عمليات النمو المؤسسي. وهذا ما يجعل إدارة الأداء في النظم المتقدمة ليست مجرد جزءٍ من إدارة الموارد البشرية، بل قلبها النابض الذي يربط كل خيوطها ببعضها البعض.

هذا التحول من المحاسبة إلى التطوير هو أيضًا تحوّلٌ في الوعي القيادي. فالقائد الذي يفهم إدارة الأداء بوصفها وسيلةً لبناء الإنسان، لا لمراقبته، يخلق بيئةً يشعر فيها العاملون بأنهم شركاء في الهدف، لا أدواتٍ لتنفيذه. فبدلًا من أن يسأل “من أخطأ؟”، يسأل “ما الذي يمكن أن نتعلمه؟”، وبدلًا من أن يبحث عن المخطئ، يبحث عن السبب، وبدلًا من أن يُصدر الحكم، يُقدّم الدعم. وهذا الوعي هو ما يُحوّل الإدارة من سلطةٍ إلى قيادةٍ، ومن تحكّمٍ إلى تمكينٍ، ومن محاسبةٍ إلى رعايةٍ.

ومن اللافت أن هذا التحول في الغاية يتسق تمامًا مع الرؤية الإسلامية والإنسانية التي تُعلي من قيمة “الإتقان” لا من رهبة “الحساب”، ومن روح “النصح” لا من فكر “العقوبة”. فالإدارة بالمعنى الإنساني هي فنّ الرعاية لا فنّ السيطرة، وهي تربيةٌ مستمرةٌ للعقل والسلوك، لا مجرد ضبطٍ للأداء. ولذلك فإنّ إدارة الأداء الحديثة ليست نظامًا غربيًا محضًا، بل هي امتدادٌ للفكر الإنساني الرفيع الذي يُقدّر الإنسان في جهده، ويُعلي من شأن التعلم، ويُوازن بين العدالة والرحمة.

وفي المحصلة، يمكن القول إنّ التحول من المحاسبة إلى التطوير قد غيّر البوصلة الإدارية بأكملها؛ فلم تعد المؤسسات تسعى إلى أن تكون صارمةً فحسب، بل أن تكون عادلةً ومتعلمةً أيضًا. فالتقييم لم يعد نهاية الطريق، بل بدايته؛ لأنه يفتح بابًا دائمًا للنموّ الذاتي، والتحسين المستمر، والوعي المؤسسي. وهكذا يصبح الأداء في جوهره فعلًا إنسانيًا راقيًا، يُدار بالعقل ويُلهِم القلب، ويجعل من كل مؤسسةٍ مدرسةً للتعلّم، ومن كل موظفٍ رحلةً من الإتقان نحو الكمال.


⚖️ العدالة التنظيمية والثقة المؤسسية كمرتكز للتحول

Organizational Justice and Institutional Trust as the Cornerstone of Transformation


لا يمكن لأي نظامٍ لإدارة الأداء أن ينجح مهما بلغت دقته التقنية أو كفاءته الإجرائية، ما لم يُبنَ على قاعدةٍ صلبةٍ من العدالة والثقة. فالعدالة التنظيمية ليست مجرد قيمةٍ أخلاقيةٍ تُزيّن السياسات، بل هي شرطٌ وجوديٌّ لأي نظامٍ يراد له أن يكون فاعلًا ومستدامًا. والثقة المؤسسية ليست نتيجةً تُنال بعد التطبيق، بل هي الأساس الذي يبدأ منه كل تحولٍ حقيقيٍّ في الفكر والسلوك. فحين يشعر الموظف أن نظام الأداء منصفٌ وشفافٌ، فإنه يلتزم به طوعًا، ويُحوّله إلى سلوكٍ ذاتيٍّ نابعٍ من الإيمان بعدالته. أما حين يشعر بأنه نظامٌ ظالمٌ أو غامضٌ أو مُوجَّهٌ، فإنه يُحوّله إلى عبءٍ إداريٍّ يتعامل معه كواجبٍ شكليٍّ لا كمنهجٍ للتحسين.

العدالة في إدارة الأداء ليست شعارًا نظريًا، بل ممارسةٌ دقيقةٌ تتجلى في كل خطوةٍ من خطوات النظام. فهي تبدأ من وضوح المعايير، وتمتد إلى شفافية التواصل، وتنتهي عند نزاهة القرار. فحين تُعلن المؤسسة معاييرها قبل التقييم، وتُوضح أسس الحكم، وتُتيح المجال للموظف كي يعرض وجهة نظره، فإنها لا تضمن فقط سلامة العملية، بل تبني الثقة في جوهر العلاقة بين القائد والمرؤوس. فالإنسان بطبيعته يقبل حتى القرارات الصعبة ما دام يشعر بأنها اتُّخذت بإنصافٍ واحترامٍ وتقديرٍ. أما الظلم الإداري فهو السمّ الذي يقتل روح الأداء، لأنه يُحوّل المؤسسة من بيئةٍ محفزةٍ إلى بيئةٍ خانقةٍ تُطفئ الحماس وتُضعف الانتماء.

وقد أثبتت دراسات علم النفس التنظيمي أن العدالة التنظيمية ليست فقط مسألة أخلاقية، بل هي عاملٌ مباشرٌ في رفع الأداء والإنتاجية. فحين يشعر الموظف بالإنصاف، يزيد دافعه الداخلي بنسبةٍ تصل إلى 40% مقارنةً بمن يشعر بالتحيز أو التمييز. ذلك لأن العدالة تُغذي الإحساس بالأمان النفسي، وتُزيل الخوف، وتُحرّر الطاقة الذهنية من الدفاع إلى الإبداع. فالعدالة تُبدد القلق، والقلق يستهلك الإبداع. ومن هنا، فإن العدالة ليست فقط واجبًا قيميًا، بل استراتيجية أداءٍ فعّالةٍ تُعادل في تأثيرها أي نظام حوافزٍ ماديٍّ أو مكافآتٍ مالية.

أما الثقة المؤسسية فهي الوجه الآخر للعدالة، بل يمكن القول إنها ثمرة العدالة وميزانها في آنٍ واحد. فالمؤسسة التي تُعامل أفرادها بإنصافٍ تزرع فيهم الثقة، والثقة حين تُزهر تُعيد إنتاج العدالة في كل مستوى من مستوياتها. إنها دائرةٌ إيجابيةٌ تُغذي نفسها باستمرار. والثقة هنا ليست مجرد شعورٍ عاطفيٍّ، بل هي رأس مالٍ إداريٍّ حقيقيٍّ يقاس ويُدار ويُبنى بالتراكم. فالثقة هي ما يجعل الموظف يُصدق نوايا الإدارة، ويتقبل ملاحظاتها، ويشارك في تطوير النظام بدلاً من مقاومته. وحين تغيب الثقة، تصبح كل محاولةٍ للإصلاح موضع شكٍّ، وكل مبادرةٍ محل تهمة، وكل تقييمٍ يُفسَّر كاستهداف. وهكذا تنهار العلاقة الجوهرية التي يقوم عليها نظام الأداء: علاقة التبادل المعرفي والنمو المشترك.

