الاستراتيجية فن حديث النشأة أكاديميا ولكنه كأسلوب تفكير وتدبير وتصرف فإنها فن قديم من الناحية التطبيقية والعملية ، حيث مارستة كل الأمم والشعوب التي كان لها هدف ورسالة وغاية تطمح إلى تحقيقها ، وأما القيادات العسكرية والسياسية تحديدا - فقد أدركت أهميه وقيمه وفحوى الاستراتيجية وعرفت معناها وبنت مخططاتها وقراراتها وسلوكياتها وتصرفاتها وفق أسس وخطط استراتيجيه مدروسة ومحكمه ومتقنه غاية الإتقان ، وفي الإسلام فان التخطيط الاستراتيجي كان له الدور الأكبر والحاسم في تحقيق الأهداف والغايات التي جاء من اجلها الإسلام ، فالخطط المحكمة التي وضعها قادة الإسلام- ابتدءا من الرسول القائد – هي كلها كانت أساليب تطبيقيه تدل على عمق التفكير وبعد النظر الاستراتيجي لهؤلاء القادة الأميين الذين فهموا ألاستراتيجيه بالفطرة والسليقة .
انطلقت الإستراتيجيه الاسلاميه من ثوابت العقيدة العسكرية الإسلامية التي تحدثنا عنها والتي كان أهمها القران والسنة ، فهما الموجهان المرشدان لمنفذي هذة الاستراتيجية والتي هي عبارة عن الأساليب والوسائل الموصلة إلى الهدف وبما أنها كذلك فقد اتسمت بالثبات والاستقرار والاتزان ، وان ما يميز مبادئ استراتيجيه العسكرية الاسلاميه ويزيدها ثباتا ، هو اعتراف القادة والخبراء العسكريين الحديثين والمعاصرين بها كمبادئ عسكريه حضارية متطورة ،اتخذت كمناهج تدرس في المدارس العسكرية المعاصرة .
لذا فقد كانت مبادئ الاستراتيجية الاسلاميه هي (مدرسه ) بحق وأضافه نوعيه إلى العلوم والفنون العسكرية تنتهجها المدارس العسكرية وتطبقها القوات على مدار الزمن لتبقى خالدة خلود الإسلام وتبقى ما بقي هذا الدين .
ومن هذة المبادئ ما يلي:
1. التصميم على الهدف والحفاظ عليه:
لقد أوضحنا عند حديثنا عن العقيدة العسكرية الاسلاميه أن الهدف من هذه العقيدة هو نشر الدين وحماية الدعوة ورد الظالمين ، وليس الاعتداء على الآخرين أو ترويعهم ، لذا فقد جعل المسلمون هذا الهدف نصب أعينهم أينما ذهبوا وحيثما حلوا ، مما ساهم وبشكل كبير على الاندفاع والاستمرار في الفتوحات رغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها ألامه سواء على الصعيد الداخلي أو الصعيد الخارجي ، والقدوة في هذا المقام هو محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي كان شديد التمسك بالهدف والغاية ، حيث استمر بنفس الاندفاع والحماس نحو تحقيق هدفه وغايته وهو نشر الدعوة وإبلاغها للناس، رغم الأذى والعذاب النفسي والبدني الذي تعرض له هو وأصحابه خلال مسيرة دعوتهم في مكة والطائف ، والصدود الذي لاقاه حتى من اقرب الناس إليه وهم قبيلته وعشيرته الاقربين .