وتُظهر التجارب الإدارية في العالم العربي أن العدالة والثقة ليستا شعاراتٍ تُضاف للنظام، بل مكوناتٌ أساسيةٌ صرّحت بها اللوائح الوطنية نفسها. ففي اللائحة التنفيذية للأداء الوظيفي في المملكة العربية السعودية، ورد نصٌّ صريحٌ يؤكد أن الهدف من النظام هو “تحقيق العدالة التنظيمية في تقييم الموظف وفق معايير موضوعيةٍ معلنةٍ وواضحةٍ”. أما نظام إدارة الأداء الحكومي في الإمارات العربية المتحدة (EPMS)، فقد جعل “العدالة والشفافية” إحدى القيم الثلاث الحاكمة للنظام إلى جانب التطوير والتحفيز. وهذان النموذجان يؤكدان أن التحول من التقييم إلى الإدارة لا يمكن أن يتم إلا في بيئةٍ مؤسسيةٍ يُحكمها الإنصاف والثقة المتبادلة.

ولكي تُبنى العدالة عمليًا، لا بد أن تتحول من قيمةٍ مجردةٍ إلى سلوكٍ إداريٍّ ملموسٍ. فالقائد العادل لا يُساوي بين المختلفين، بل يُفرّق بين المستحقين، لأن العدالة ليست المساواة المطلقة، بل إعطاء كل ذي حقٍ حقه بإنصافٍ. والقيادة العادلة تُدرك أن العدل ليس فقط في القرار، بل في الطريق إليه: في المعلومة التي تصل، في التوقيت الذي يُعلن فيه الحكم، في الأسلوب الذي يُقدّم به النقد. إنّ العدالة تبدأ من الحوار وتنتهي بالثقة، والثقة تبدأ من الصدق وتنتهي بالولاء. وهكذا تُصبح العدالة والثقة كجناحين لا يمكن لإدارة الأداء أن تُحلّق بدونهما، لأن كسر أحدهما يُسقط النظام بأكمله في هوةٍ من الشك والجمود الإداري.

إنّ العدالة التنظيمية تُجسّد المعنى الأخلاقي للإدارة، والثقة المؤسسية تُجسّد معناها الإنساني. فالإدارة بلا عدالةٍ تُصبح سلطةً قهريةً، وبلا ثقةٍ تُصبح بيروقراطيةً عقيمةً. أما حين تجتمع العدالة والثقة، فإن الأداء يتحول من واجبٍ إلى التزامٍ، ومن التزامٍ إلى شغفٍ، ومن شغفٍ إلى ثقافةٍ. وحين تتحول العدالة والثقة إلى ثقافةٍ مؤسسيةٍ، تُصبح الأخطاء فرصًا للتحسين، والملاحظات أدواتٍ للتطوير، والتقييم حوارًا شفافًا لا مواجهةً متوترة. وهنا فقط تُولد بيئة الأداء الصحيّة التي تُنبت الإبداع، وتحتضن التنوّع، وتُكرّم الإنسان قبل الإنجاز.

وهكذا يتضح أن العدالة والثقة ليستا فقط ركيزتين من ركائز إدارة الأداء، بل هما روحها وسرّ فاعليتها. فبدونهما، يتحول النظام إلى ورقةٍ جافةٍ تُوقّع، وبحضورهما، يتحول إلى حركةٍ نابضةٍ تُلهِم. العدالة تضمن أن تكون القواعد منصفةً، والثقة تضمن أن يكون التطبيق رحيمًا، والمزج بينهما يصنع الإدارة الرشيدة التي توازن بين الصرامة والإنسانية، بين المعيار والرحمة، بين القانون والقلب. وهذا التوازن هو ما يُميز إدارة الأداء بوصفها فلسفةً قياديةً قبل أن تكون نظامًا إداريًا.


🧠 التحول المنهجي: من النماذج الخطية إلى الأنظمة التفاعلية

Methodological Transformation – From Linear Models to Interactive Systems


حين نتحدث عن التحول المنهجي في إدارة الأداء، فإننا لا نتحدث عن تطويرٍ في الأدوات أو تحسينٍ في الإجراءات، بل عن إعادة بناءٍ للفكر الإداري الذي يقوم عليه النظام كله. فكل نظامٍ إداريٍّ يعكس في جوهره تصورًا فلسفيًا عن الإنسان والعمل والعلاقة بينهما. والنماذج الخطية القديمة كانت تنظر إلى الأداء بوصفه سلسلةً من المراحل المتتابعة ذات اتجاهٍ واحد: تخطيط → تنفيذ → تقييم → جزاء. هذه النماذج افترضت أن السلوك البشري يمكن ضبطه بالمدخلات والمخرجات، كما تُضبط الماكينات الصناعية، وأن الإدارة تستطيع التحكم الكامل في الأداء من خلال تحديد الأوامر وقياس النتائج. لكن الواقع أثبت أن المؤسسات ليست خطوط إنتاجٍ ميكانيكية، بل كائناتٌ بشريةٌ معقدةٌ تتفاعل فيها القيم والدوافع والمعرفة والعلاقات. ومن هنا وُلدت الحاجة إلى نموذجٍ جديدٍ يفهم الأداء كمنظومةٍ حيةٍ لا كمخططٍ خطيٍّ جامدٍ.

في النموذج الخطي، كانت العلاقة بين القائد والموظف علاقة إرسالٍ واستقبالٍ، فيها من يعطي التعليمات ومن ينفذها، ومن يُصدر التقييم ومن يتلقاه. أما في الأنظمة التفاعلية الحديثة، فقد تحولت العلاقة إلى حوارٍ مستمرٍ وتغذيةٍ راجعةٍ متبادلةٍ، حيث يُشارك الموظف في وضع الأهداف، ويُسهم في تفسير النتائج، ويُصبح طرفًا فاعلًا في إدارة أدائه لا مجرد موضوعٍ للتقييم. هذا التغير في البنية جعل إدارة الأداء تتحول من “نظامٍ إداريٍّ” إلى “نظامٍ تعلميٍّ”، ومن ممارسةٍ رقابيةٍ إلى ممارسةٍ تشاركيةٍ.

النموذج الخطي كان يُدار من الأعلى إلى الأسفل، في حين أن النظام التفاعلي يُدار في كل الاتجاهات. فالتغذية الراجعة لم تعد تأتي من الرئيس فقط، بل من الزملاء والمرؤوسين والعملاء الداخليين والخارجيين أيضًا، في ما يُعرف اليوم بـ نظام التقييم بزاوية 360 درجة. هذا التحول أوجد وعيًا جديدًا بأن الأداء ليس ظاهرةً فرديةً يمكن تقييمها بمعزلٍ عن منظومة العلاقات التي تؤثر فيها. فالأداء يُبنى في بيئةٍ من التعاون والتكامل، ولا يمكن فهمه إلا من خلال تحليل هذا التفاعل المستمر بين الأفراد والفرق والوحدات التنظيمية.