وتابع الصحابة حفاظهم وحماسهم نحو الأهداف والغايات النبيلة ، فها هو أبو بكر الصديق يمضي بقتال أهل الردة الذين منعوا الزكاة وقال قولته المشهور :(والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه ) ،وستمر الصحابة على ذات النهج ونفس الطريق وهو الحفاظ على الهدف والغاية ، وها هو خالد بن الوليد يؤنب أهل الحيرة ويقرعهم على اختيارهم للجزية فيقول لهم :(تبا لكم ، إن الكفر فلاة مضله فأحمق العرب من سلكها ) ، وذلك لأنه أراد لهم الإسلام ولم يرد لهم الجزية ، واستمر جيش الإسلام يمضي نحو أهدافه وغاياته حتى اكتمل الفتح الإسلامي وخضع معظم العالم المعروف آنذاك إلى الإسلام وانضم تحت لوائة فمن الشام إلى العرق ثم إلى المغرب والأندلس ومن ثم إلى أوروبا وبلاط الشهداء ، والى أقصى الشرق حيث الصين وتخومها ،نعم رغم كل الظروف إلا أن المحافظة على الهدف كانت أعظم مبادئ الاستراتيجية الاسلاميه الناجحة المظفرة .
2.الحرب النفسية:
تلعب الحرب النفسية الدور الأكبر في انتصار الجيوش وتفتيت الأعداء والقضاء على معنوياتهم وتحطيم قوتهم ، وفي الإسلام فان هذا المبداء هو أساس الاستراتيجية القتالية الاسلاميه وذلك لأهميته وقيمته في تحقيق النصر ، وقد أدرك الرسول القائد محمد (صلى الله عليه وسلم) ببصيرته الثاقبة إن المعنويات عنصر هام لابد منه حيث قال (صلى الله عليه وسلم)": جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم ألسنتكم " وهنا بيان لأهمية الحرب النفسية والتي تشن بواسطة وسائل الإعلام المختلفة ، وقال ( صلى الله عليه وسلم) :"إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه " وكان (صلى الله عليه وسلم) يقول لحسان بن ثابت :" ... إذا حارب أصحابي بالسلاح فحارب أنت باللسان " ،وعندما ألقى عبد الله بن رواحه قصيدة بين يدي الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال:" خل عنه يا عمر ، فوالذي نفسي بيدة لكلامه اشد عليهم من وقع النبل" ، يتضح مما سبق أهميه الحرب النفسية وهذا ما أثبتته التجارب والخبرات العسكرية وفنون العلم العسكري على مدار الزمن ، وتزداد أهميه الحرب النفسية عندما يتم شنها قبل بداية الحرب لأنها تؤدي إلى إضعاف القوة وتفتيت التماسك بين الصفوف وإضعاف الإرادة القتالية لدى الخصم ، مما يسهم بتحقيق الانتصار بسرعة وسهوله، وفي
العصر الحديث فان الحرب النفسية تتصدر المكانة الأولى بين الأسلحة التي يمكن أن تستخدمها القوات في المعركة ، وفي ألاستراتيجيه الاسلاميه فقد احتلت الحرب النفسية أهميه كبرى في تحقيق النصر وقد نجح المسلمون نجاحا عظيما في تطبيق هذا المبداء حيث نجح الرسول (صلى الله عليه وسلم) في تفتيت التماسك المعنوي والنفسي لقريش في فتح مكة وحقق النصر دون ان يريق قطرة دم واحدة ودخل مكة مرفوع الهامة عزيزا مكبرا ، وكذلك الحال عندما حقق عليه الصلاة والسلام النصر في تبوك عندما قال :" نصرت بالرعب " ، قال ابن هشام يروي قصه فتح حصون خيبر عن انس بن مالك :" واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم فلما رأوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والجيش ، قالوا محمد والخميس وأدبروا هرابا ، فقال رسول الله : الله اكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " ،وقد أدرك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن ثبات القائد ورباطه جأشه هي عامل نفسي هام في إثبات والنصر وان موقفه في حنين هو خير دليل على ذلك ،عندما فر الجيش ولم يبق حوله احد حيث صاح بالقوم وقال يا معشر الأنصار : فقالوا لبيك يا رسول الله ابشر نحن معك وهو على بغله بيضاء فنزل فقال :" أنا عبد الله ورسوله، ويقول المقوقس عن وفد المسلمين المفاوض :" لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتالهم احد " ، هذا وقد بينت العلوم العسكرية أهميه الحرب النفسية ودورها في تحقيق النصر وتفتيت قوة العدو ، حيث يقول رومل:" إن القائد الناجح هو الذي يسيطر على عقول أعدائه قبل أبدانهم " ، ويقول تشرتشل:" كثيرا ما غيرت الحرب النفسية وجه التاريخ " ، واليوم تدرس الحرب النفسية كجزء هام من الأساليب ألاستراتيجيه التي لأغنى عنها للقوات المسلحة في المدارس العسكرية المختلفة وتدخل في إطار العقائد العسكرية الشرقية والغربية .