وقد ساهمت التطورات التكنولوجية في ترسيخ هذا التحول المنهجي، إذ أتاحت الأنظمة الرقمية والذكاء الاصطناعي القدرة على جمع البيانات في الزمن الحقيقي (Real-Time Data) وتحليلها بشكلٍ مستمرٍ لتقديم مؤشراتٍ فوريةٍ حول الأداء. لم يعد التقييم حدثًا سنويًا، بل أصبح عمليةً مستمرةً تدور على مدار العام عبر المنصات الرقمية ولوحات القيادة (Dashboards) التي تُظهر مؤشرات الأداء الفردي والجماعي والمؤسسي لحظةً بلحظة. وهكذا تحول مفهوم “التقييم الدوري” إلى “إدارة لحظيةٍ للأداء”، تُتيح للمؤسسة أن تتعلم من نفسها باستمرار وأن تُصحّح مسارها وهي تتحرك.

إنّ التحول من النماذج الخطية إلى الأنظمة التفاعلية يعني أن الأداء لم يعد يُدار بالعقود الورقية، بل بالعلاقات الذكية. فبدلًا من الخطوط المستقيمة التي تربط بين الرؤساء والمرؤوسين، أصبح النظام أشبه بشبكةٍ حيةٍ من التفاعلات، يتدفق فيها التواصل في كل الاتجاهات. هذه الشبكة لا تُدار بالأوامر، بل تُنسَّق بالمعلومة، ولا تُضبط بالعقوبة، بل تُحفَّز بالمعنى. إنها بيئةٌ معرفيةٌ مفتوحةٌ تُعيد تعريف القيادة والإدارة والتقييم في ضوء مبادئ “التمكين” و“المشاركة” و“الشفافية”.

في هذا النموذج التفاعلي، لم يعد الأداء شأنًا إداريًا فقط، بل أصبح شأنًا ثقافيًا ومعرفيًا أيضًا. فالمؤسسة التي تُدير أداءها بهذه الطريقة تُنشئ ثقافةً منفتحةً على التعلم الجماعي والتفكير المنظومي، حيث يرى كل موظفٍ نفسه جزءًا من الصورة الكلية، لا ترسًا في آلةٍ معزولة. وهنا تبرز قيمة “الترابط المؤسسي” (Institutional Interconnectedness) الذي يجعل كل هدفٍ فرديٍّ مرتبطًا بهدفٍ مؤسسيٍّ أعلى، وكل جهدٍ شخصيٍّ متصلاً برسالة المؤسسة الكبرى.

لقد ساهمت المدارس الإدارية الحديثة في بلورة هذا التحول الفكري، فمدرسة “الإدارة القائمة على الأهداف (MBO)” التي قدمها “بيتر دركر” كانت أول محاولةٍ لتجاوز الخطية الجامدة، حين ربطت الأهداف الفردية بالأهداف الاستراتيجية للمؤسسة. ثم جاءت “نظرية الأنظمة المفتوحة (Open Systems Theory)” لتؤكد أن المؤسسات تتعلم وتتطور من خلال تفاعلها المستمر مع بيئتها الداخلية والخارجية. وبعدها قدّمت “المنظمة المتعلمة (Learning Organization)” عند “بيتر سنج” رؤيةً أكثر عمقًا، حيث يُصبح الأداء أداةً لتوليد المعرفة، لا فقط لقياسها. وهكذا تطورت إدارة الأداء من نظامٍ إداريٍّ يُراقب إلى نظامٍ فكريٍّ يُعلّم ويُعيد إنتاج ذاته.

وفي السياق العربي، نجد أن هذا التحول المنهجي قد انعكس بوضوحٍ في الأنظمة الحديثة للمؤسسات الحكومية الكبرى. ففي المملكة العربية السعودية، تم الانتقال من نموذج التقييم الورقي السنوي إلى نموذجٍ رقميٍّ تفاعليٍّ يُدار من خلال اللقاءات الدورية والتقارير الإلكترونية التي تُمكّن الموظف من متابعة أدائه عبر منصةٍ رقميةٍ شفافة. أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد تم بناء النظام الاتحادي لإدارة الأداء على مفهوم “الحوار المستمر” بين الرئيس والموظف، وهو ما يُجسّد فعليًا التحول من النموذج الخطي إلى النموذج التفاعلي. هذه الممارسات لم تغيّر شكل النظام فقط، بل غيّرت سلوك القيادة وطبيعة الثقافة المؤسسية بأكملها.

إنّ النظم التفاعلية لإدارة الأداء لا تكتفي بقياس الإنجاز، بل تُحلّله وتُفسّره وتُحوّله إلى معرفةٍ يمكن البناء عليها. فهي تفتح المجال للابتكار من خلال إشراك الجميع في التفكير في الأداء وتحسينه. فكل تغذيةٍ راجعةٍ تُصبح معلومة، وكل معلومةٍ تُصبح درسًا، وكل درسٍ يُصبح تحسينًا جديدًا. وهكذا يتحول الأداء إلى حلقةٍ متصلةٍ من التعلم والتطبيق، لا إلى دائرةٍ مغلقةٍ من التقييم والعقوبة.

ويُمكن القول في ختام هذا المحور إنّ التحول المنهجي من النماذج الخطية إلى الأنظمة التفاعلية يُمثل جوهر النضج الإداري الحديث. فهو الذي ينقل إدارة الأداء من الورق إلى الوعي، ومن التقارير إلى التفاعل، ومن المخرجات إلى المعاني. وهو الذي يُعيد للإنسان مكانته كشريكٍ في صناعة الأداء لا كمجرد موضوعٍ له، ويُعيد للمؤسسة قدرتها على التعلم الذاتي المستمر الذي يُعدّ أساس الاستدامة والتميز. فحين تتحول الإدارة من “نظامٍ لتقييم الناس” إلى “منظومةٍ لتعلّم الناس”، تكون المؤسسة قد خطت أولى خطواتها نحو المستقبل.


🌍 الأطر الدولية في إدارة الأداء: من المدرسة الأمريكية إلى النموذج الأوروبي

International Frameworks of Performance Management – From the American School to the European Model


حين نتأمل في تطور الفكر الإداري العالمي، ندرك أن إدارة الأداء لم تتطور في فراغ، بل كانت انعكاسًا لمدارس فكريةٍ متباينةٍ في رؤيتها للإنسان والعمل والمؤسسة. فكل مدرسةٍ إداريةٍ حملت فلسفةً ضمنيةً عن طبيعة العلاقة بين القائد والموظف، بين السلطة والإبداع، بين النتائج والقيم. ومن هنا فإن فهم الأطر الدولية في إدارة الأداء ليس دراسةً تقنيةً للأدوات والأساليب، بل هو تحليلٌ ثقافيٌّ وفلسفيٌّ لفهمٍ إنسانيٍّ متراكمٍ عن معنى الأداء ذاته.