3. الحرب السلمية :
ويسميها الخبراء العسكريون "الحرب العادلة" ولتي يكون الغرض منها هو تحقيق السلم واحترام حياة وأملاك الأبرياء وحسن معامله الأسرى والرهائن،والحرب في الإسلام لم تكن يوما إلا من اجل ذلك الهدف السامي وهو تحقيق اسلم لأنها في الأصل حرب دفاعيه لا يبدأها المسلمون غايتها حماية حرية العقيدة وتامين حرية انتشارها بين الناس ورد العدوان ليس الا، ولم تكن غايتها الاعتداء وترويع الآمنين ، فهي كفاح شرف لا يلجاء فيه المقاتلون الى القيام بأي عمل يتنافى مع الأخلاق ومع الشرف ، ففيها احترام للعهد والميثاق وصدق بالوعد والوعيد حيث كان المسلمون يوفون بعهدهم والتزاماتهم الأطراف الأخرى التي يدخلون معها في عهد أو ميثاق ،إن الحرب في الإسلام ليس فيها خيانة أو تمثيل بالقتلى أو أساءه لجرحى أو ترويع للآمنين ،قال تعالى:" وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم * ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ، وحتى الحرب في الإسلام فيها الرحمة والعفو والصفح، قال تعالى :" وان جنحوا للسلم فاجنح لها" ، وان موقف النبي (صلى الله عليه وسلم) في فتح مكة هو دليل على ذلك حيث قال لأشد الناس عداوة له :" اذهبوا فانتم الطلقاء ، وان لا تثريب عليكم اليوم "، فحولهم بعبقريته من أعداء إلى جند مخلصين ، كذلك فان الحرب في الإسلام ليس فيها اكراة أو إجبار على اعتناق لدين،حيث يقول تعالى :" لا اكراة في الدين " وها هو الرسول القائد يوصي جنده المتوجهين للقتال بقوله :"اغزوا باسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله ، اغزوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا " ،أي رحمه بعد هذا ؟ ، إنها منهج عسكري متكامل احتاجته الأمم المتمدنة الراقية حين قاتل بعضها بعضا واستعملت ضد بعضها أقوى وافتك الأسلحة فمات الملايين وتشرد الملايين واغتصب وانتهك عرض الملايين ، انه قول فصل يؤسس لقانون دولي أنساني قبل القوانين الوضعية بمئات السنين، فالقتال في الإسلام ليس غاية ولم يكن كذلك يوما والدليل على ذلك هو ما يقوله ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم) :"حيث يقول:"ما قاتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوما حتى دعاهم "، وقد سار الصحابة الكرام على ذات النهج العظيم ، فها هو أبو بكر الصديق يوصي قائد جندة وهو يستعد لخروج للقتال ، فيقول له :" إذا سرت فلا تعنف أصحابك في السير ولا تغضبهم ، وشاور ذوي الآراء منهم ، واستعمل العدل وباعد عنك الجور ، فانه ما افلح قوم ظلموا وألا نصروا على عدوهم " ،" وإذا نصرتم فلا تقتلوا شيخا ولا امرأة ولا طفلا " ، "ولا تحرقوا زرعا ولا تقطعوا شجرا ولا تذبحوا بهيمة إلا ما يلزمكم للأكل ولا تغدروا اذا هادنتم ولا تنقضوا إذا صالحتم وستمرون على أقوام في الصوامع رهبان ترهبوا لله فدعوهم وما انفردوا اليه وارتضوه لأنفسهم ، ولا تهدموا صوامعهم ولا تقتلوهم ، والسلام " ، وهذا ما سار عليه الخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي أوصى سعد بن أبي وقاص عندما وجهه إلى بلاد فارس ليفتحها قائلا:" أما بعد فاني أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى اله في كل حال فان تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب ، وان تكون أنت ومن معك اشد احتراسا من المعاصي من عدوكم ، فان ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسمون بمعصية عدوهم له ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لان عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم ، فان استوينا في المعصية كان لهم الفضل عينا في القوة وان لم ننصر عليهم بطاعتنا لم نغلبهم بقولنا ، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظه من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وانتم في سبيل الله واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم وأقم بمن معك في كل جمعه يوما وليله حتى تكون لهم راحة يريحون بها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ، وابعد منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق به " .