لقد كانت المدرسة الأمريكية في القرن العشرين هي الحاضنة الأولى لنشوء مفهوم “تقييم الأداء” الحديث، إذ تأسست على روح الاقتصاد الصناعي الكمي الذي يُقدّس القياس والدقة. فمع ظهور الإدارة العلمية على يد “فريدريك تايلور” في بدايات القرن، ثم تطوير مفاهيم التحفيز والإنتاجية لدى “إلتون مايو” و“دوغلاس ماكغريغور”، بدأت الشركات الأمريكية الكبرى تبحث عن وسيلةٍ منهجيةٍ لربط الجهد الفردي بالمخرجات التنظيمية. ومن هنا نشأت أنظمة “Appraisal Systems” التي كانت تركّز على تقييم الكفاءة الفردية وتحديد الأجور والترقيات على أساس الأداء. وقد تميزت المدرسة الأمريكية في تلك المرحلة بالتركيز على النتيجة الكمية، واعتبار الأرقام المؤشر الأعلى للقيمة.

ومع نمو الاقتصاد الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، دخلت الشركات مرحلةً جديدةً من التوسع، فظهرت الحاجة إلى قياس الأداء على مستوى المنظمة ككل، وليس على مستوى الأفراد فقط. وهكذا وُلد مفهوم الأداء المؤسسي (Organizational Performance) الذي امتد من الإنتاج إلى التسويق والتمويل والقيادة. وقد قاد هذا الاتجاه إلى تطوير أدواتٍ متقدمةٍ مثل بطاقة الأداء المتوازن (Balanced Scorecard) التي قدّمها “كابلان ونورتن” في تسعينات القرن الماضي، وجعلت الأداء منظومةً مترابطةً تربط بين أربعة أبعاد: المالي، والعميل، والعمليات الداخلية، والتعلم والنمو. ومعها تحوّلت إدارة الأداء من نظامٍ وظيفيٍّ ضيقٍ إلى نظامٍ استراتيجيٍّ واسعٍ يُترجم الرؤية المؤسسية إلى أهدافٍ قابلةٍ للقياس والتنفيذ والمراجعة.

لكن المدرسة الأمريكية، رغم نجاحها في تأسيس البنية الكمية للتحليل الإداري، واجهت نقدًا واسعًا في أوروبا بسبب ميلها المفرط إلى الأرقام وإهمالها للبعد الإنساني والاجتماعي للأداء. فالأوروبيون رأوا أن الأداء لا يمكن فهمه فقط من خلال ما يُقاس، بل أيضًا من خلال ما يُعاش ويُحسّ ويُؤمن به داخل المؤسسة. وهكذا نشأت المدرسة الأوروبية في إدارة الأداء التي مزجت بين البعد الاقتصادي والبعد القيمي، وبين المقياس والممارسة، لتؤكد أن الأداء ليس مجرد نتائج بل “علاقات ومعانٍ وتفاعلات”.

وقد تبنّى الأوروبيون منذ منتصف القرن العشرين منهجًا يقوم على فكرة الشراكة الاجتماعية في العمل (Social Partnership in Work)، أي أن الأداء المؤسسي لا يُبنى فقط على الكفاءة الفردية، بل على انسجام العلاقات داخل المؤسسة، وعدالة التوزيع، والالتزام بالقيم الأخلاقية والمجتمعية. ومن رحم هذه الفلسفة وُلدت نماذج مثل النموذج الأوروبي للتميز المؤسسي (EFQM) الذي انطلق في الثمانينات كتعبيرٍ عن رؤيةٍ شموليةٍ للأداء تجمع بين النتائج والعمليات، وبين الأهداف والوسائل، وبين القيمة الاقتصادية والمسؤولية الاجتماعية.

يتميّز النموذج الأوروبي بأنه ينظر إلى الأداء في بعده الشامل، فلا يفصل بين “الوسيلة” و“الغاية”، ولا بين “الأداء الفردي” و“النتائج المجتمعية”. فالمؤسسة وفق هذا النموذج ليست وحدة إنتاجٍ مغلقة، بل منظومة تأثيرٍ تتفاعل مع المجتمع والبيئة، وتتحمل مسؤولية تحقيق التنمية المستدامة إلى جانب الربحية. ومن هنا نجد أن مفهوم الجودة الشاملة (Total Quality Management)، الذي طوّره اليابانيون والأوروبيون، يُعدّ في جوهره فلسفةً لإدارة الأداء الشامل. فالتحسين المستمر، والمشاركة الجماعية، واحترام الإنسان، هي الركائز التي جعلت الأداء قيمةً أخلاقيةً قبل أن يكون هدفًا اقتصاديًا.

أما في مرحلة ما بعد العولمة والتحول الرقمي، فقد بدأت المدارس الفكرية في الشرق والغرب تتقارب تدريجيًا لتُنتج المدرسة الهجينة (Hybrid Model) التي تُدمج بين دقة التحليل الأمريكية وإنسانية الرؤية الأوروبية. فالمؤسسات العالمية اليوم تدير أداءها عبر مزيجٍ من المؤشرات الكمية والمقاييس النوعية، وتربط بين الأرقام والمعاني في منظومةٍ واحدةٍ تُدار بالبيانات لكنها تُوجَّه بالقيم. فالتقييم لم يعد مجرد عمليةٍ حسابيةٍ، بل عملية تعلمٍ مؤسسيٍّ تُترجم الذكاء الرقمي إلى وعيٍ إنسانيٍّ متجددٍ.

وفي هذا الإطار، برزت تجارب عربيةٌ رائدةٌ في تبنّي هذا الدمج الواعي. فقد اعتمدت المملكة العربية السعودية في نظامها الجديد للأداء الوظيفي فلسفةً أمريكيةً في الهيكلة والقياس، لكنها أضافت إليها روحًا قيميةً مستمدةً من العدالة الإسلامية والمواطنة المؤسسية، فجعلت الأداء أداةً لتطوير الإنسان لا فقط لقياسه. أما دولة الإمارات العربية المتحدة فقد تبنّت نموذجًا أقرب إلى المدرسة الأوروبية، إذ وضعت التطوير المستمر، والعدالة، والتحفيز كقيمٍ محوريةٍ في نظام الأداء الحكومي الاتحادي (EPMS)، مع توظيف التقنيات الرقمية الحديثة في المراقبة والتحليل. وهكذا وُلد في العالم العربي نموذجٌ ثالثٌ يُمكن وصفه بـ النموذج العربي للتميز في الأداء (Arab Excellence Model)، الذي يوازن بين العلم والقيم، وبين النظام والروح، وبين التقنية والإنسان.

إنّ المقارنة بين المدرسة الأمريكية والأوروبية لا تُقصد بها المفاضلة، بل الفهم التكميلي. فالأولى تُذكّرنا بأن الأداء يجب أن يُقاس ليُدار، والثانية تُذكّرنا بأن الأداء يجب أن يُفهم ليُنمّى. الأولى تُركّز على النتائج، والثانية تُركّز على الإنسان الذي يصنع النتائج. الأولى تُقدّم المنهج، والثانية تُقدّم الفلسفة، والاثنتان معًا تُشكّلان جناحي إدارة الأداء الحديثة التي تحلّق بهما المؤسسات نحو النضج والاستدامة.

ولعلّ مستقبل إدارة الأداء يكمن في الجمع بين دقة التحليل الأمريكي وإنسانية الفهم الأوروبي، بين الحوكمة الصارمة والرحمة المؤسسية، بين الخوارزمية والضمير. فالمؤسسة التي توازن بين هذه الأبعاد لا تكتفي بأن “تُدير الأداء”، بل تُحوّله إلى وعيٍ جماعيٍّ متجذرٍ في ثقافتها، ومنهجٍ للقيادة يُوجّه الإنسان في رحلته نحو الإتقان.


🇸🇦🇦🇪 نضج إدارة الأداء في المؤسسات العربية

The Maturity of Performance Management in Arab Institutions


حين نتحدث عن نضج إدارة الأداء في المؤسسات العربية، فإننا لا نتحدث عن مرحلةٍ زمنيةٍ متأخرةٍ مقارنةً بالعالم، بل عن تجربةٍ ذات خصوصيةٍ ثقافيةٍ وتاريخيةٍ تفاعلت مع الفكر العالمي بطريقتها، وابتكرت لنفسها مسارًا فريدًا يجمع بين الموروث القيمي العميق والانفتاح على النماذج الحديثة. فالنضج هنا لا يُقاس بالعمر الزمني للنظام، بل بالقدرة على التعلّم من التجارب، والتكيّف مع المتغيرات، وتحويل الأفكار المستوردة إلى ممارساتٍ أصيلةٍ تنبع من واقعنا المحليّ وتستجيب لطبيعة الإنسان العربيّ في بيئته المؤسسية والاجتماعية.

لقد كانت المرحلة الأولى من تبنّي أنظمة إدارة الأداء في العالم العربي مرحلةً تجريبيةً يغلب عليها الطابع الإجرائيّ، حيث سعت المؤسسات إلى نقل النماذج الغربية كما هي، دون مواءمةٍ كافيةٍ للسياق المحلي. فتم اعتماد بطاقات الأداء المتوازن، ونماذج تقييم الأداء السنوي، ومؤشرات الكفاءة الفردية، ولكنها لم تحقق الأثر المرجوّ لأن الثقافة التنظيمية لم تكن قد تهيأت بعد لفلسفة الحوار والشفافية والتغذية الراجعة. كانت العلاقة بين القائد والموظف في كثيرٍ من المؤسسات ما تزال قائمةً على التسلسل الهرميّ الصارم، وكانت مفاهيم المشاركة والمساءلة والتطوير الذاتي ما تزال في بداياتها.

غير أن العقدين الأخيرين شهدا نهوضًا إداريًا عربيًا حقيقيًا أعاد تعريف مفهوم إدارة الأداء في ضوء التحولات الوطنية الكبرى، خاصة في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. فقد أدرك صناع القرار أن إدارة الأداء ليست مجرد أداةٍ للرقابة، بل رافعةٌ استراتيجيةٌ لتحقيق رؤية الدولة وبناء جهازٍ حكوميٍّ فعّالٍ قادرٍ على تحقيق النتائج. ومن هنا بدأ التحول من إدارة “التقويم السنوي” إلى إدارة “الأداء الاستراتيجي”، ومن التقييم الورقي إلى الإدارة الرقمية المتكاملة.

في المملكة العربية السعودية، شكّل صدور اللائحة التنفيذية للموارد البشرية وما تبعها من دليلٍ إرشاديٍّ للأداء الوظيفي نقطة تحولٍ رئيسةٍ في الوعي المؤسسي. فقد تبنّت الدولة نهجًا يقوم على العدالة والشفافية وربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي، من خلال أدواتٍ معياريةٍ موحّدةٍ ومعايير سلوكيةٍ وإنتاجيةٍ واضحة. كما أدخلت مفاهيم جديدة مثل “اللقاءات الدورية”، و“خطط التطوير الفردية”، و“الجدارات السلوكية”، مما جعل التقييم عمليةً مستمرةً تُسهم في بناء القدرات لا فقط في قياس النتائج. ويُلاحظ اليوم أن نضج إدارة الأداء في القطاع الحكومي السعودي قد بلغ مرحلةً متقدمةً من التكامل مع نظام الحوكمة والإصلاح الإداريّ ضمن رؤية المملكة 2030، حيث أصبح الأداء لغةً مشتركةً تربط بين الأهداف الوطنية، والمبادرات المؤسسية، والنتائج الفردية.

أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد مثّل نظام إدارة الأداء الوظيفي الحكومي (EPMS) نموذجًا رائدًا في المنطقة من حيث تكامله وعمقه الإنسانيّ. إذ بُني النظام على فلسفةٍ ترى في الأداء رحلة تطويرٍ تشاركيةٍ بين القائد والموظف، تُدار بالحوار المستمر، والتغذية الراجعة البنّاءة، وخطط النموّ المهنيّ الفردية. وأكدت الأدلة الإرشادية الرسمية أن الغاية من النظام ليست التقييم بل التحسين، وأن العدالة والشفافية هما جوهر كل إجراء. كما أدرج النظام آلياتٍ دقيقةً لضمان الموثوقية في القياس من خلال لجان مراجعة الأداء وتوحيد المعايير بين الجهات الحكومية. وقد انعكست هذه الفلسفة في ارتفاع مستوى الرضا الوظيفي والانتماء المؤسسي، وهو ما جعل التجربة الإماراتية تُصنّف ضمن أكثر التجارب نضجًا في العالم العربي.

في المقابل، بدأت بقية الدول العربية تتجه نحو بناء نماذجها الوطنية الخاصة، مستفيدةً من هذه التجارب الرائدة. ففي المملكة الأردنية الهاشمية ومملكة البحرين وسلطنة عمان، ظهرت مبادرات لإعادة تصميم نظم الأداء بحيث ترتبط بالتخطيط الاستراتيجيّ الحكومي، وتستند إلى الجدارة، والكفاءة، والمساءلة. أما في الجمهورية التونسية والمملكة المغربية، فقد تم دمج مؤشرات الأداء في منظومات الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد لضمان النزاهة والشفافية. كل هذه المحاولات تشير إلى أن الفكر العربي الإداري يعيش لحظة نضجٍ تراكميٍّ، يتجه فيها من “الاستيراد” إلى “الابتكار”، ومن “التطبيق الشكليّ” إلى “التصميم السياديّ”.

ويُعدّ أحد أبرز مظاهر النضج العربي في إدارة الأداء هو الوعي الجديد بأن الأداء لا ينفصل عن القيم. فالمؤسسات العربية حين تبنّت الأنظمة الحديثة، أدركت أن نجاحها مرهونٌ بمدى مواءمتها لثقافة العدالة والاحترام والتكافل التي تُشكّل جوهر الهوية العربية والإسلامية. ولهذا نجد في الأدلة الرسمية السعودية والإماراتية عباراتٍ تؤكد على أن الأداء الجيد لا يُقاس فقط بالمخرجات، بل أيضًا بالسلوك، والانضباط، والالتزام بالقيم المؤسسية. فالأداء في هذه النماذج هو تعبيرٌ عن الأخلاق المهنية بقدر ما هو عن الكفاءة الإنتاجية، وهو ميدانٌ للارتقاء بالإنسان بقدر ما هو وسيلةٌ لتحقيق أهداف المؤسسة.