4. الانضباط العسكري:
إن من أهم أسباب تفوق ونجاح الخطط العسكرية هو مدى التزام الجند بالأوامر والتعليمات الصادرة إليهم وخاصة عندما يشتد القتال وتزداد ضراوة المعركة، وفي الإسلام فان الانضباط الذي بلغه جند الإسلام لم يبلغه قبلهم احد، وعبقرية القائد تظهر بمدى التزام جنده وانضباطهم، حيث يقول سعيد حوى:" ..... لذلك فان ثمانين بالمئه من عبقرية القيادة العسكرية تظهر في انضباط جندها معها في اللحظة الحاسمة " ، وان موقف ألصحابه والتزامهم وانضباطهم عندما أمرهم الرسول(ص) بمقاطعه النفر الثلاثة الذين تخلفوا عن المسير إلى القتال في تبوك - حتى من اقرب الناس إليهم -، لهو دليل قاطع لا شك فيه على الانضباطية العالية والالتزام ، وما هذه الانتصارات العظيمة التي حققها جند الإسلام على إمبراطوريه فارس وروما إلا نتاج الالتزام واحترام الأوامر والتعليمات ، وقد اثبت للمسلمين – في أحد - بان إخلالهم بالأوامر التي تعطى لهم من قائدهم نتيجتها الفشل والتفتت والخسران ،وأدرك المسلمون بعدها بان تنفيذ الأوامر هو الضبط العسكري الذي يعتبر روح الجندية والسبب المباشر لكل انتصار وان ما قام به جيش المسلمين من استعراض أمام أبو سفيان يوم فتح مكة إنما هو دليل على انضباطية عالية تستخدمها الجيوش الحديثة أثناء الاستعراضات العسكرية التي تهدف من خلالها إيصال رسالة معينه إلى طرف أخر ،مما أصاب أبو سفيان بالانبهار والدهشة والذعر ودفعه للقول :"ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقه واله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما " ، والإسلام بتعاليمه العظيمة وفرائضه الجليلة التي يطبقها المسلم ،إنما هي عمليه تدريب عملي على الانضباط والطاعة والنظام ، فوقوف المسلم في الصلاة منتظم الصف خمس مرات في اليوم يجعله يشعر بالانضباط والنظام، وان أدائه لمناسك الحج هو تدريب واقعي على الطاعة والالتزام والانضباط وكذلك الحال في الصيام الذي يعتبر مدرسه عظيمة في الانضباط والطاعة والنظام .
أثبتت الحرب الحديثة والتي أصبحت تستخدم فيها الأسلحة المتطورة والطيران والقذائف والصواريخ التي ترمى من مسافات بعيدة بان الانضباط أصبح ضرورة لكل فرد بشكل مستقل وليس للجماعة مجتمعه ،وذلك لان الجندي قد يواجه موقفا صعبا بشكل منفرد يفرض عليه أن يؤدي واجبه دون أن يكون عليه رقيب أو حسيب ،وذلك لان عمليه مراقبه القائد لجنوده بشكل فردي ومباشر أصبحت صعبه بل مستحيلة ، لذا فان توليد الشعور الذاتي بالانضباط لدى الجنود دون مراقبه ، هو الأساس في بناء الحالة العقلية التي تجعل هذا الأمر غريزيا Instinctive)) .