كما تجدر الإشارة إلى أن التحول الرقمي الذي تشهده المنطقة العربية قد لعب دورًا حاسمًا في رفع نضج أنظمة الأداء. فأنظمة الموارد البشرية الإلكترونية، ومنصات إدارة الأداء الذكية، ولوحات المؤشرات التفاعلية، كلها جعلت المعلومات أكثر شفافية، والقرارات أكثر موضوعية، والتغذية الراجعة أكثر فورية. هذا التحول لم يُحسن فقط كفاءة النظام، بل عمّق الإحساس بالعدالة المؤسسية، لأنه جعل الأداء مرئيًا وقابلًا للتحليل والتطوير في أي وقت.

إنّ نضج إدارة الأداء في العالم العربي اليوم لا يعني الوصول إلى الكمال، بل الوصول إلى الوعي. فالوعي بأن الأداء ليس أداة محاسبةٍ بل وسيلة بناء، وليس رقابةً بل ثقافة، هو ما يجعل المؤسسات العربية على أعتاب مرحلةٍ جديدةٍ من التميّز والاستدامة. مرحلةٍ تُدار فيها المؤسسات بعقولٍ تستشرف، وقلوبٍ تُلهم، ونظمٍ تُعلّم، لتُصبح إدارة الأداء فيها فلسفة حياةٍ قبل أن تكون نظامًا وظيفيًا.

وهكذا يمكن القول إنّ النضج العربي في إدارة الأداء لم يعد مجرد مرحلةٍ من مراحل التطور الإداري، بل أصبح علامةً على تحوّلٍ حضاريٍّ في طريقة تفكيرنا بالإنسان والعمل. فحين تُصبح العدالة والشفافية والتطوير قيمًا يوميةً تمارسها المؤسسات لا شعاراتٍ ترفعها، حينها يمكن أن نقول إنّنا لم نعد نُدير الأداء فقط، بل أصبحنا نُدير الوعي الذي يصنع الأداء.


🚀 إدارة الأداء كمنهجٍ للتحول المؤسسي المستدام

Performance Management as a Framework for Sustainable Institutional Transformation


حين نصل إلى هذا المستوى من الحديث عن إدارة الأداء، لم يعد السؤال هو: "كيف نقيس الأداء؟" بل "كيف نجعل الأداء منهجًا للتحول والاستدامة؟". فالمؤسسات في القرن الحادي والعشرين لم تعد تسعى إلى مجرد تحقيق الأهداف قصيرة المدى، بل إلى بناء قدرةٍ ذاتيةٍ على التطور المستمر والتكيّف الذكيّ مع التغيير. وهذا لا يتحقق إلا حين تتحول إدارة الأداء من نظامٍ يُراقب النتائج إلى فلسفةٍ تُصنع بها المستقبلات. فإدارة الأداء في صورتها الناضجة هي عمليةُ تعلّمٍ مؤسسيٍّ جماعيٍّ تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمؤسسة والزمن.

لقد أصبح واضحًا أن الاستدامة المؤسسية لا تُبنى بالاستراتيجيات وحدها، بل بالأنظمة التي تُحوّل الاستراتيجية إلى سلوكٍ يوميٍّ متجدد. وهنا تظهر إدارة الأداء بوصفها المنظومة التي توصل بين الرؤية والعمل، وبين التخطيط والتنفيذ، وبين الطموح والإنجاز. فالنظام الذي يراقب الأداء ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلةٌ لبناء وعيٍ مؤسسيٍّ قادرٍ على التفكير النقدي والتحليل الذاتي والتحسين المستمر. والمؤسسات التي بلغت هذا النضج لم تعد ترى إدارة الأداء عمليةً سنويةً، بل مسارًا دائمًا من التعلّم التطبيقي والتحول الإداري.

إنّ إدارة الأداء حين تُمارس بمنهجٍ تكامليٍّ تصبح أشبه بعصبٍ حيويٍّ يربط كل أجزاء المؤسسة ببعضها البعض. فهي لا تعمل بمعزلٍ عن التخطيط الاستراتيجي، ولا عن إدارة الموارد البشرية، ولا عن نظم الجودة، ولا عن الحوكمة، بل تُغذّي هذه الأنظمة وتُغذَّى منها في دورةٍ معرفيةٍ مستمرةٍ من الفهم والتحليل والتحسين. وفي المؤسسات الرائدة، أصبحت إدارة الأداء هي اللغة المشتركة التي يتحدث بها الجميع — من القادة إلى العاملين الميدانيين — لأنها تُحوّل الرؤية إلى أرقام، والأرقام إلى معرفة، والمعرفة إلى قرارات، والقرارات إلى نتائج قابلةٍ للقياس والتطوير.

وقد كشفت التجارب الحديثة أن إدارة الأداء المستدامة هي تلك التي تُوازن بين ثلاثية التحول الكبرى:
1️⃣ التحول المعرفي الذي يُعيد صياغة وعي الأفراد والمؤسسات بمعنى العمل والإنجاز.
2️⃣ التحول الرقمي الذي يُوظف التقنية والذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات وصنع القرار.
3️⃣ التحول القيمي الذي يُرسّخ مبادئ العدالة والشفافية والتمكين كقيمٍ مؤسسيةٍ راسخة.

فمن دون المعرفة لا يمكن أن نفهم الأداء، ومن دون التقنية لا يمكن أن نُديره بفعالية، ومن دون القيم لا يمكن أن نحافظ عليه باستدامة. وهذا التكامل بين المعرفة والتقنية والقيم هو ما يُحوّل إدارة الأداء من وظيفةٍ إلى ثقافةٍ، ومن نظامٍ إلى وعيٍ، ومن ممارسةٍ إلى فلسفةٍ مؤسسيةٍ تعيش في كل تفصيلةٍ من تفاصيل العمل.

وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ إدارة الأداء أصبحت اليوم ركيزةً من ركائز التحول المؤسسي في الدول العربية، وخاصة في التجارب السعودية والإماراتية التي ربطت بين إدارة الأداء والتحول الحكومي الشامل. ففي المملكة العربية السعودية، أصبح نظام الأداء جزءًا من منظومة الحوكمة الوطنية، يُستخدم لتوجيه السياسات العامة وقياس فعالية المبادرات والمشروعات المرتبطة برؤية 2030. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تم دمج إدارة الأداء مع منظومة التميز الحكومي الذكية، بحيث أصبحت مؤشرات الأداء مرتبطةً بالأجندة الوطنية، ومتصلةً بأنظمة الذكاء الاصطناعي والتحليل التنبؤي للبيانات، في ما يمكن تسميته اليوم بـ “إدارة الأداء الذكية (Smart Performance Management)”.

إنّ هذا التكامل بين الأداء والتحول الرقمي جعل المؤسسات أكثر وعيًا بديناميكية البيئة وأكثر قدرةً على اتخاذ قراراتٍ مبنيةٍ على البيانات (Data-Driven Decisions)، مما قلّل الفاقد في الموارد ورفع كفاءة الإنجاز. كما ساهم في نقل إدارة الأداء من دورها التقليدي كـ “نظام مراقبة” إلى دورٍ استراتيجيٍّ كـ “نظام توجيهٍ واستشرافٍ”، يُسهم في صياغة المستقبل بقدر ما يُقيّم الماضي. فالمؤسسات الذكية اليوم لا تنتظر التقارير السنوية لتكتشف نقاط ضعفها، بل تتابع مؤشرات أدائها بشكلٍ لحظيٍّ عبر لوحات القيادة الذكية (Dashboards) التي تربط بين الأهداف والمخرجات عبر الزمن الحقيقي.

ولأنّ الاستدامة ليست مجرد بقاءٍ في الزمن، بل تجددٌ فيه، فإنّ إدارة الأداء المستدامة تقوم على مبدأ “التعلم من الأثر”. أي أن كل نتيجةٍ تُحلل لتُصبح مصدرًا لتطوير النظام نفسه، وكل تحدٍّ يُواجه يُعاد توظيفه لتحسين الممارسات والسياسات. وهذا ما يجعل إدارة الأداء المستدامة ليست نظامًا مغلقًا، بل نظامًا متجددًا ذاتيًا (Self-Evolving System) يتعلم من داخله ويتطور من ذاته. فالمؤسسة التي تُجيد إدارة الأداء لا تنتظر الإصلاح من الخارج، لأنها تمتلك في داخلها الآلية التي تُصلحها باستمرار.

ومن زاويةٍ فلسفيةٍ أعمق، فإنّ إدارة الأداء المستدامة تُعيد تعريف القيادة ذاتها. فالقائد في هذا الإطار ليس من يُصدر الأحكام على الأداء، بل من يُلهم الفريق ليبني أداءه بنفسه. والقيادة هنا تتحول من سلطةٍ إلى رعاية، ومن رقابةٍ إلى تمكين، ومن تخطيطٍ للأهداف إلى بناءٍ للمعنى. فالقائد المستدام هو الذي يُحوّل كل تقييمٍ إلى تعلّم، وكل إخفاقٍ إلى فرصة، وكل تحدٍّ إلى حافزٍ للنمو. وهذه الرؤية هي التي تجعل إدارة الأداء أداةً للنهضة لا مجرد آليةٍ للقياس.

ولا يمكن الحديث عن استدامة إدارة الأداء دون الإشارة إلى البعد الإنسانيّ والأخلاقيّ فيها. فالمؤسسة التي تُدير أداءها بذكاءٍ دون رحمة، أو بكفاءةٍ دون إنصاف، قد تحقق نتائجَ مؤقتةً لكنها تفقد رأس مالها الحقيقيّ: الإنسان. فالاستدامة الحقيقية لا تُقاس بعدد المشاريع المنجزة، بل بقدرة المؤسسة على الحفاظ على طاقاتها البشرية وتجديدها بالثقة والتمكين والمعنى. فحين يشعر الموظف أن تقييمه جزءٌ من رحلته نحو النموّ لا مجرد حكمٍ عليه، فإنه يُصبح شريكًا في التغيير لا موضوعًا له.

وهكذا، تتكامل إدارة الأداء المستدامة مع مفاهيم الاقتصاد الأخلاقي والمسؤولية المجتمعية، لتُصبح إطارًا جامعًا للتحول المؤسسي الشامل. فهي تُسهم في بناء مؤسساتٍ متعلمةٍ، مرنةٍ، رقميةٍ، عادلةٍ، وإنسانيةٍ في آنٍ واحد. إنها ليست فقط منهجًا إداريًا، بل فلسفةٌ حضاريةٌ تُترجم وعي الإنسان المعاصر بأنه لا يمكن أن ينجح دون أن يتعلم، ولا أن يتعلم دون أن يُقيم، ولا أن يُقيم دون أن يعدل.

وفي النهاية، يمكن القول إنّ إدارة الأداء في صورتها المستدامة هي ذروة الوعي الإداري الحديث، لأنها تجمع بين التحليل والمنهج، والتقنية والقيم، والقيادة والمعنى. إنها نظامٌ يُدير الأرقام لكنه يُوجّه الإنسان، ويُتابع المؤشرات لكنه يُحرّك الضمائر، ويُسجّل النتائج لكنه يُنتج الثقافة. وهنا فقط تُصبح المؤسسة قادرةً على البقاء والتجدد في عالمٍ متغير، لأن الأداء فيها لا يُدار من الخارج، بل يُستمد من الداخل، من وعي الإنسان ذاته بأنه محور كل تحولٍ ومستقبل كل استدامة.


🪞 الخاتمة التحليلية: من التقييم إلى الوعي – إدارة الأداء كرحلة إنسانية للتحول المؤسسي

Analytical Conclusion – From Appraisal to Awareness: Performance Management as a Human Journey of Institutional Transformation


حين ننظر إلى المسار الكامل الذي قطعه مفهوم إدارة الأداء منذ نشأته الأولى، ندرك أننا لا نتحدث عن مجرد تحولٍ في المصطلحات أو الأدوات، بل عن رحلةٍ عميقةٍ في وعي الإنسان ذاته بدوره في العمل والمؤسسة والحياة. فقد بدأت القصة من سؤالٍ بسيطٍ ظاهريًا: كيف نقيس الأداء؟ لكنها انتهت إلى سؤالٍ أعظم وأكثر جوهرية: كيف نبني الإنسان الذي يصنع الأداء؟ وبين هذين السؤالين تحوّلت الإدارة من فنّ السيطرة إلى علم التمكين، ومن منطق المحاسبة إلى فلسفة التطوير، ومن ثقافة الخوف إلى ثقافة الثقة. وهنا يكمن المعنى الأعمق للتحول الإداريّ الذي يعيشه عالمنا اليوم — التحول من إدارة الأشياء إلى إدارة الوعي.

إنّ إدارة الأداء ليست في حقيقتها نظامًا إداريًا بل انعكاسٌ لرؤية المؤسسة عن نفسها وعن الإنسان الذي يعمل فيها. فحين ترى المؤسسة موظفيها كأدواتٍ للإنتاج، تصمم نظامًا رقابيًا صارمًا يُحاصرهم بالمعايير والعقوبات. أما حين تراهم شركاء في البناء، فإنها تُصمم نظامًا تشاركيًا قائمًا على الحوار، والتغذية الراجعة، والتعلّم المستمر. ومن هنا، يمكن القول إنّ إدارة الأداء هي مرآة الثقافة المؤسسية، تكشف ما إذا كانت المؤسسة تعيش منطق السيطرة أم منطق التنمية، ما إذا كانت تُدير موارد بشرية أم تبني طاقات بشرية.