هذا وقد اجمع علماء النفس والخبراء العسكريون بان الانضباط الذي يكون في غياب القائد وغياب الأوامر هو الانضباط الذي يجب أن يتحلى به العسكريين في الحرب الحديثة .
5. حشد القوى والاستعداد المادي:
انه من المبادئ العسكرية الهامة التي تدرس في العلوم العسكرية والتي لا يمكن لأي جيش أن ينجح في أي عمليه عسكريه مهما كان حجمها بدونة، إن حشد الإمكانيات والطاقات المتوفرة لامه سواء كانت بشريه أو اقتصاديه أو معنوية هو جماع الأمر كله في نجاح او فشل العمل الذي تنوي القوات المسلحة القيام به ،ونجاح القائد يكمن في كيفيه استخدام هذة القوى واللحظة المناسبة لاستخدامها ، وهذا ما قام به النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) منذ بدء الدعوة حيث اخذ يدعوا الناس إلى توحيد الله وجمع صفوفهم وتوحيدها وتقديم مصلحه ألامه على المصالح الفردية الخاصة ، حيث عرض الدين الجديد على اقرب الناس إليه من أهل بيته وأصدقاءه وأقاربه حيث حشد النواة الأولى لهذا الدين ، مستجيبا لنداء ربه :" وانذر عشيرتك الأقربين " ثم بدا يحشد كل الإمكانيات والطاقات المتوفرة في ألامه لخدمه أهدافها السامية –وذلك وفقا لما خوله إياه الشارع العظيم - ، وقد ضرب في ذلك أروع الأمثلة ، حيث كان المسلمون يتبرعون ويحشدون كل ما يملكون لخدمه أهداف العملية التي ينوون القيام بها ، ولكنه ( صلى الله عليه وسلم) لم يكن يستخدم منها إلا الحد الأدنى الذي يحقق الهدف بأقل الخسائر وأسرع الأوقات بعيدا عن التهور والتسرع وهذا هو أسلوب القائد العبقري الناجح المتبصر ، ولنا في فتح مكة خير مثال على ذلك ،حيث كانت كل الظروف مهيأة أمام المسلمين لتحقيق النصر العسكري الساحق على قريش، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) لم يشاء إلا أن يجعل من هذا الفتح وسيله للتأليف بين القلوب وزرع المحبة والوفاق بدل الخصام والانتقام بين الناس مما ساهم في استماله القلوب نحو الإسلام ، رغم انه حشد قوات كبيرة وكثيرة العدد يستطيع بها أن يحطم قوة قريش إلى الأبد ، وكذلك فعل (صلى الله عليه وسلم) في غزوة تبوك باستخدامه الحد الأدنى من الحشد المتوفر ، ولكن يكون النجاح بهذه الحالة باختيار الهدف الحساس المناسب الذي يسبب الشلل للعدو ويضعف قوته ، وهذا ما استخدمه النبي ( صلى الله عليه وسلم) عندما حاصر المدينة المنورة ووجد ان أسهل وأفضل وسيله لضرب الأحزاب المتعاونة ضده هو بزرع بذور الشك بينها وكذلك بتوجيه الضغوط النفسية على اليهود مما حطم كيانهم وأنهى التعاون الذي كان قائما بينهم .
وسار الصحابة عليهم رضوان الله على نفس المسار فيما يتعلق بتطبيق هذا المبدأ بعملياتهم العسكرية التي قاموا بها بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) ، حيث طبقه أبو بكر في فتح العراق وفتح الشام حيث كان يعتمد في بداية الأمر على نجوعه منتقاة من الجيش ثم يمد قادته بما يحتاجون من الرجال والعتاد حيث كان يقول لهم :" فانه ليس يأتيهم - أي الروم – مدد إلا أمددناكم بمثله او ضعفه " ، وهذا يدل دلاله لا لبس فيها على انه كان يحشد في الاحتياط الكثير من العدد والعدة ، وتوسع نظام حشد القوى وتطور في عهد عمر بن الخطاب مع تطور الدولة الاسلاميه وتوسع نشاطاتها العسكرية حيث وصلت الأمور إلى إعلان التعبئة العامة - النفير – في الدولة الاسلاميه عندما كان يستدعي الأمر ذلك. والمستعرض للتاريخ الإسلامي يجد أن كثير من قادة المسلمين استخدموا هذا المبدأ (حشد القوى ) وطبقوه خير تطبيق ،فها هو الملك المظفر وقبل معركة عين جالوت بداء بتهيئه الأمة للقتال وتجنيد كل طاقاتها وإمكانياتها المادية والمعنوية لمواجهه العدو ، حيث يذكر التاريخ أن الملك المظفر قد فرض على كل فرد من أهل مصر ذكرا كان ام أنثى دينارا واحدا واخذ من أجرة الأملاك والأوقاف شهرا واحدا ، واخذ من أغنياء الناس زكاة أموالهم مقدما،واخذ من الطبقة الغنية ثلث أموالهم واخذ على الغيطان والسواقي أجرة شهر ، ..."
6. المرونة :
طبق المسلمون في إستراتجيتهم العسكرية وبشكل واضح هذا المبدأ ، حيث كانت القيادات العليا تصدر الأوامر بشكل عام وتترك التفاصيل للقيادات الفرعية وعلى كافه المستويات ، وهذا ما كان يمنح القادة الميدانيين حرية التصرف حسب الموقف الذي يكونون فيه مما خلق جيلا من القادة البارعين الواثقين من أنفسهم القادرين على التصرف في أحلك المواقف ، وكذلك ساعد على حسن التصرف والمرونة في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، وعدم التقيد بالأوامر الحرفية للقيادات العليا والتي قد تكون بعيدة عن الموقف الميداني للمعركة ، وهذا ما جعل ألاستراتيجيه العسكرية الاسلاميه تتمتع بالكفاءة والمرونة واللامركزية ومنحها كذلك على مرونة نقل القطاعات وتغيير الجبهات حسب ما يستدعيه الموقف الراهن ، وان ما فعله خالد بن الوليد عندما نازل الروم في معركة اليرموك هو تغيير للخطة التي كان يتوقعها العدو منه ، حيث قضى على جيش الروم الأول ثم انفرد بالجيش الثاني الذي كان يهدف إلى إبادة مؤخرة جيش المسلمين ، واستخدم المسلمون أساليب مختلفة في القتال حيث استخدموا أسلوب الالتفاف والإحاطة وكذلك ضرب الاجنحه أو الأسلوب الجبهوي وكذلك أسلوب ضرب نقاط الضعف ، وكذلك استخدموا أشكالا مختلفة تنظيم القطاعات المقاتلة ، حيث استخدموا أسلوب الرتل والصفوف كما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) في معركة بدر ، حيث نظم الجيش بصفوف هو أسلوب جديد في القتال حيث تم تقسيم المقاتلين إلى صفوف أولها صف من المسلحين بالرماح تستخدم لصد الهجمات والصفوف الأخرى المتعاقبة تكون من المسلحين بالنبال التي تسدد على المهاجمين من الأعداء ،وهذا الأسلوب يؤمن سيطرة اكبر للقائد على قواته ويبقي بيد القائد قوة احتياطية يستخدمها عندما يتطلب الموقف ذلك ، ويصلح ها الأسلوب للدفاع والهجوم معا لان فيه سيطرة واحتياط ويسمح باستثمار الفوز أكثر من غيرة من الأساليب ، ولقد كان استخدام النبي(صلى الله عليه وسلم) لهذا الأسلوب في بدر دور كبير في تحقيق النصر على المشركين الذين استخدموا أسلوب الكر والفر،وقد أثبتت التجارب الحربية قديما وحديثا إن أسلوب الصفوف هو طريق مناسبة وفعاله للقتال ، أضافه إلى انه حقق عنصر المفاجأة للأعداء لأنه أسلوب جديد لم يعهدوه من قبل ، وأيضا طبق الرسول (صلى الله عليه وسلم) عند تقربه من المدينة في بدر تشكيلا جديدا في المسير لا يختلف عن التشكيل المعاصر الذي تستخدمه القوات في الحرب الحديثة ، حيث تم تقسيم القوات إلى مقدمه ومؤخرة وبقه القوة بالاضافه إلى دوريات استطلاع تسبق القوة المتقدمة وتؤمن الحماية لها من الكمائن والمصائد الغير متوقعه ، وأيضا طبق المسلمون أسلوب الكتائب والكراديس ، بالاضافه إلى استخدامهم أسلوب الحصار الاقتصادي على قريش الذي اجبرهم على الاستسلام في النهاية ، ويبدو أن المسلمين كانوا يستخدمون الأسلوب الانجح والأحدث والذي يؤمن لهم تحقيق الهدف بسهوله وبأقل تكاليف واقل خسائر .