لقد أوضح المقال أن هذا التحول المفاهيمي لا يمكن أن يُفهم إلا من خلال قراءةٍ تكامليةٍ لعدة أبعادٍ مترابطةٍ: البعد التاريخي، والمنهجي، والإنساني، والتقني، والقيمي. فالجذور التاريخية بيّنت لنا أن إدارة الأداء لم تولد فجأة، بل تطورت تدريجيًا عبر مراحل من التقييم الكلاسيكي إلى الإدارة التفاعلية. أما التحول المنهجي من النماذج الخطية إلى الأنظمة التفاعلية، فقد كشف أن الإدارة الحديثة لم تعد تقبل الفكر الجامد أو التراتبي، بل أصبحت تتغذى على الحوار والبيانات والتعلم اللحظي. وفي البعد القيمي، رأينا أن العدالة والثقة ليستا مجرد مكملات، بل هما روح النظام وسرّ استمراره، لأن الأداء بلا عدالةٍ يتحول إلى خوف، وبلا ثقةٍ يتحول إلى شكلٍ بلا معنى.

أما البعد الدولي فقد أظهر أن إدارة الأداء ليست ملكًا لمدرسةٍ واحدةٍ، بل هي حصيلة تفاعلٍ حضاريٍّ بين الشرق والغرب. فالمدرسة الأمريكية قدّمت أدوات القياس، والمدرسة الأوروبية قدّمت إنسانية المعنى، والمدرسة العربية الناشئة اليوم تسعى إلى أن تدمج بين الاثنين في إطارٍ قيميٍّ أخلاقيٍّ مستمدٍ من تراثنا الحضاريّ. وهذا التزاوج بين التقنية والقيم هو ما يُعطي النموذج العربي فرادته وطاقته المستقبلية. فالمؤسسة العربية التي تتبنّى هذا الفكر لا تُقلّد، بل تُعيد إنتاج النموذج الإداري بلغةٍ محليةٍ ووعيٍ عالميٍّ في آنٍ واحد.

وفي المحور الأخير، تجلّى لنا أن إدارة الأداء حين تبلغ النضج، تتحول من نظامٍ وظيفيٍّ إلى إطارٍ للتحول المؤسسيّ المستدام. فهي تُصبح وسيلةً لإعادة هندسة العلاقات داخل المؤسسة، ولربط الإنسان بالمعنى، وربط المؤشرات بالغاية الكبرى. وهذا التحول ليس تنظيميًا فحسب، بل وجوديٌّ أيضًا، لأنه يُعيد تعريف دور الإدارة نفسها: من كونها أداة ضبطٍ إلى كونها وسيلة إحياءٍ. فالإدارة في جوهرها ليست تقنيةً لتسيير العمل، بل فنٌّ لتمكين الإنسان من أن يُعبّر عن طاقاته ويُترجم رؤيته في الواقع.

إنّ الخلاصة الكبرى التي يمكن استخلاصها من هذه الرحلة الفكرية هي أن إدارة الأداء الحديثة تمثل تجسيدًا عمليًا لمفهوم “الإتقان” كما ورد في التراث الإسلامي والإنسانيّ. فالإتقان ليس مجرد جودة المخرجات، بل وعيٌ بالمسؤولية، وصدقٌ في النية، وسعيٌ دائمٌ نحو التحسين المستمر. ولذلك فإنّ إدارة الأداء، حين تُمارس بروحها الأصيلة، تُعيد إلى العمل بعده الأخلاقيّ، وتربط الإنجاز بالقيمة، والهدف بالرسالة، والممارسة بالضمير. إنها ليست آليةً لضبط الناس، بل رسالةٌ لبناء الإنسان.

ومن هنا، فإنّ التحدي الأكبر أمام المؤسسات العربية ليس في اقتناء أفضل النظم أو الأدوات، بل في بناء ثقافة الأداء الواعي التي تجعل كل موظفٍ يُدير ذاته قبل أن يُدار، ويُراقب أثره قبل أن يُراقَب، ويعتبر التقييم فرصةً للنمو لا للحكم. فحين تصل المؤسسة إلى هذه الدرجة من الوعي، لا تعود بحاجةٍ إلى رقابةٍ خارجية، لأن الرقابة أصبحت جزءًا من ضميرها المؤسسيّ.

وفي ضوء هذا الفهم، يمكن القول إنّ إدارة الأداء ليست نهاية الطريق الإداري، بل بدايته نحو الإدراك المؤسسيّ الحقيقيّ. فهي الطريق الذي يُعيد الإدارة إلى أصلها الإنسانيّ، ويجعل من كل عمليةٍ إداريةٍ فعلًا تربويًا، ومن كل رقمٍ في لوحة المؤشرات درسًا في الوعي، ومن كل تغذيةٍ راجعةٍ خطوةً نحو النضج. وهكذا تُصبح إدارة الأداء فلسفةً للتطور، ومنهجًا للإصلاح، ومسارًا للاستدامة، لأنها لا تُغيّر الأنظمة فقط، بل تُغيّر طريقة تفكيرنا في العمل ذاته.

وفي المحصلة النهائية، فإنّ كل مؤسسةٍ تتبنى إدارة الأداء بوصفها رحلة وعيٍ مستمرةٍ لا أداة قياسٍ عابرةٍ، تضمن لنفسها البقاء في قلب المستقبل. فالأداء المستدام ليس ما يتحقق في التقارير، بل ما يتجذر في السلوك، وما ينعكس في الثقافة، وما يُثمر في الإنسان. ومن هنا نقول: حين تنجح المؤسسة في أن تجعل من إدارة الأداء لغةً للحوار، وأداةً للتعلم، ومنهجًا للعدالة، تكون قد بلغت قمة النضج الإداريّ، لأنها لم تُحسّن أداءها فحسب، بل ارتقت بوعيها المؤسسيّ إلى مستوى الإتقان.


✍🏻 التوثيق للمحتوى


📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات، ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.

✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد
د. محمد العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية، بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.

📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية،
ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z


🏷️ #إدارة_الأداء #Performance_Management #التقييم_الوظيفي #تطوير_الموارد_البشرية #التميز_المؤسسي #التحول_المعرفي #التحول_الرقمي #القيادة_التحويلية #د_محمد_العامري #مهارات_النجاح #العدالة_التنظيمية #الثقة_المؤسسية #التحول_المنهجي #التخطيط_الاستراتيجي #بطاقة_الأداء_المتوازن #الجودة_الشاملة #EFQM #الأنظمة_التفاعلية #المنظمة_المتعلمة #التحسين_المستمر #التنمية_المؤسسية #الجدارات_السلوكية #الجدارات_القيادية #الثقافة_المؤسسية #الذكاء_الاصطناعي #التحول_المؤسسي #الاستدامة_الإدارية #التميّز_الحكومي #الابتكار_المؤسسي #القيادة_الواعية #التحفيز_المهني #المساءلة_المؤسسية #التطوير_الوظيفي #إدارة_الأداء_الذكية #مهارات_القادة #حوكمة_الأداء #التحول_الإداري #التفوق_المؤسسي #الإتقان_في_العمل

تحميل محتوى الصفحة رجوع