7. المعنويات العالية :
إن الروح المعنوية وكما يعرفها علم النفس هي :" الحالة العقلية للفرد في وقت معين وتحت تأثير ظروف معينه " وقد عرفها الخبراء العسكريون بنها :" مجموعه من الأفكار والمبادئ التي تمكن الفرد من الاحتفاظ بالشجاعة والعزيمة والقدرة على تحم المصاعب والمواقف الحرجة " ، وقد اعتبروها السلاح الفعال في يد القائد في ساحة المعركة بحيث تغطي جانبا هاما فيها ، وهي كذلك السلاح الفعال والأقوى ، وهي عبارة عن عميه تغذيه المقاتل بشعور خفي تجعله لا يهاب الموت ولا يعرف المستحيل ولا تقف امامه الصعاب " .
لقد اجمع الخبراء العسكريون وعلى مدار التاريخ على أهميه المعنويات واعتبروها العنصر الأساسي والهام في كسب المعركة والانتصار على الأعداء ، هذا وقد تنبه المسلمون إلى هذا العنصر وجعلوه من أهم ما تضمنته استراتيجيه الحرب لديهم ، وقد ارتكز المسلمون في تقويه هذا العامل إلى الأيمان العميق الذي كان يحمله المقاتلون في صدورهم والى سمو الهدف ونبل الغاية التي كانوا يقاتلون من اجلها ، فاهو خالد بن الوليد يخاطب جند الروم الذين تحصنوا في قلاعهم وحصونهم المانعة فيقول لهم :" والله لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو أنزلكم ألينا " ، وكلمات عبد الله بن رواحه يوم مؤته هي دليل على معنى المعنويات وقيمتها عند المسلمين ، حيث قال :" ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثر ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به " ، وقد شهد أعداء الإسلام قبل أصدقائه بالمعنويات العالية التي كان يتمتع بها جند الإسلام فها هو ( مونتغمري ) يقول :" لم تكن أهم مميزات الجيوش الاسلاميه عبر التاريخ في تجهيزاتها وتنظيمها ولكن في معنوياتها التي كانت وليدة دينها " ، ويقول مونتغمري عن المعنويات بشكل عام وأهميتها :" إن أهم عامل في الحرب هو المعنويات وعندما تتدهور المعنويات تصبح الهزيمة حتمية "
وقد أدرك الرسول القائد أهميه المعنويات في تحقيق النصر والسيطرة على القوات حيث جسد ذلك عمليا في مواقف كثيرة أهمها : يوم احد حين صعد إلى تله مرتفعه واخذ ينادي : " إلي يا فلان ، إلي يا فلان ، أنا رسول الله " وكان ذلك بقصد إشعار الجنود بأنه معهم وبينهم يواجه المخاطر والصعاب كما يواجهون فترتفع معنوياتهم ويعودون أقوياء ، وكذلك موقفه في بدر حينما قال لأصحابه :" والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل ، فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا ادخله الله الجنة " فألهب ذلك حماس المسلمين وزاد من معنوياتهم وقوى عزيمتهم .
8. أسلوب جديد في المناورة:
استخدم الرسول القائد في قتاله مع أعدائه أساليب جديدة لم تكن معروفه بالنسبة لعدوه مما شكل مفاجأة لهم ساهمت في تقويض قوتهم وتحقيق النصر عليهم ، حيث طبق (صلى الله عليه وسلم) في بدر أسلوب القتال بالصفوف بعد أن كان عدوة قد اعتاد القتال بأسلوب الكر والفر مما وفر له مزايا كثيرة عنهم أولها المفاجأة وثانيها السيطرة على القوات ، بالاضافه إلى تامين العمق والاحتياط للقطاعات ،وهو أسلوب عصري يتفق مع أساليب القتال المعاصرة ، واستخدم أسلوب حفر الخندق حول المدينة ، وهو بذلك يطبق أسلوب التطويق التي تستعمله القوات المحاربة في العصر الحديث،وكذلك استخدم أسلوب قتال الشوارع وقتال المناطق المبنية وقتال الغابات والأحراش في غزواته المختلفة كغزوة بني النضير وبني قريضه وخيبر ، وقد سبق النبي (صلى الله عليه وسلم) بلك العلوم والفنون العسكرية الحديث التي أصبحت تدرس هذة الأساليب القتالية في مدارسها العسكرية المعاصرة ،ومارس (صلى الله عليه وسلم) مهارة عسكريه فذة وذلك بانتخاب المكان الآمن والاستراتيجي للقيادة مراعيا شروط انتخاب المقر كما هو الحال في فنون القتال الحديثة ، ومن فنون العسكرية الفذة التي طبقها النبي (صلى الله عليه وسلم) هو تقسيم الأعمال والواجبات على المقاتلين وتجلى ذلك بحفر الخندق ، واستخدم أسلوب الكتمان من خلال الرسائل المكتوبة الذي تمارسه الجيوش الحديثة ، وطبق فن اختيار ساعة الصفر ، حيث اختار الهجوم فجرا في غزوة بني المصطلق ، وهذا ما تطبقه القوات المتحاربة في العصر الحديث وذلك لأهميته ودورة الكبير في تحقيق عنصر المفاجأة للعدو .
واستخدم السلمون في قتالهم مع عدوهم أساليب مختلفة منها : ما طبق الجيش الإسلامي في فتح العراق والشام حيث استخدم مناورة خطوط العمليات التي تؤدي إلى امن الأهداف المتناوبة وكذلك القتال على الخطوط الداخلية وكلم التقدم من محاور مختلفة من اجل الاقتراب من الهدف او التقدم على خطوط غير متوقعه والظهور على الهدف من أماكن غير متوقع بالنسبة للعدو ، كما فعل خالد بن الوليد في الظهور خلف جيش الروم أثناء اشتباكه مع جيش المسلمين .
بالاضافه إلى استخدام أساليب قتاليه جديدو كذلك استخدم المسلمون أسلحة جديدة لم يعرفها العدو من قبل كالدبابات والمنجنيق وكان لذلك الأثر الكبير في تحقيق النصر .
تتداخل مبادئ الإستراتيجيه الإسلامية مع مبادئ الحرب التي طبقها النبي (صلى الله عليه وسلم) في حروبه وغزواته وذلك لان ألاستراتيجيه ما هي إلا الأساليب والطرق التي يتم من خلالها تحقي الأهداف والغايات التي تؤمن بها العقيدة القتالية للامه كما أسلفنا ، ولمزيد من الإيضاح والتفسير سنتطرق في فصل خاص لمبادئ الحرب التي طبقها النبي (صلى الله عليه وسلم) في حياته العسكرية والتي كانت عبارة عن مدرسه في الفنون والعلوم العسكرية التي تدرسها المدارس العسكرية المعاصرة وتطبقها في عملياتها القتالية ، وبذلك يكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام هم السباقون لما هو جديد ومفيد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: طشطوش، هايل عبد المولى، كتاب: أساسيات في القيادة والإدارة، النموذج الإسلامي في القيادة والإدارة، دار الكندي للنشر والتوزيع، إربد- الأردن ، الطبعة الأولى لعام 2008 .